الحلاق

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : أحمد زياد محبّك | المصدر : www.awu-dam.org

يحكى أنه كان في أحد البلاد حلاق فقير الحال، حسن الأخلاق، ورث مهنة الحلاقة عن أبيه وجده، فكان يتقنها أيما إتقان.‏

وذات يوم دخل عليه رجل غريب، فقص له شعره، وحلق له لحيته، ورش له العطور، فأعجب به الغريب، وأجزل له العطاء، وأخذ يتردد عليه كل يوم، ليحلق ذقنه، وفي كل يوم يعطيه، ويضاعف له في العطاء.‏

ودخل الغريب على الحلاق يوماً وهو يأكل، فحياه، فرد عليه، ولم يدعه إلى مشاركته في الطعام، فدهش الغريب، وسأله عن سبب عدم دعوته إياه، فأجاب بأنه لا يريد أن يكون بينهما خبز وملح، حتى لا يتحمل أحد منهما تبعة ذلك، وما يقتضيه من تضحية ووفاء، ولكن الغريب أنكر الأمر، وأكد رغبته في مشاركته الطعام، ثم أخذ يأكل معه.‏

ومرت الأيام، والصلة تزداد بين الرجلين قوة، حتى إنهما أخذا يأكلان معاً، ويمضيان معاً أوقاتاً طويلة.‏

ثم انقطع الغريب عن الحلاق يومين أو ثلاثة، فقلق وتمنى لو يعرف بيته، ليزوره، ثم دخل عليه الغريب، ذات يوم شاحب الوجه، ذاوي العود، بادي الهم، كاسف البال، فأسرع إليه الحلاق ويسأله عن حاله، فأجاب بأنه رأى في الطريق امرأة بهره جمالها، فوقع في هواها، ولا شفاء له إلا بالزواج منها، فطمأنه الحلاق، ووعده بالمساعدة، ثم سأله إن كان يعرف دارها، فأجاب الغريب أن نعم، فما كان من الحلاق إلا أن أغلق دكانه، وطلب من الغريب أن يدله على بيتها، ليسعى له في الزواج منها.‏

وسار الغريب، والحلاق يسير إزاءه، وإذا هو يتجه إلى الحي نفسه الذي يسكن هو فيه، ففرح الحلاق بذلك، واستبشر، وتمنى أن تكون المرأة ممن يعرف من الجيران، كي يستطيع التوسط لدى أهلها، ليزوجوها من صاحبه.‏

ولكن قلب الحلاق خفق فجأة، وامتقع لونه، وكاد يغشى عليه، فقد أشار الغريب إلى بيته هو نفسه، ولما سأله عن ملامح المرأة، وصفاتها، أجابه الغريب بما يؤكد أن المرأة هي زوجته نفسها، فغالب الحلاق انفعاله، ثم طمأن الغريب إلى إمكان تحقيق مرامه، ووعده بالمساعدة، ثم ودعه، ورجع إلى بيته، وقد اسودت الدنيا في عينيه.‏

ولما دخل الحلاق على زوجته، طلب منها أن تهيّئ نفسها وولديها للذهاب إلى أهلها، وعند أهلها أعلن أن الديون تراكمت عليه، وأنه لا سبيل إلى وفائها إلا بالرحيل إلى بلد آخر للعمل فيه، ثم أكد عزمه على طلاق زوجته، فدهشت لذلك زوجته، وتوسلت إليه ترجوه أن يصحبها معه، أو أن يتركها إلى أن يعود، ووعده أهلها بمساعدته، ولكنه رفض إلا الطلاق، ثم ودّع ولديه، وهما يبكيان ويتعلقان به، وخرج، وقد طلق زوجته.‏

وفي اليوم التالي باع الحلاق داره، وقرر أن يتخذ من دكانه مأوى له، يأكل فيه وينام، ولما دخل عليه الغريب، يسأله عن مساعيه، أظهر الجلد، وأجابه بأن زوج المرأة قد توفي عنها منذ مدة قريبة، ولابد من الانتظار حتى انقضاء مدة العدة.‏

وتكدر عيش الحلاق، وأصبح في أسوأ حال، شحب لونه، واصفر جلده، وعلاه الاكتئاب، ولكنه كان لا يبدي من أمره شيئاً، ولاسيما أمام صاحبه الغريب.‏

وبعد انقضاء مدة العدة مضى الحلاق إلى أهل مطلقته، وأخبرهم أنه ينصح لها بالزواج من صاحب له يعرفه، كي يضمن لها السعادة، ويكفل لولديه حسن التربية، وأخذ يزكي صاحبه، ويشيد بأخلاقه الحميدة، فدهش الأهل لسعيه، وأنكروه، ولكن ظل يحاورهم، حتى أقنعهم بالأمر كله.‏

ثم أخذ الحلاق يساعد صاحبه الغريب، ويعينه على تجهيز نفسه للزواج، فينزل معه إلى السوق لشراء الأثاث والثياب والهدايا، ولا يتردد في تقديم النصح والمشورة، وصاحبه الغريب يسأله عن الأمور كلها، ويستعين به على قضائها، إلى أن كان الزفاف، فأرسل الحلاق إلى صاحبه مع أحد الخدم هدية الزواج.‏

ومرت الأيام، والغريب هانئ بزواجه، وهو ما يفتأ يزور صاحبه كل يوم، ليعرب له عن سروره بالزواج، واطمئنانه إلى زوجته، وسعادته بها، ويشكر له مساعيه، والحلاق يتميز قهراً وألماً، ولكنه يكظم ما بنفسه ويكتمه.‏

وذات يوم دخل الغريب على الحلاق ليخبره بعزمه على الرحيل إلى بلاده، واصطحابه زوجته وولديها من الزوج السابق، ثم كرر شكره له على مساعيه، ودعاه إلى زيارته في بلده، وودعه، فعانقه الحلاق، والدموع تتفجر من مآقيه.‏

وفي اليوم التالي لمغادرة الغريب البلد، باع الحلاق دكانه، وأدوات الحلاقة، وقرر أن يسوح في البلاد، فقد عز عليه المقام.‏

وأخذ الحلاق ينتقل من بلد إلى بلد، ضائق النفس، كاسف البال، شارد اللب، لا يلوى على شيء، ليله حزن، ونهاره اكتئاب، حتى بلغ بلد صاحبه الغريب، فقصد إليه، فوجده في محل للتجارة، وهو في أفخم حال، وأبهى مظهر، فرحب به صاحبه خير ترحيب، وتعجب لحاله، ثم دعاه إلى منزله فاعتذر، ووعده أن يزوره كل يوم في متجره، وعرض عليه مبلغاً من المال يساعده به، فأبى أن يأخذ شيئاً.‏

وأخذ الحلاق يتردد كل يوم على متجر صاحبه، يقعد عنده ساعة أو بعض الساعة، ثم يمضي ليتوه في دروب البلدة، مشرد الخطا، تائه الفكر.‏

وذات يوم، وهو قاعد مع صاحبه في متجره، دخل ولدان إلى المتجر، ما إن لمحاه، حتى أسرعا إليه، وهما يهتفان: "بابا، بابا"، وارتميا في حجره، وحاول الحلاق أن يشيح عنهما بوجهه، ولكن عاطفة الأبوة غلبته، فعانقهما وهو يبكي.‏

وبهت الغريب لما رأى، فسأل صاحبه الحلاق تفسير ذلك، فلم يجب بشيء، ونهض يهم بالانصراف، ولكن صاحبه أقسم عليه إلا أن يطلعه على حقيقة الأمر، فروى له الحكاية من أولها إلى آخرها.‏

ودهش الغريب لما سمع من الحلاق، ثم اعتذر إليه، وأسف لما كان منه، وآلى عليه إلا أن يصحبه إلى بيته، وهناك عرض عليه الزواج من أخته، فوافق.‏

وخلال أيام، تم زواج الحلاق من أخت صاحبه الغريب، وقد اشترى له داراً، ورد عليه ولديه، وأوصى أخته بهما خيراً، وجعله شريكاً في متجره، وتنازل له عن نصف أمواله.‏

ولكن الحلاق لم يكن له طمع في شيء من المال، وقد اطمأنت نفسه بعض الاطمئنان إلى ما صار إليه، فرأى أن يعود إلى بلده، فحمل زوجته وولديه، وودع صاحبه، ورجع إلى بلده، واشترى لنفسه دكاناً فيه، وعاد إلى عمله القديم.‏

تعليق:‏

تقدم هذه الحكاية مثلاً عجيباً للصداقة والتضحية فيه قدر كبير من المبالغة، وليس ثمة قيمة عليا وراء ذلك كله، سوى محض الصداقة والتضحية وكأن ذلك الرجل الذي حل على الحلاق ضيفاً ليس سوى القدر.‏

وكل ما تفعله الحكاية هو إثارة الشعور بالحزن والإحساس بالألم لتضحية الحلاق الكبيرة، وما تحمله من مكابدة وتشرد وعناء، وهو حزن لا يهذب طبعاً، بل يكاد يجعل المرء ينفر من ذلك الشكل من أشكال الصداقة والتضحية.‏

وعلى الرغم من انتهاء الحكاية بشيء من السعادة، وذلك بزواج الحلاق من أخت صديقه، فهي غير مقنعة، ولا تعوض الحزن السابق، ولا تجزي عن التضحية الكبيرة التي قدمها الحلاق.‏

وفي الحالات كلها تظهر المرأة لا حول لها ولا طول ولا قرار ولا رأي، بل لا تكاد تظهر، وإنما يطلقها هذا ويتزوجها ذلك، لمجرد أن هذا قد رآها فأحبّها، وهي لا تدري من أمره شيئاً.‏

ويبدو الهدف من الحكاية غائماً، ولا يعقل أن يكون تمجيد الصداقة أو التضحية، بل لعله إدانة الحب الذي قاده على مثل تلك المواقف.‏

والحكاية تقوم على عنصر المصادفة المتمثل في حب الضيف زوجة صديقه الحلاق من غير أن يعرف، وهو عنصر يضعف من بناء الحكاية، كما يضعف من قوتها أيضاً كتمان الحلاق مشاعره، وتضحيته الكبيرة لأجل صديقه.‏