الحكاية الشعبية هي أحدوثة يسردها راوية في جماعة من المتلقين، وهو يحفظها مشافهة عن راوية آخر، ولكنه يؤديها بلغته، غير متقيد بألفاظ الحكاية، وإن كان يتقيد بشخصياتها وحوادثها، ومجمل بنائها العام. وغالباً ماترويها العجائز لأحفادهن، في ليالي الشتاء الطويلة، قبل الذهاب للنوم، وقد يرويها غير العجائز، في مواقف تقتضيها، للعظة والاعتبار وضرب المثل، ولكن الحكاية لا تسرد على الأغلب إلا ليلاً، في جو يتم التهيؤ له، فالجدة تقعد على حشيّة، ويقعد الأولاد أمامها في استعداد للتلقي. وتلقى الحكاية بلغة خاصة متميزة، ليست لغة الحديث العادي، مما يمنحها قدة على الإيحاء والتأثير، وغالباً مايكون الإلقاء مصحوباً بتلوين صوتي، يناسب المواقف والشخصيات، وبإشارات من اليدين والعينين والرأس، فيها قدر من التمثيل والتقليد. ويتم التلقي بإصغاء حاد، قد يتخلله الضحك، أو الفزع، كما يقتضي الموقف، ولكن في تقدير واحترام، وتصديق واندهاش، ومن غير مقاطعة. وغالباً ماتسبق الحكاية بمدخل، يدعى "الدهليز" وهو حكاية قصيرة جداً، ذات فكرة هزلية، سخيفة ضاحكة، يلقى بلغة محفوظة، مسجوعة أو منظومة، ولا علاقة له بالحكاية التي تلقى بعده. ومن أمثلة ذلك، الدهليز التالي: "طلعت والدنيا دغشة، لأعلق للتبن جحشة لقيت على غفلة قدامي، الحيط ينقب الحرامي، لا حني ولحته، من عزمي وقعت تحته، شوفوا رقبتي، ما أحمرها، من الكفّ اللي سلخته". * ولكل حكاية اسم، هو عنوانها، ويستمد من عنصر بارز فيها، من الشخصيات أو الحوادث، وهو اسم ثابت، قليلاً ما يتغير، وبعض العنوانات تطلق على عدة حكايات، مثل حكاية "الأخوات الثلاث". وتبدأ الحكاية ببداية ثابتة محفوظة، مثل:"كان ياماكان، ياقديم يازمان، نحكي إلا ننام، إلا نصلي على محمد بدر التمام، كان في قديم الزمان....". وكثيراً مايتم في الحكاية القطع، بالوقوف في موضع من الحكاية، والعودة إلى الوراء لسرد حديث عن شخصية، أو حادثة، يدعي الراوي أنه نسي سردها، بقولهن: "فاتني أن أحكي لكم..."، وإن كان يعمد إلى مثل ذلك، على الأغلب، لأن الحكاية مبنية على القطع، الذي يمكن أن يصطلح عليه في الحكاية الشعبية بالفوت. وقد يخلط الراوي حكاية بحكاية، فيضع نهاية حكاية ما، موضع حكايته التي يرويها، أو قد تقترب الحكاية من نهايتها، فيشعر بحاجة المتلقين إلى سماع المزيد، فيصل حكاية بحكاية، وغالباً مايتنبه المستمعون إلى ذلك، فيقال عن الرواية عندئذٍ بأنه قد "وصل الحبل بالحبل". وأحياناً يبتسر الراوية الحكاية، فيقفز سريعاً إلى نهايتها، لأنه يجد لدى المتلقين، مايحمله على مثل ذلك الابتسار، من ملل أونعاس. وأحياناً أخرى يشرك الراوية المتلقين في حوادث الحكاية، وشخصياتها، فيخرج عن السرد ويفاجئ المتلقين، فيشبه أحدهم بإحدى الشخصيات، أو يدخله في الحكاية، ويعطيه دوراً فيها، على سبيل المزاح. وتختتم الحكاية بخاتمة محفوظة وثابتة، مثل قول الراوية:"توتة توتة، خلصت الحدوتة"، ثم يلتفت إلى المتلقين فيسألهم: "مليحة إلا مفلوتة؟!"، أي" هل الحكاية جيدة أم هل هي سيئة!"، فيجاب بقول المتلقين:"مليحة، يسلم تمك"، أي" جيدة، حفظ الله فمك". * والحكاية تقدم قصة ذات بداية ونهاية، متكاملة، وتمتاز بالتماسك وقوة الحبك والبناء، وهي تعتمد على حوادث كبيرة فاصلة، وغالباً ماتكون غريبة ونادرة، وهي حوادث كثيرة وكبيرة، وليس فيها شيء من الوقوف على الحوادث الصغيرة والتفصيلات، أو شيء من الاهتمام بالمواقف النفسية والانفعالات. والحكاية تمتد طويلاً في الزمان، وتشغل حيزاً كبيراً في المكان، فتتغير فيها المواضع، وتتبدل العهود، ولا تنتهي الحوادث حتى يستقر كل شيء، وتتحقق الاحتمالات والتوقعات كافة، وينال كل ذي حق حقه، بما يرضي الجميع، ولذلك غالباً ماتكون النهاية هي الموت، بعد السعادة والاستقرار، فيقال في الختام عن شخصيات الحكاية: "وعاشوا في ثبات وتبات، وأنجبوا البنين والبنات، حتى أتاهم هادم الملذات، ومفرق الجماعات، فنقلهم من وسيع القصور، إلى ضيق القبور، فسبحان الحي الذي لا يموت". وعلى الأغلب لا يحدد الزمان، ولا المكان، فالزمان هو "قديم الزمان، وسالف العصر والأوان". والمكان هو "بلد من بلاد الله الواسعة"، وقد يحددان تحديداً عاماً، كبغداد، مثلاً، أيام هارون الرشيد، وقد يشبهان بالزمن الحاضر، وبالمدينة التي تلقى فيها الحكاية، على سبيل التقريب والتوضيح، أو ضرب المثل. ويتم تجاوز الأبعاد الزمانية والمكانية في سرعة كبيرة، من غير مبالاة بالعقبات والصعاب، فالأيام تمر كالظلال، حتى قبل أن تعد، فيقال: "عدوا البيض في المقلاة، ولا تعدوا أيام الحبلى"، دلالة على سرعة مرّ الأيام، والبلاد تطوى طيّ البساط، والركبان"، تحملهم بلاد، وتحط بهم بلادّ، حتى يبلغوا البلد المقصود. والشخصيات في الحكاية واضحة مجددة، وهي على الأغلب شخصيات نمطية، تتحدد بموقعها في الأسرة، أو بمكانتها في المجتمع، كالأب والابن والزوج والكنّة والحماة، أو كالملك والوزير والتاجر والسياف والخادم والفقير، ولا توصف الشخصيات، ولا تحدد ملامحها الجسمانية أو النفسية، إلا إذا كان فيها عيب، من عور أو عرج أو قصر، مثلاً، أو بخل أو جبن أو خبل، وغالباً ما يكتفى بصفة واحدة، تتحدد بها الشخصية. وعادة ماتوجد شخصية محورية، أو شخصيتان، وتوجد من حولها شخصيات ثانوية كثيرة، وإذا كانت الشخصيات الثانوية ثابتة ومسطحة، فإن أغلب الشخصيات المحورية نامية ومتطورة. وتقدم الحكايات أنواعاً كثيرة من الشخصيات، في غنى وتنوع كبيرين، فهي تقدم الأب المغرور والأم العطوف، وزوجة الأب الظالمة، والابنة الوفية، والأخت المشفقة، والأخ الغادر، والزوجة اللعوب، والصديق الوفي، والجار الغني، والكنة التي تكيد لحماتها، والحماة التي تبغض كنتها، كما تقدم الملك الجائر الظلوم، والسلطان العادل الحكيم، والوزير الذكي الماكر، والنديم الوفي المخلص، وابن الملك الذي يهوى ابنة الوزير، وبنت الملك التي يهواها شحاذ فقير. وهي تقدم تلك الشخصيات، وغيرها، في توازن وانسجام غريبين، هو توازن الحياة وانسجامها، على الرغم مما يبدو فيها، في الظاهر، من تعدد وتناقض واختلاف. ويلاحظ أن الحكايات تقدم غالباً الشخصيات القلقة المضطربة، ولكنها تنتهي إلى الخلاص مما هي فيه، والتحول إلى الأفضل. ومن ذلك حكاية الملك المغرور، الذي سأل بناته الثلاث أن تصف كل واحدة منهن حبها له، فتملقت اثنتان منهن غروره، فرضي عنهما، وزوجهما من وزيرين من وزرائه، وأبت الثالثة أن تتملقه فغضب عليها، وزوجها من فقير، يعمل وقاداً في حمام، فصبرت على الفقر والذل والهوان، ثم ساعدتها الجن، فاغتنت هي وزوجها، وابتنت قصراً، ودعت إليه والدها، فتعرف إليها ورجع عما كان فيه من غرور. وتقدم الحكايات الشعبية شخصيات غير بشرية كثيرة، ذات دور فريد ومتميز، وغالباً ماتكون وفية للإنسان، مخلصة له، تساعده على الخلاص، حين لا يجد المساعدة عند البشر. ومن تلك الشخصيات السمكة التي تقدم الرزق الوفير للصياد، على شرط أن يطلقها من الشبكة، ويعيدها إلى البحر، والأفعى التي تقدم العون والخير لمن يعينها ويساعدها، والطائر الذي يقدم نفسه للإنسان، كي يذبحه ويصنع من دمه وريشه ولحمه مرهماً يشفي الجراح. كما تقدم الحكايات الشعبية شخصيات بشرية مسخت بفعل السحر وحولت إلى حيوان أو نبات أو جماد، ولا تنتهي الحكاية، حتى يعود المسخ إلى ماكان عليه، في وضع أكرم من قبل، وأفضل ولكن بعد معاناة. ومن تلك الشخصيات ابن السلطان الذي مسخ طائراً أو حصاناً، والأخ الذي مسخ غزالاً، والأخت التي مسخت هرة، والأخوة الذين مسخوا شجرات، وأهل البلدة الذين مسخوا حجارة. كما تقدم الحكايات الشعبية شخصيات أخرى غريبة، كالغول والعفريت والمارد والجني، وأكثرها يخدم الإنسان، ويساعده. وتعتمد الحكايات الشعبية على كثير من الأدوات والوسائل التي تحدث في الحكاية تغيراً، تقوم عليه نهايتها، من ذلك كرة الخيطان التي تتدحرج فتدل من يتبعها على موضع يطلبه، وعود الثقاب الذي يحضر باشتعاله جني؛ يخدم من أشعله، والخاتم الذي يوضع في صحن الطعام، فيتعرف بوساطته الأب إلى ابنته، أو الحبيب إلى حبيبته، بعد فرقة طويلة وغياب. ومثل تلك الأدوات والوسائل، وغيرها من الجزئيات الثابتة، تتكرر في كثير من الحكايات، تكرار غريباً، فيه كثير من الإقناع والإدهاش، على الرغم من تكراره، وهو مايمنح الحكايات جميعاً، وحدة متماسكة، وطابعاً خاصاً، هو إحدى ميزاتها. وتظهر في الحكايات جمل وتعابير جاهزة محفوظة، هي كالمرتكزات، يستعين بها الراوية في السرد، وأغلبها جمل وصفية، تصلح في مواضع مختلفة، منها وصف الأرض المنقطعة بالجملة التالية: " أرض لا طير فيها يطير، ولا وحش فيها يسير". وتتضمن كثير من الحكايات أمثلة وحكماً ومواعظ ومواويل، وبعضها بني خاصة على تلك المواد، وبعضها الآخر يحشد منها حشداً هائلاً. * ويمكن تمييز أنواع كثيرة في الحكايات الشعبية، بحسب موضوعها، أو طولها، أو بنائها، أو غايتها، كالحكايات الدينية، وحكايات الجن والعفاريت، وحكايات السحر والخوارق، وحكايات الانتقاد الاجتماعي، وحكايات الحيوان، وحكايات العظة والاعتبار، وحكايات الفكاهة والتندر، وكالحكايات الطويلة، والحكايات القصيرة، والحكايات القصيرة جداً، وكالحكايات ذات القصة الواحدة، وهي كثيرة، والحكايات ذات القصتين، أو الأكثر من ذلك، متداخلة، أو متفرعة، أو متلاحقة، وكالحكايات الخاصة بالأطفال، وحكايات الكبار. وهي أنواع كثيرة، بعضها يتداخل في بعض، وكثير من الحكايات يمكن تصنيفها في أكثر من نوع، ولذلك يبدو التصنيف أمراً لا يخلو من تعسف. والحكايات عامة شائقة، ليس للأطفال فحسب، بل للكبار أيضاً، وحكايات الصغار نفسها تعبر عن الكبار، وتتضمن تجاربهم، وتحمل خلاصة خبرتهم. ومن الحكايات الخاصة بالأطفال، والتي تعبر عن أحاسيس الكبار وانفعالاتهم حكاية "أنف القاضي"، وهي تتحدث عن بنت صغيرة، عثرت بفلس صغير، فاشترت به دبساً، وضعته في صحنها الصغير، ثم زارتها الذبابة، تطلب منها أن تعيرها غربالاً، فدلتها على موضعه في مطبخها الصغير، وماكان من الذبابة إلا أن لعقت الدبس، حين رأته في الصحن، وتركت بدلاً منه القذر، وشكت البنت الصغيرة أمرها إلى القاضي، فسخر منها، لصغرها، وصغر بيتها وأدواتها، ثم قال لها: "حيثما رأيت الذبابة، فاقتليها إذا استطعت"، وحطت ذبابة على أنف القاضي، فخلعت البنت الصغيرة نعلها ، وضربت به الذبابة. ولئن دلت الحكاية على شيء فهي تدل على إحساس الضعيف بضعفه، وعدم توقعه من القضاء أن ينصفه، وأنه ليس له إلا أن ينتصف لنفسه بنفسه، وقد تم التعبير عن الإحساس بالضعف بالرمز إليه بالصغر في الجسم والمسكن والأدوات. * وكثير من الحكايات تعبر عن قضايا في الواقع يعاني منها الفقراء والمحرومون، وتحمل توقهم إلى العدل والحرية والرخاء، ولكن لا يتحقق لهم ذلك في الحكاية إلا بالمعجزات والخوارق، مما يدل على إحساسهم باستحالة الوصول إلى العدل والحرية والرخاء في الواقع، وهو مايجعل للحكاية دوراً في خلاصهم مما هم فيه من ضيق ومعاناة، فكأن الحكاية حلم، يتحقق فيه مالا يمكن أن يتحقق في الواقع، والحكاية بذلك تخفف من الإحساس بالظلم والقهر، ولا تنسّي شيئاً من ذلك الإحساس، ولا تشير إلى شيء من محاولة الرفض والتغيير، وأكثر الحكايات تقوم على موقف سلبي، عماده الصبر والانتظار، والتعلق بالآمال والأحلام، والتي تتحقق أخيراً من غير كدح ولا عناء، ولا سعي إلى التغيير، وإنما بالمصادفة، والمعجزات. ومن الحكايات التي تمثل ذلك حكاية (عمود الذهب) وهي تتحدث عن امرأة تلح على زوجها الفقير أن يشتري لها الحلي والأساور والعقود الذهبية، كي تتحلى بها، كما تتحلى زوجات الأغنياء، ويعدها الزوج عدة مرات أن يشتري لها ماتريد، ولكنه لا يفي بوعده، لأنه لايستطيع، لفقره، ثم يعدها أن يشتري بدلاً من ذلك داراً، ويتحقق الوعد، إذ تعرض في السوق دار تسكنها الجن، ويمكن من يريد شراءها أن يسكنها سبعة أيام، ليجربها، ويقرر بعد ذلك، شراءها، أوتركها، وينقل الزوج الفقير زوجته وأولاده إلى تلك الدار، وتنعم الزوجة برحابة الدار، وجمالها، وبما فيها من أثاث ورياش وفراش، وفي نهاية الأيام السبعة، يدعوها الزوج إلى العودة إلى الدار القديمة، ولكن الزوجة تدعوه إلى كنز في الدار، تمكنت بجرأتها ورباطة جأشها من هزيمة الجني الذي يرصده فأصبح الكنز ملكها، وتحققت لها الأحلام كلها. وتعبر الحكايات عامة عن فلسفة بسيطة، لا تعقيد فيها، ولا عمق، هي فهم الإنسان للحياة فهماً أولياً، في أثناء بحثه عن التلاؤم مع الواقع، ورغبته في تحقيق الراحة والاستقرار، وهي فلسفة توسطية، عمادها اعتبار الفضيلة وسطاً بين رذيلتين، مع ميل إلى القبول والرضى والمصالحة، والاقتناع بالبساطة والكفاف، وهي فلسفة لا تخلو من ذكاء وتألق، وتمتاز بالبساطة، والقدرة على التأثير. * ولا يعرف واضح الحكاية الأول كما لايعرف راويها الأول، إذ أنها لا تلقى شيئاً من التوثيق في الرواة، وإذا ما ذكر أحد منهم، فغالباً مايذكر الراوية الأخير، الذي هو أحد أفراد الأسرة ولاسيما الجدة. وتحمل بعض الحكايات طابع بيئتها وملامحها، فمن الممكن أن يلاحظ في بعض الحكايات، مثلاً، البحر والبحارة والسفن، وفي حكايات أخرى الأسواق والتجار والبضائع، مما يوحي بإمكان نسبة حكاية ما إلى بيئة ما، ولكن لا يمكن في الواقع الجزم بتلك النسبة، كما لا يمكن تخصيص نوع من الحكايات ببيئة ما، فالحكايات سريعة الانتشار، سهلة التناقل. وكثيراً ماتروى حكاية في بلد ما، وتشبهها شبهاً كبيراً حكاية أخرى، تروى في بلد آخر، وبين البلدين بعد كبير، واختلاف في اللغة والثقافة، وقد يفسر ذلك التشابه بوحدة التجربة الإنسانية. ومن ذلك حكاية الملك المغرور الذي تمت الإشارة إليها من قبل، فهي تشبه شبهاً كبيراً مسرحية (الملك لير) لمؤلفها (وليم شكسبير)، وهي مبنية على حكاية شعبية. ومن ذلك أيضاً حكاية رواها الأخوان (غريم) تتحدث عن امرأة عاقر، كانت تعيش هانئة مع زوجها، وتمنت ذات يوم أن ترزق ولداً، ولو كان بطول الإصبع الواحدة، ورزقت بمثل ذلك الولد، وأخذ يعمل مع والده في الحقل، وهو بذلك الطول، وذات يوم اشتراه من والده -عنوة- رجلان شريران، ولكن الولد هرب منهما، وضاع في سنابل القمح، ورعته بقرة، وصار في جوفها، ثم ذبحت البقرة، وألقيت أحشاؤها على المزابل، والتهم ذئب الأحشاء، والولد في داخلها، فأخذ يحدث الذئب عن بيت المؤونة، في مسكن أبويه، ويغريه بدخوله، وطمع الذئب، فدخل بيت المؤونة، وتناول كثيراً من الطعام، حتى أصبح لا يستطيع الحركة، وعندئذٍ أخذ الولد ينادي أبويه، وهو في بطن الذئب، فحضر الأبوان، فقتلا الذئب، وخلصا الولد. وتشبهها حكاية تتحدث عن امرأة عاقر، تمنت الأمنية نفسها، في ظروف مشابهة، ورزقت بمثل ذلك الولد، وأخذ يعمل مع والده في الحقل، وذات يوم كان والده يحرث فيه الحقل، وهو يسير إلى جانبه، انقلب عليه التراب الذي يشقه سن المحراث، ومات تحته. * إن الحكاية الشعبية تسعى دائماً إلى تحقيق الشمول الكلي، بالتعبير عن جوهر التجربة الإنسانية، منطلقة من الخاص إلى العام، غير متخلية عن تفرد التجربة، مستعينة إلى ذلك بالحدث الكبير الفاصل، وبالشخصية النمطية المحددة، وبالفكرة الواضحة، وبالتعبير العفوي البسيط، مما يتيح لها سهولة السيرورة والانتقال، فإذا هي تعبير عن تجربة عامة شائعة شاملة، تحمل وجدان الجماعة، وتمثل روحها، وأحاسيسها وانفعالاتها، وإذا كل رواية لها هي تعبير فرديّ جديد، يكسب الحكاية وهج الانفعال، وحدة الشعور، وقوة التعبير. إن الحكاية الشعبية تفي وفاءً كبيراً بحاجة الإنسان إلى التعبير عن نفسه، بحكاية تجربته، ومنحها شكلاً فنياً، ذا استقلال يعادل التجربة، ويوازيها، ويحمل إمكانات إقناع الآخرين، والتأثير فيهم. * وتبدو الحكاية الشعبية مرتبطة بأشكال التعبير الشفوي في المجتمع، وقد أخذت مثل تلك الأشكال تفقد مكانتها في العصر الحديث، بسبب انتشار أشكال تعبير جديدة، تعتمد الكلمة المكتوبة، والصورة المتحركة، وتمثلها الصحف ووسائل الإعلام، التي أخذت تحل محل أشكال التعبير الشفوي. ولكن على الرغم من ذلك كله تظل الحكاية الشعبية محتفظة بإمكانات كبيرة، تساعد على التعبير عن الوجدان الجماعي، تحمل هموم الناس، وتزودهم بخبرات وتجارب وثقافات، تمس وجدان الفرد، وتنتمي إلى ذاته، وترتبط بها، لتمنحه الإحساس بالانتماء إلى الجماعة، والانسجام معها، وهو غاية ماتسعى إليه فنون القول. ولقد غدت الحكاية الشعبية مادة أولية، تستثمرها كثير من الأشكال والأنواع الأدبية والفنية، تستلهمها، وتبنى عليها، أغنيات ومسرحيات وروايات وتمثيليات وبرامج شتى. والحكايات الشعبية غنية بعد ذلك بما يخدم الباحثين في المجالات الإنسانية والتراثية والأدبية والفنية. * ولقد جمع المختصون في الغرب، منذ القرن الماضي، من الحكايات الشعبية، مايملأ عشرات المجلدات. لم يتنبه العرب إلى أهمية الحكايات الشعبية، وضرورة حفظها، إلا بعد منتصف هذا القرن، فأخذت تظهر مجموعات تسجل الحكايات الشعبية في أجزاء مختلفة من أقطار الوطن العربي، وإن كانت حركة الجمع ماتزال تسير بطيئة مترددة. والإشكال الذي يواجهه جامع الحكايات الشعبية في الوطن العربي هو اللهجات المحلية، ويمكن تجاوز مثل ذلك الإشكال بتدوين الحكاية باللغة الفصحى، ولكن من غير إجراء تعديل في بنائها وتركيبها العام، والحفاظ ما أمكن ذلك، على أسلوب الجملة فيها، وهو مايعمد إليه بعض الذين تصدوا لجمع الحكايات الشعبية. * وإن كثيراً من الحكايات الشعبية متشابهة، بل متماثلة، في أجزاء من أقطار الوطن العربي، وليس فيها إلا اختلاف في جزئيات ثانوية، نتيجة لتقادم الزمان، وتعدد الرواة، وهو مايطرأ على الحكاية الواحدة، في المكان الواحد. ومثل ذلك التشابه لا يرجع إلى تشابه الحكايات الشعبية في مواضع مختلفة من العالم، فحسب، بل يرجع أيضاً إلى وحدة الحكاية الشعبية في الوطن العربي، وهي وحدة يمكن تلمسها في عدد غير قليل من الحكايات الشعبية المتشابهة، على الرغم من قلة ماجمع من حكايات شعبية في الوطن العربي، وحيت يتم جمع عدد أكبر من تلك الحكايات، يمكن عندئذٍ تأكيد تلك الوحدة، وتوثيقها، وإبراز سماتها العامة. وتتضح أهمية الحكاية الشعبية، وهي جزء من التراث الشعبي، حين يذكر المرء محاولات العدو الصهيوني طمس التراث الشعبي في فلسطين، لأن في ذلك التراث برهاناً على أصالة الشعب العربي في فلسطين. * ومن ذلك كله تتأكد ضرورة تسجيل الحكايات الشعبية، وحفظها، قبل أن تنسى وتندثر، فيضيع بضياعها تراث لا يمكن تعويضه، هو التراث الذي يحمل ملامح الشعب، ويعبر عن همومه ويمثل وجدانه العام
الحكاية الشعبية هي أحدوثة يسردها راوية في جماعة من المتلقين، وهو يحفظها مشافهة عن راوية آخر، ولكنه يؤديها بلغته، غير متقيد بألفاظ الحكاية، وإن كان يتقيد بشخصياتها وحوادثها، ومجمل بنائها العام.
وغالباً ماترويها العجائز لأحفادهن، في ليالي الشتاء الطويلة، قبل الذهاب للنوم، وقد يرويها غير العجائز، في مواقف تقتضيها، للعظة والاعتبار وضرب المثل، ولكن الحكاية لا تسرد على الأغلب إلا ليلاً، في جو يتم التهيؤ له، فالجدة تقعد على حشيّة، ويقعد الأولاد أمامها في استعداد للتلقي.
وتلقى الحكاية بلغة خاصة متميزة، ليست لغة الحديث العادي، مما يمنحها قدة على الإيحاء والتأثير، وغالباً مايكون الإلقاء مصحوباً بتلوين صوتي، يناسب المواقف والشخصيات، وبإشارات من اليدين والعينين والرأس، فيها قدر من التمثيل والتقليد.
ويتم التلقي بإصغاء حاد، قد يتخلله الضحك، أو الفزع، كما يقتضي الموقف، ولكن في تقدير واحترام، وتصديق واندهاش، ومن غير مقاطعة.
وغالباً ماتسبق الحكاية بمدخل، يدعى "الدهليز" وهو حكاية قصيرة جداً، ذات فكرة هزلية، سخيفة ضاحكة، يلقى بلغة محفوظة، مسجوعة أو منظومة، ولا علاقة له بالحكاية التي تلقى بعده.
ومن أمثلة ذلك، الدهليز التالي: "طلعت والدنيا دغشة، لأعلق للتبن جحشة لقيت على غفلة قدامي، الحيط ينقب الحرامي، لا حني ولحته، من عزمي وقعت تحته، شوفوا رقبتي، ما أحمرها، من الكفّ اللي سلخته".
*
ولكل حكاية اسم، هو عنوانها، ويستمد من عنصر بارز فيها، من الشخصيات أو الحوادث، وهو اسم ثابت، قليلاً ما يتغير، وبعض العنوانات تطلق على عدة حكايات، مثل حكاية "الأخوات الثلاث".
وتبدأ الحكاية ببداية ثابتة محفوظة، مثل:"كان ياماكان، ياقديم يازمان، نحكي إلا ننام، إلا نصلي على محمد بدر التمام، كان في قديم الزمان....".
وكثيراً مايتم في الحكاية القطع، بالوقوف في موضع من الحكاية، والعودة إلى الوراء لسرد حديث عن شخصية، أو حادثة، يدعي الراوي أنه نسي سردها، بقولهن: "فاتني أن أحكي لكم..."، وإن كان يعمد إلى مثل ذلك، على الأغلب، لأن الحكاية مبنية على القطع، الذي يمكن أن يصطلح عليه في الحكاية الشعبية بالفوت.
وقد يخلط الراوي حكاية بحكاية، فيضع نهاية حكاية ما، موضع حكايته التي يرويها، أو قد تقترب الحكاية من نهايتها، فيشعر بحاجة المتلقين إلى سماع المزيد، فيصل حكاية بحكاية، وغالباً مايتنبه المستمعون إلى ذلك، فيقال عن الرواية عندئذٍ بأنه قد "وصل الحبل بالحبل".
وأحياناً يبتسر الراوية الحكاية، فيقفز سريعاً إلى نهايتها، لأنه يجد لدى المتلقين، مايحمله على مثل ذلك الابتسار، من ملل أونعاس.
وأحياناً أخرى يشرك الراوية المتلقين في حوادث الحكاية، وشخصياتها، فيخرج عن السرد ويفاجئ المتلقين، فيشبه أحدهم بإحدى الشخصيات، أو يدخله في الحكاية، ويعطيه دوراً فيها، على سبيل المزاح.
وتختتم الحكاية بخاتمة محفوظة وثابتة، مثل قول الراوية:"توتة توتة، خلصت الحدوتة"، ثم يلتفت إلى المتلقين فيسألهم: "مليحة إلا مفلوتة؟!"، أي" هل الحكاية جيدة أم هل هي سيئة!"، فيجاب بقول المتلقين:"مليحة، يسلم تمك"، أي" جيدة، حفظ الله فمك".
والحكاية تقدم قصة ذات بداية ونهاية، متكاملة، وتمتاز بالتماسك وقوة الحبك والبناء، وهي تعتمد على حوادث كبيرة فاصلة، وغالباً ماتكون غريبة ونادرة، وهي حوادث كثيرة وكبيرة، وليس فيها شيء من الوقوف على الحوادث الصغيرة والتفصيلات، أو شيء من الاهتمام بالمواقف النفسية والانفعالات.
والحكاية تمتد طويلاً في الزمان، وتشغل حيزاً كبيراً في المكان، فتتغير فيها المواضع، وتتبدل العهود، ولا تنتهي الحوادث حتى يستقر كل شيء، وتتحقق الاحتمالات والتوقعات كافة، وينال كل ذي حق حقه، بما يرضي الجميع، ولذلك غالباً ماتكون النهاية هي الموت، بعد السعادة والاستقرار، فيقال في الختام عن شخصيات الحكاية: "وعاشوا في ثبات وتبات، وأنجبوا البنين والبنات، حتى أتاهم هادم الملذات، ومفرق الجماعات، فنقلهم من وسيع القصور، إلى ضيق القبور، فسبحان الحي الذي لا يموت".
وعلى الأغلب لا يحدد الزمان، ولا المكان، فالزمان هو "قديم الزمان، وسالف العصر والأوان". والمكان هو "بلد من بلاد الله الواسعة"، وقد يحددان تحديداً عاماً، كبغداد، مثلاً، أيام هارون الرشيد، وقد يشبهان بالزمن الحاضر، وبالمدينة التي تلقى فيها الحكاية، على سبيل التقريب والتوضيح، أو ضرب المثل.
ويتم تجاوز الأبعاد الزمانية والمكانية في سرعة كبيرة، من غير مبالاة بالعقبات والصعاب، فالأيام تمر كالظلال، حتى قبل أن تعد، فيقال: "عدوا البيض في المقلاة، ولا تعدوا أيام الحبلى"، دلالة على سرعة مرّ الأيام، والبلاد تطوى طيّ البساط، والركبان"، تحملهم بلاد، وتحط بهم بلادّ، حتى يبلغوا البلد المقصود.
والشخصيات في الحكاية واضحة مجددة، وهي على الأغلب شخصيات نمطية، تتحدد بموقعها في الأسرة، أو بمكانتها في المجتمع، كالأب والابن والزوج والكنّة والحماة، أو كالملك والوزير والتاجر والسياف والخادم والفقير، ولا توصف الشخصيات، ولا تحدد ملامحها الجسمانية أو النفسية، إلا إذا كان فيها عيب، من عور أو عرج أو قصر، مثلاً، أو بخل أو جبن أو خبل، وغالباً ما يكتفى بصفة واحدة، تتحدد بها الشخصية.
وعادة ماتوجد شخصية محورية، أو شخصيتان، وتوجد من حولها شخصيات ثانوية كثيرة، وإذا كانت الشخصيات الثانوية ثابتة ومسطحة، فإن أغلب الشخصيات المحورية نامية ومتطورة.
وتقدم الحكايات أنواعاً كثيرة من الشخصيات، في غنى وتنوع كبيرين، فهي تقدم الأب المغرور والأم العطوف، وزوجة الأب الظالمة، والابنة الوفية، والأخت المشفقة، والأخ الغادر، والزوجة اللعوب، والصديق الوفي، والجار الغني، والكنة التي تكيد لحماتها، والحماة التي تبغض كنتها، كما تقدم الملك الجائر الظلوم، والسلطان العادل الحكيم، والوزير الذكي الماكر، والنديم الوفي المخلص، وابن الملك الذي يهوى ابنة الوزير، وبنت الملك التي يهواها شحاذ فقير.
وهي تقدم تلك الشخصيات، وغيرها، في توازن وانسجام غريبين، هو توازن الحياة وانسجامها، على الرغم مما يبدو فيها، في الظاهر، من تعدد وتناقض واختلاف.
ويلاحظ أن الحكايات تقدم غالباً الشخصيات القلقة المضطربة، ولكنها تنتهي إلى الخلاص مما هي فيه، والتحول إلى الأفضل.
ومن ذلك حكاية الملك المغرور، الذي سأل بناته الثلاث أن تصف كل واحدة منهن حبها له، فتملقت اثنتان منهن غروره، فرضي عنهما، وزوجهما من وزيرين من وزرائه، وأبت الثالثة أن تتملقه فغضب عليها، وزوجها من فقير، يعمل وقاداً في حمام، فصبرت على الفقر والذل والهوان، ثم ساعدتها الجن، فاغتنت هي وزوجها، وابتنت قصراً، ودعت إليه والدها، فتعرف إليها ورجع عما كان فيه من غرور.
وتقدم الحكايات الشعبية شخصيات غير بشرية كثيرة، ذات دور فريد ومتميز، وغالباً ماتكون وفية للإنسان، مخلصة له، تساعده على الخلاص، حين لا يجد المساعدة عند البشر.
ومن تلك الشخصيات السمكة التي تقدم الرزق الوفير للصياد، على شرط أن يطلقها من الشبكة، ويعيدها إلى البحر، والأفعى التي تقدم العون والخير لمن يعينها ويساعدها، والطائر الذي يقدم نفسه للإنسان، كي يذبحه ويصنع من دمه وريشه ولحمه مرهماً يشفي الجراح.
كما تقدم الحكايات الشعبية شخصيات بشرية مسخت بفعل السحر وحولت إلى حيوان أو نبات أو جماد، ولا تنتهي الحكاية، حتى يعود المسخ إلى ماكان عليه، في وضع أكرم من قبل، وأفضل ولكن بعد معاناة.
ومن تلك الشخصيات ابن السلطان الذي مسخ طائراً أو حصاناً، والأخ الذي مسخ غزالاً، والأخت التي مسخت هرة، والأخوة الذين مسخوا شجرات، وأهل البلدة الذين مسخوا حجارة.
كما تقدم الحكايات الشعبية شخصيات أخرى غريبة، كالغول والعفريت والمارد والجني، وأكثرها يخدم الإنسان، ويساعده.
وتعتمد الحكايات الشعبية على كثير من الأدوات والوسائل التي تحدث في الحكاية تغيراً، تقوم عليه نهايتها، من ذلك كرة الخيطان التي تتدحرج فتدل من يتبعها على موضع يطلبه، وعود الثقاب الذي يحضر باشتعاله جني؛ يخدم من أشعله، والخاتم الذي يوضع في صحن الطعام، فيتعرف بوساطته الأب إلى ابنته، أو الحبيب إلى حبيبته، بعد فرقة طويلة وغياب.
ومثل تلك الأدوات والوسائل، وغيرها من الجزئيات الثابتة، تتكرر في كثير من الحكايات، تكرار غريباً، فيه كثير من الإقناع والإدهاش، على الرغم من تكراره، وهو مايمنح الحكايات جميعاً، وحدة متماسكة، وطابعاً خاصاً، هو إحدى ميزاتها.
وتظهر في الحكايات جمل وتعابير جاهزة محفوظة، هي كالمرتكزات، يستعين بها الراوية في السرد، وأغلبها جمل وصفية، تصلح في مواضع مختلفة، منها وصف الأرض المنقطعة بالجملة التالية: " أرض لا طير فيها يطير، ولا وحش فيها يسير".
وتتضمن كثير من الحكايات أمثلة وحكماً ومواعظ ومواويل، وبعضها بني خاصة على تلك المواد، وبعضها الآخر يحشد منها حشداً هائلاً.
ويمكن تمييز أنواع كثيرة في الحكايات الشعبية، بحسب موضوعها، أو طولها، أو بنائها، أو غايتها، كالحكايات الدينية، وحكايات الجن والعفاريت، وحكايات السحر والخوارق، وحكايات الانتقاد الاجتماعي، وحكايات الحيوان، وحكايات العظة والاعتبار، وحكايات الفكاهة والتندر، وكالحكايات الطويلة، والحكايات القصيرة، والحكايات القصيرة جداً، وكالحكايات ذات القصة الواحدة، وهي كثيرة، والحكايات ذات القصتين، أو الأكثر من ذلك، متداخلة، أو متفرعة، أو متلاحقة، وكالحكايات الخاصة بالأطفال، وحكايات الكبار.
وهي أنواع كثيرة، بعضها يتداخل في بعض، وكثير من الحكايات يمكن تصنيفها في أكثر من نوع، ولذلك يبدو التصنيف أمراً لا يخلو من تعسف.
والحكايات عامة شائقة، ليس للأطفال فحسب، بل للكبار أيضاً، وحكايات الصغار نفسها تعبر عن الكبار، وتتضمن تجاربهم، وتحمل خلاصة خبرتهم.
ومن الحكايات الخاصة بالأطفال، والتي تعبر عن أحاسيس الكبار وانفعالاتهم حكاية "أنف القاضي"، وهي تتحدث عن بنت صغيرة، عثرت بفلس صغير، فاشترت به دبساً، وضعته في صحنها الصغير، ثم زارتها الذبابة، تطلب منها أن تعيرها غربالاً، فدلتها على موضعه في مطبخها الصغير، وماكان من الذبابة إلا أن لعقت الدبس، حين رأته في الصحن، وتركت بدلاً منه القذر، وشكت البنت الصغيرة أمرها إلى القاضي، فسخر منها، لصغرها، وصغر بيتها وأدواتها، ثم قال لها: "حيثما رأيت الذبابة، فاقتليها إذا استطعت"، وحطت ذبابة على أنف القاضي، فخلعت البنت الصغيرة نعلها ، وضربت به الذبابة.
ولئن دلت الحكاية على شيء فهي تدل على إحساس الضعيف بضعفه، وعدم توقعه من القضاء أن ينصفه، وأنه ليس له إلا أن ينتصف لنفسه بنفسه، وقد تم التعبير عن الإحساس بالضعف بالرمز إليه بالصغر في الجسم والمسكن والأدوات.
وكثير من الحكايات تعبر عن قضايا في الواقع يعاني منها الفقراء والمحرومون، وتحمل توقهم إلى العدل والحرية والرخاء، ولكن لا يتحقق لهم ذلك في الحكاية إلا بالمعجزات والخوارق، مما يدل على إحساسهم باستحالة الوصول إلى العدل والحرية والرخاء في الواقع، وهو مايجعل للحكاية دوراً في خلاصهم مما هم فيه من ضيق ومعاناة، فكأن الحكاية حلم، يتحقق فيه مالا يمكن أن يتحقق في الواقع، والحكاية بذلك تخفف من الإحساس بالظلم والقهر، ولا تنسّي شيئاً من ذلك الإحساس، ولا تشير إلى شيء من محاولة الرفض والتغيير، وأكثر الحكايات تقوم على موقف سلبي، عماده الصبر والانتظار، والتعلق بالآمال والأحلام، والتي تتحقق أخيراً من غير كدح ولا عناء، ولا سعي إلى التغيير، وإنما بالمصادفة، والمعجزات.
ومن الحكايات التي تمثل ذلك حكاية (عمود الذهب) وهي تتحدث عن امرأة تلح على زوجها الفقير أن يشتري لها الحلي والأساور والعقود الذهبية، كي تتحلى بها، كما تتحلى زوجات الأغنياء، ويعدها الزوج عدة مرات أن يشتري لها ماتريد، ولكنه لا يفي بوعده، لأنه لايستطيع، لفقره، ثم يعدها أن يشتري بدلاً من ذلك داراً، ويتحقق الوعد، إذ تعرض في السوق دار تسكنها الجن، ويمكن من يريد شراءها أن يسكنها سبعة أيام، ليجربها، ويقرر بعد ذلك، شراءها، أوتركها، وينقل الزوج الفقير زوجته وأولاده إلى تلك الدار، وتنعم الزوجة برحابة الدار، وجمالها، وبما فيها من أثاث ورياش وفراش، وفي نهاية الأيام السبعة، يدعوها الزوج إلى العودة إلى الدار القديمة، ولكن الزوجة تدعوه إلى كنز في الدار، تمكنت بجرأتها ورباطة جأشها من هزيمة الجني الذي يرصده فأصبح الكنز ملكها، وتحققت لها الأحلام كلها.
وتعبر الحكايات عامة عن فلسفة بسيطة، لا تعقيد فيها، ولا عمق، هي فهم الإنسان للحياة فهماً أولياً، في أثناء بحثه عن التلاؤم مع الواقع، ورغبته في تحقيق الراحة والاستقرار، وهي فلسفة توسطية، عمادها اعتبار الفضيلة وسطاً بين رذيلتين، مع ميل إلى القبول والرضى والمصالحة، والاقتناع بالبساطة والكفاف، وهي فلسفة لا تخلو من ذكاء وتألق، وتمتاز بالبساطة، والقدرة على التأثير.
ولا يعرف واضح الحكاية الأول كما لايعرف راويها الأول، إذ أنها لا تلقى شيئاً من التوثيق في الرواة، وإذا ما ذكر أحد منهم، فغالباً مايذكر الراوية الأخير، الذي هو أحد أفراد الأسرة ولاسيما الجدة.
وتحمل بعض الحكايات طابع بيئتها وملامحها، فمن الممكن أن يلاحظ في بعض الحكايات، مثلاً، البحر والبحارة والسفن، وفي حكايات أخرى الأسواق والتجار والبضائع، مما يوحي بإمكان نسبة حكاية ما إلى بيئة ما، ولكن لا يمكن في الواقع الجزم بتلك النسبة، كما لا يمكن تخصيص نوع من الحكايات ببيئة ما، فالحكايات سريعة الانتشار، سهلة التناقل.
وكثيراً ماتروى حكاية في بلد ما، وتشبهها شبهاً كبيراً حكاية أخرى، تروى في بلد آخر، وبين البلدين بعد كبير، واختلاف في اللغة والثقافة، وقد يفسر ذلك التشابه بوحدة التجربة الإنسانية.
ومن ذلك حكاية الملك المغرور الذي تمت الإشارة إليها من قبل، فهي تشبه شبهاً كبيراً مسرحية (الملك لير) لمؤلفها (وليم شكسبير)، وهي مبنية على حكاية شعبية.
ومن ذلك أيضاً حكاية رواها الأخوان (غريم) تتحدث عن امرأة عاقر، كانت تعيش هانئة مع زوجها، وتمنت ذات يوم أن ترزق ولداً، ولو كان بطول الإصبع الواحدة، ورزقت بمثل ذلك الولد، وأخذ يعمل مع والده في الحقل، وهو بذلك الطول، وذات يوم اشتراه من والده -عنوة- رجلان شريران، ولكن الولد هرب منهما، وضاع في سنابل القمح، ورعته بقرة، وصار في جوفها، ثم ذبحت البقرة، وألقيت أحشاؤها على المزابل، والتهم ذئب الأحشاء، والولد في داخلها، فأخذ يحدث الذئب عن بيت المؤونة، في مسكن أبويه، ويغريه بدخوله، وطمع الذئب، فدخل بيت المؤونة، وتناول كثيراً من الطعام، حتى أصبح لا يستطيع الحركة، وعندئذٍ أخذ الولد ينادي أبويه، وهو في بطن الذئب، فحضر الأبوان، فقتلا الذئب، وخلصا الولد.
وتشبهها حكاية تتحدث عن امرأة عاقر، تمنت الأمنية نفسها، في ظروف مشابهة، ورزقت بمثل ذلك الولد، وأخذ يعمل مع والده في الحقل، وذات يوم كان والده يحرث فيه الحقل، وهو يسير إلى جانبه، انقلب عليه التراب الذي يشقه سن المحراث، ومات تحته.
إن الحكاية الشعبية تسعى دائماً إلى تحقيق الشمول الكلي، بالتعبير عن جوهر التجربة الإنسانية، منطلقة من الخاص إلى العام، غير متخلية عن تفرد التجربة، مستعينة إلى ذلك بالحدث الكبير الفاصل، وبالشخصية النمطية المحددة، وبالفكرة الواضحة، وبالتعبير العفوي البسيط، مما يتيح لها سهولة السيرورة والانتقال، فإذا هي تعبير عن تجربة عامة شائعة شاملة، تحمل وجدان الجماعة، وتمثل روحها، وأحاسيسها وانفعالاتها، وإذا كل رواية لها هي تعبير فرديّ جديد، يكسب الحكاية وهج الانفعال، وحدة الشعور، وقوة التعبير.
إن الحكاية الشعبية تفي وفاءً كبيراً بحاجة الإنسان إلى التعبير عن نفسه، بحكاية تجربته، ومنحها شكلاً فنياً، ذا استقلال يعادل التجربة، ويوازيها، ويحمل إمكانات إقناع الآخرين، والتأثير فيهم.
وتبدو الحكاية الشعبية مرتبطة بأشكال التعبير الشفوي في المجتمع، وقد أخذت مثل تلك الأشكال تفقد مكانتها في العصر الحديث، بسبب انتشار أشكال تعبير جديدة، تعتمد الكلمة المكتوبة، والصورة المتحركة، وتمثلها الصحف ووسائل الإعلام، التي أخذت تحل محل أشكال التعبير الشفوي.
ولكن على الرغم من ذلك كله تظل الحكاية الشعبية محتفظة بإمكانات كبيرة، تساعد على التعبير عن الوجدان الجماعي، تحمل هموم الناس، وتزودهم بخبرات وتجارب وثقافات، تمس وجدان الفرد، وتنتمي إلى ذاته، وترتبط بها، لتمنحه الإحساس بالانتماء إلى الجماعة، والانسجام معها، وهو غاية ماتسعى إليه فنون القول.
ولقد غدت الحكاية الشعبية مادة أولية، تستثمرها كثير من الأشكال والأنواع الأدبية والفنية، تستلهمها، وتبنى عليها، أغنيات ومسرحيات وروايات وتمثيليات وبرامج شتى.
والحكايات الشعبية غنية بعد ذلك بما يخدم الباحثين في المجالات الإنسانية والتراثية والأدبية والفنية.
ولقد جمع المختصون في الغرب، منذ القرن الماضي، من الحكايات الشعبية، مايملأ عشرات المجلدات.
لم يتنبه العرب إلى أهمية الحكايات الشعبية، وضرورة حفظها، إلا بعد منتصف هذا القرن، فأخذت تظهر مجموعات تسجل الحكايات الشعبية في أجزاء مختلفة من أقطار الوطن العربي، وإن كانت حركة الجمع ماتزال تسير بطيئة مترددة.
والإشكال الذي يواجهه جامع الحكايات الشعبية في الوطن العربي هو اللهجات المحلية، ويمكن تجاوز مثل ذلك الإشكال بتدوين الحكاية باللغة الفصحى، ولكن من غير إجراء تعديل في بنائها وتركيبها العام، والحفاظ ما أمكن ذلك، على أسلوب الجملة فيها، وهو مايعمد إليه بعض الذين تصدوا لجمع الحكايات الشعبية.
وإن كثيراً من الحكايات الشعبية متشابهة، بل متماثلة، في أجزاء من أقطار الوطن العربي، وليس فيها إلا اختلاف في جزئيات ثانوية، نتيجة لتقادم الزمان، وتعدد الرواة، وهو مايطرأ على الحكاية الواحدة، في المكان الواحد.
ومثل ذلك التشابه لا يرجع إلى تشابه الحكايات الشعبية في مواضع مختلفة من العالم، فحسب، بل يرجع أيضاً إلى وحدة الحكاية الشعبية في الوطن العربي، وهي وحدة يمكن تلمسها في عدد غير قليل من الحكايات الشعبية المتشابهة، على الرغم من قلة ماجمع من حكايات شعبية في الوطن العربي، وحيت يتم جمع عدد أكبر من تلك الحكايات، يمكن عندئذٍ تأكيد تلك الوحدة، وتوثيقها، وإبراز سماتها العامة.
وتتضح أهمية الحكاية الشعبية، وهي جزء من التراث الشعبي، حين يذكر المرء محاولات العدو الصهيوني طمس التراث الشعبي في فلسطين، لأن في ذلك التراث برهاناً على أصالة الشعب العربي في فلسطين.
ومن ذلك كله تتأكد ضرورة تسجيل الحكايات الشعبية، وحفظها، قبل أن تنسى وتندثر، فيضيع بضياعها تراث لا يمكن تعويضه، هو التراث الذي يحمل ملامح الشعب، ويعبر عن همومه ويمثل وجدانه العام