يحكى أنه كان لرجل بائس فقير عشرة أولاد، لا يستطيع إطعامهم، لشدة فقره وبؤس حاله، وذات يوم ضاق ضيقاً شديداً، فقرر أن يقدم أحد أولاده هدية للملك، وكان ملك البلاد عقيماً، لم يرزق بولد، فاختار الرجل من أولاده أشدهم ذكاء، وأكثرهم وسامة، وكان عمره لا يزيد على العاشرة، فسار به إلى الملك، فقدمه إليه، فرحب به، وضمه إلى حاشيته، وعين له المعلمين والمربين، ثم أمر لوالده بطعام كثير، يكفيه هو وعياله أياماً.
أخذ الفتى يحضر مجلس الملك، ويقعد إلى يمينه، ويرى مناقشات الوزراء، ويشهد شكاوى الناس، ويسمع حكم الملك في ذلك كله، حتى مرت عليه شهور وأعوام.
وذات يوم أراد الملك الخروج إلى الصيد بالصقر، فطلب من وزيره أن يحضر له صقراً مدرّباً، وبعد عدة أيام أحضر له الوزير صقراً، ما إن رآه الفتى وهو يتناول بمنقاره اللحم من يد الوزير، حتى طلب من الملك ألا يخرج إلى الصيد به، فسأله عن السبب،فأخبره أن أم هذا الصقر أمه دجاجة، فأنكر ذلك الملك، ومضى إلى الصيد به مع الوزراء،ولكنه رجع خائباً،إذ لم يظفر صقره بشيء.
وفي اليوم التالي طلب الملك من الفتى أن يحدثه عن الصقر، ويوضح له كيف عرف أن أمه دجاجة؟! فأجاب الفتى بأنه رأى الصقر يلتقط قطع اللحم من كف الوزير بعد أن ينقرها كما تنقر الدجاجة الحب في الأرض، ولا يختطفها اختطافاً حاداً، كما يفعل الصقر، فاقتنع الملك بجوابه، والتفت إلى الوزير يطلب منه توضيح الأمر، فأرسل الوزير وراء الرجل الذي اشترى منه الصقر، فاعترف الرجل بأنه كان يربي صقراً، وقد وضعت أنثاه بيضة وماتت، فحار في الأمر، ثم حمل البيضة، وكانت لدى زوجته دجاجات تعنى بها، وكانت إحدى الدجاجات راقدة على البيض، فوضع بيضة الصقر تحتها، مع سائر البيض، ولما فقست، نشأ فرخ الصقر مع فراخ الدجاجة، وتعلم منها نقر قطع اللحم، ولما سمع الملك ذلك، ازداد إعجابه بالفتى.
وفي يوم آخر أراد الملك أن يتفرج على سباق الخيل، فخرج مع وزرائه إلى ميدان السباق، ويصحبه الفتى، واختار فرساً، أراد الرهان عليها، ولكن الفتى نصح له أن يختار غيرها، وأكد أن أم تلك الفرس أتان، ولكن الملك أبى إلا أن يراهن عليها، وجرى السباق، وتخلفت الفرس، وخسر الملك الرهان، فالتفت إلى الفتى يسأله كيف عرف أن أم الفرس التي خسرت أتان، فأجابه: "عرفت ذلك من رأسها، تطأطئه دائماً إلى الأرض، شأنها في ذلك شأن الأتان".
وأمر الملك بسائس الخيل، فحضر بين يديه، فسأله عن الفرس التي راهن عليها، وعن سبب خسارتها، فاعترف السائس بأن أم تلك الفرس أتان، اضطر إلى أن يسمح لها بالإنجاب من جواد لديه، في إحدى السنوات، لقلة الأفراس.
وازداد إعجاب الملك، وعزم على تبني الولد، ولكنه أجّل ذلك، وقرر أن يختبره في أمر، لا يعرفه هو نفسه، فدعاه إليه، وخلا به، ثم أخبره أن لديه ثلاث زوجات، قدمهن إليه ملوك البلاد الأخرى، وهو يريد منه أن يعرف مهنة آبائهن، فطلب منه الفتى أن يسمح له برؤيتهن وهن يدخلن عليه، ويخرجن، واحدة، بعد الأخرى.
ودعا الملك أولى زوجاته، فدخلت عليه، فطلب منها أن تستعد الليلة لاستقباله، ثم صرفها، ولما خرجت التفت إلى الفتى يسأله عن مهنة أبيها، فأجابه بأن والدها حلاق، ثم دعا الملك زوجته الثانية، فدخلت عليه، فطلب منها أن تستعد لاستقباله في ليلة غد، ثم صرفها، ولما خرجت التفت إلى الفتى يسأله عن مهنة أبيها، فأجابه بأن والدها حدّاد، ثم دعا الملك الثالثة، فدخلت عليه، فطلب منها أن تستعد لاستقباله في الليلة التالية لليلة غد، ثم صرفها، ولما خرجت التفت إلى الفتى يسأله عن مهنة أبيها، فأجاب بأنه فلاح، ثم سأله الملك كيف عرف ذلك، فأجابه الفتى: "أما الأولى فقد كانت ناعمة اليدين، وقد دخلت زكية الرائحة، تفوح منها رائحة العطور، فعرفت أن والدها حلاق، وأما الثانية فقد كانت عريضة الكتفين، ثابتة الخطو، فيها ملامح القوة، فعرفت أن والدها حدّاد، وأما الثالثة فقد كانت خشنة اليدين، سريعة الخطو، لوّحتها الشمس، فعرفت أن والدها فلاح".
وخلا الملك بعد ذلك بزوجاته واحدة واحدة، وسأل كل واحدة منهن عن مهنة أبيها، فكان جوابهن جميعاً مثل جواب الفتى، فكان والد الأولى حلاقاً، ووالد الثانية حداداً، ووالد الثالثة فلاحاً.
ودهش الملك لذلك، وثار الفضول في نفسه، فدفعه إلى سؤال الفتى عن مهنة أبيه هو نفسه، أي الملك، فطلب منه الفتى أن يمنحه الأمان، فمنحه الأمان، فأجاب على الفور بأن والده كان طباخاً، فلم يجب الملك بشيء، وأسرع على الفور إلى أمه، يسألها عن أبيه، فقالت له: "أبوك هو الملك"، فأنكر، وألح عليها أن تعترف، فاعترفت بأن زوجها الملك كان عقيماً، ولكي يحتفظ بالمُلك لنفسه، طلب منها أن تمكّن الطباخ في القصر من نفسها، ففعلت، فحملت منه، وهو والده.
ورجع الملك إلى الفتى يسأله كيف عرف أن والده طباخ، فأجاب الفتى: "عرفت ذلك من عطائك، فقد أعطيت أبي الذي أهداني إليك طعاماً له ولعياله"، وعندئذ نزل الملك عن كرسي الملك، ورفع التاج عن رأسه، ووضعه على رأس الفتى، وقال له: "أنت أولى بالعرش مني".
تعليق:
حكاية مدهشة، تؤكد ذكاء أولاد الفقراء، وأنهم أولى بالملك من الملوك أنفسهم وهي تعبر عن انتقام الطبقة الفقيرة لنفسها على الأقل من خلال حكاية مرحة.
والحكاية تقوم على ألغاز عمادها ما يدعى علم العرافة، أي معرفة أخلاق الإنسان ومزاجه وشخصيته من خلال ملامحه وطرق تصرفه.
وفي الحكاية قدر كبير من الذكاء، وهي على ما يبدو موجهة إلى الشباب، كي تعلمهم أساليب التعامل مع الواقع ومعرفة الأشخاص. وتظهر البنية الثلاثية واضحة في الحكاية.