التوأمان

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمــد شــاكر الســـــبع | المصدر : www.awu-dam.org

كيف أفلح كمال في جعلي أقف في الصف لأسمع حكاياته التي تنال من أهل أمي؟. كيف استطاع أن يوثقني إلى مقعدي، طوال تلك الساعة، دون أن أثير الاضطراب في حديثه الذي تدفق عن أخوالي الذي خذلتهم أول مرة؟.‏

كان كعادته، يتململ في جلسته على السرير، قبل أن يبدأ قص حكايته:‏

-لن تعترض مثل كل مرة.‏

-أهي حكاية أخرى عن أهل أمي؟‏

-وعمن تريد أن أقص؟.. قطاع الطرق أولئك ملأوا الدنيا بأعمالهم التي..‏

قاطعته بمرارة:‏

-لماذا هذا النعت؟‏

-أي نعت يا وغد الأوغاد؟‏

-قطاع الطرق.‏

ركز العم كمال نظره علي لحظة، وربما لحظتين، ثم قال:‏

-حتى قطاع الطرق غير كاف لوصفهم.. أنا واثق أن الله لم يخلقهم من العجينة التي خلق منها البشر.. إنهم.. آه.. يقومون بما لا يستطيع الآخرون أن يفعلوه.. أنت..‏

قاطعته ثانية:‏

-أنا... ماذا؟‏

-نصف دمائك تعود لهم، ومع ذلك فأنت تشبههم كثيراً.. هي نسيت ما الذي فعلته بحكاياتي؟.. حذفت منها وأضفت إليها...‏

قاطعته للمرة الثالثة:‏

-في كل مرة تعود لهذا الأمر.. يا عم..‏

قاطعني العم كمال بهدوء:‏

-يا عم ماذا؟.. أنا أكبر كذاب في طول البلاد وعرضها؟.. أنا الذي أنسى نصف الحكاية، فأختلق نصفها الآخر؟...‏

ارتفعت نبرة صوته:‏

-أخوالك، أولئك قطاع طرق... لا جدال... أما أنت فإنك وغد الأوغاد.‏

قبل أن أفتح فمي هدر:‏

-لتكف عن الاعتراضات.. أنك تفسد أجمل حكاياتي بهذا الذي تقوله بين فترة وأخرى.. هذه المرة لتسكت.‏

لو لم يكن العم كمال على سرير في المستشفى، لفررت بأقصى ما أستطيع.. قال:‏

-سعد وسعيد ولدا خالك هاشم توأمان..‏

في هذه اللحظة جعلني أقف في الصف لأسمع المزيد عن هذين التوأمين المرحين.‏

-هما أكبر منك بكثير.‏

-بكثير جداً.‏

-حين ولدت أصبحا رجلين، سافر كل واحد منهما إلى مدينة مختلفة. في طفولتهما وصباهما فعلا الكثير الذي أثبت أنهما من سلالة قطاع الطرق أولئك.‏

في طفولتي وصباي وشبابي سمعت الكثير عنهما، من أمي وخالاتي.. من أخوالي.. من رجال الجيران ونسوتهم.. قلت:‏

-ربما ما ستقصه سمعته يا عم.‏

ضحك العم كمال:‏

-سمعت القليل عن سعد وسعيد.‏

قلت بعناد:‏

-بل الكثير.‏

سألني جاداً:‏

-إذن، اسمع يا وغد الأوغاد ولا تقاطعني.... ماذا قلت؟‏

-لم أقل شيئاً.‏

-سعد وسعيد، ذلكما التوأمان المحتالان أخلا بتوازن جميع الأشياء. لن أتحدث عن الشبه بينهما.. لن أتحدث كيف كانت أمهما تفرق بينهما، وكذلك الآخرون.. فهذا كلام قيل كثيراً عن كل توأمين. سأتحدث عن أشياء أخرى.. أمور أخرى.. ما فعلاه عندما استطاعت سيقانهما أن تنقلا جسديهما الملعونين، من مكان إلى آخر.‏

توقف العم كمال ليقول لي:‏

-كان خالك هاشم وسيماً جداً، وورث التوأمان هذه الوسامة، لذلك يميل إليهما كل من يراهما أول مرة... عرف هذان المحتالان كيف يستغلان ذلك جيداً، فيما بعد يجد ذلك الشخص أنه في ورطة. لم يسلم أحد من أفعالهما التي تثير الحنق والضحك في وقت واحد.‏

جلجل صوت العم كمال بضحكة طويلة.. قال:‏

-لم تتوقف مقالبهما عند حد. كانت قدور الطعام تنفجر فوق الطباخات النفطية. كانت المصابيح تسقط من تلقاء نفسها.. كانت سقوف بيوت أخوالك تقطر ماء في الصيف.. لا أتذكر كل ما فعلاه حين كانا صغيرين. لم ينتبه الجد إليهما، لكن صاحب عربة خيل هو الذي جعله يفعل ذلك، أرسل الجد في طلب خالك هاشم.. وبخه:‏

-ألا تكفيني أنت وأخوتك الذين تشابهون الحمير كثيراً حتى تأتيني بهذين القردين؟‏

بدأت أحنق.. قلت:‏

-ها أنت تشتم أخوالي.‏

-أشتمهم؟.. أنا أقص ما قاله جدك الطيب.‏

بطبيعة الحال شككت بأن جدي قال ذلك.. واصل العم كمال:‏

-قلت وبخه جدك.. فسأله خالك هاشم:‏

-ماذا فعل هذان الصغيران؟‏

كاد جدك يبطش بخالك:‏

-صغيران؟.. ماذا فعلا؟.. لا أحد يخبرك بالذي يفعله هذان الكلبان؟‏

-لا يا أبي.‏

قال الجد بعد أن سيطر على أعصابه:‏

-لا أحد يمكن له أن يتصور ما يفعله هذان الجنيان.. عربة خيل تقف في الزقاق.. جميع الأطفال ينظرون إلى الخيل.. إلى العربة.. ثم يأتي هذان الكلبان، وماذا يحدث؟. أنت أبوهما هل تتصور ماذا حدث؟‏

سأل خالك بخوف:‏

ماذا حدث ؟؟؟‏

قال الجد بحنق:‏

-أن حوذياً يقود عربة خيل منذ سنين طويلة، يعرف كيف يهز الأعنة لتتحرك الخيل.. ماذا يحدث لو تحركت الخيل؟.. أجب يا ولدي الذي يشبه الحمير كثيراً.‏

-تتحرك العربة وراءها يا أبي.‏

-الذي حدث أن الخيل سحبت الحوذي من مقعده وجرته على الأرض بعيداً عن العربة التي ظلت واقفة في مكانها.‏

يقولون أن خالك هاشم لم يتماسك أمام الجد الذي هدر:‏

-تضحك؟.. اذهب واجلد ذلكما الجروين.‏

دافع الخال هاشم عن ولديه، فهو يحبهما كثيراً.. قالت زوجته فيما بعد، أنه تحايل على أمر الجد فلم يجلد سعد وسعيد، ولو فعل لكان ذلك أفضل.‏

سألته:‏

-لماذا؟‏

أجاب العم كمال:‏

-لأن التوأمين تورطا مع الجد.‏

لم أعترض، إنما نظرت بدهشة إلى العم كمال... قال:‏

-لا تندهش... هذا ماحدث.‏

-كيف.‏

-في صباح أحد الأيام مد الجد يده ليفتح باب البيت، فسقط هو والباب على قارعة الطريق. لم ينفع توسل أحد.. الجدة توسلت.. الخالات فعلن ذلك.. الأخوال كذلك... ذهبت كل التوسلات بدون جدوى، وكاد يجلد معهما خالك هاشم. فهم سعد وسعيد أن هذا الرجل لا يمكن المزاح معه بأية حال من الأحوال.‏

واصل العم كمال حديثه:‏

-وعلى الرغم من تلك العصا الموجعة، فالتوأمان لم يتوقفا عن مزاحهما مع الآخرين الذين ضجوا من ذلك المزاح، حتى توبيخ الجد المتكرر لخالك هاشم لم يحركه لعقاب سعد وسعيد، فهو يحبهما حباً لا نظير له. حين لمس الجد ذلك هدد بإغراقهما في النهر إذا لم يكفا عن تلك الأعمال المثيرة لحفيظته، واعترض الخال هاشم:‏

-إنهما صغيران.. أنا أحبهما يا أبي.‏

قيل أن جدك تنازل عن تهديده، عندما قرر الخال أن يأخذ عائلته ويذهب إلى مدينة أخرى.. قيل أن الجد الثائر اكتفى بالقول:‏

-من أين قدمت كل هذه الحيوانات إلى عائلتي؟‏

اعترضت قائلاً:‏

-لماذا هذه الشتائم لقوم أمي؟‏

رد العم كمال بهدوء:‏

-هذه ماقاله المرحوم جدك.‏

اكتفيت بالأسى لأخوالي أمام قسوة عمي.. واصل:‏

-وفي يوم سقطت المصيبة على خالك هاشم.‏

-مصيبة؟‏

-نعم.. مصيبة جرها سعد وسعيد لتسقط على رأسه.‏

نسيت أساي، وتهيأت للاستماع جيداً، فأعمال التوأمين جعلتنا نضحك سنوات عديدة. سألني العم كمال:‏

-هل قلت أن خالك هاشم كان وسيماً؟‏

-نعم.‏

-ولوسامته كانت زوجته تشك به كثيراً، وخاصة حين سقطت فريسة للمرض فترة طويلة. كان التوأمين يسمعان شجارهما.. يسمعان شكوى أمهما من والدهما الغادر الذي لا تتوقف عيناه عن مطاردة النساء الأخريات.. سمعا أكثر من مرة أنه ينتظر أن تموت، ليسرع ويتزوج من واحدة أخرى.. نعم... إنها تعرف أن تلك المرأة جميلة.. لا أحد ينكر ذلك، غير أن أحداً لا يعرف كم هي قاسية القلب؟. هي لا يهمها أن تموت، فستكون مستريحة في قبرها، لكن سعد وسعيد.. يا لهفتي عليهما.. ستكون لهما زوجة أب... صنع قلبها من الصخر.‏

أطلق العم كمال ضحكته المجلجلة مرة ثانية.. قال:‏

-كان خالك هاشم ينظر إلى زوجته بدهشة لتخيلها كل ذلك.. كان يفر من البيت إلى المقهى، ولو فكر قليلاً لألقمها حجراً وجعلها تسكت ولن تذكر هذه الترهات أبداً. خلال كل ذلك الكلام الصاخب، نجحت زوجته في جعله ينس التوأمين، ولو تذكرهما، فسيعرف، كما تعرف هي، أن اثنتي عشرة زوجة أب بقلوب من الفولاذ وليس من الحجر، كن سيرفعن أذيال أثوابهن، ويجرين بأقصى سرعة، فراراً من التوأمين.. غير أن خالك هاشم كان ينسى دائماً.. هذا النسيان جر عليه المصيبة.‏

-كيف؟‏

-اشتد المرض على زوجة خالك، فاضطرت أن تنام على أحد أسرة المستشفى.. لم يكن التوأمان يقدران الخطر الذي ربّما يحيق بأمهما، بقدر ما خافا من زوجة الأب المزعومة. في ظهر أحد الأيام وقف والدهما، ليتحدث مع امرأة، قرر التوأمان أنها جميلة. سألته عن صحة زوجته، ومازحته فاضطر أن يمازحها مزاحاً ثقيلاً. لم يكن يعلم أن التوأمين يسمعان ويفهمان كل شيء... قال للمرأة:‏

-سأتزوجك عندما تموت امرأتي.‏

مازحته تلك المرأة:‏

-وإذا لم تمت؟‏

مازحها أكثر:‏

-ستموت.‏

لجت المرأة في المزاح:‏

-مرضها لا يقتل.‏

تطرف الخال بالمزاح:‏

-سيقتلها حائط بعد سقوطه، أو سقف بعد انهياره، وسأتزوجك. قيل أن التوأمين أخذا يبكيان.. طمأنهما بعد أن ذهبت المرأة.. كان عليه أن يحذر منهما منذ تلك اللحظة، إلا أنه اعتقد أنهما صغيران جداً، ولا يمكن لهما أن يفهما هذه الأمور. كان ينبغي عليه أن يربطهما بسلسلة إلى أي شيء ثابت لا يتزحزح. كان عليه أن يضعهما تحت نظر الجد الثاقب، لئلا يجلبا الكارثة، غير أنه اعتقد أنهما صغيران جداً. اتفق أن يتركهما في تلك الظهيرة، ويذهب إلى زوجته في المستشفى.‏

توقف العم كمال ليؤكد:‏

-أن خالك هاشم بدون عقل.‏

-ماذا؟‏

-لا تعترض.. أي رجل يمتلك عقلاً رصيناً يترك التوأمين وحدهما؟.. يبدو أن الحزن لفقد أمهما هو الذي أفضى بهما إلى الخوف، وهكذا انتبها لسقف المرافق الصحية وأحد جدرانها، كان الجدار مائلاً وبعيداً عن السقف عن خط الارتكاز.. كانت هناك فتحة كبيرة جداً على امتداد خط الارتكاز، تسمح لماء المطر أن يبلل من يقضي حاجته في تلك المرافق شتاء، كما تجعل أشعة الشمس والتراب يتسللان منها. تذكر سعد وسعيد تلك الفتحة.. تذكرا الجدار المائل.. تذكروا السقف الذي يبدو وكأنه على وشك الانهيار.. كما تذكرا زوجة الأب القاسية التي صنع قلبهما من حجر. ناح سعد:‏

-ذلك السقف سينهار على أمي.‏

أوشك سعيد على البكاء:‏

-ذلك الجدار المائل الذي يهتز كثيراً سيسقط على أمي.‏

قال سعيد:‏

-وعندئذ ستموت.‏

أضاف سعيد:‏

-وسنصبح من الأيتام.‏

قال سعد دافعاً بالحوار إلى نقطة أخرى:‏

-من يرعى الأيتام؟.. أمنا ستكون مرتاحة في قبرها.‏

سأله سعيد:‏

-كيف عرفت؟‏

أجابه سعد:‏

-هي قالت ذلك.. ألم تسمعها؟.. نحن اللذين سنتعذب.‏

طفت الروح الشريرة لسعيد على السطح، فسأل بحنق:‏

-من يعذبنا؟‏

أجاب سعد:‏

-زوجة الأب.‏

هز سعيد رأسه بحكمة رغم صغر سنه:‏

-تلك المرأة القاسية.‏

أضاف سعد:‏

-قلبها مصنوع من حجر.‏

بدأ التوأمان يتخيلان ما ستصنع بهما تلك المرأة القاسية القلب.. قال سعد:‏

-ستجبرنا على النوم بدون عشاء.‏

أضاف سعيد متنهداً بحزن:‏

-ستجعلنا ننام على الأرض.‏

سأله سعد:‏

-في الصيف؟‏

أكد سعيد:‏

-كلا.. في الشتاء.‏

اختنق سعد بالبكاء:‏

-القاسية.‏

زمجر سعيد:‏

-إنها بلا قلب.‏

قال سعد والدموع في عينيه:‏

-ليت الأمر يتوقف عند هذا..‏

سأله سعيد بخوف:‏

- ماذا ستفعل زوجة الأب القاسية؟‏

أجاب سعد بصوت مختنق:‏

-ستكوى أطرافنا وظهرينا بسكين محماة فوق النار.‏

شم التوأمان رائحة اللحم المشوي... ناح سعيد:‏

-وتطعم لحمنا المشوي للقطط.‏

أضاف سعد:‏

-لا تنس الكلاب.‏

ظلا يتقاذفان زوجة الأب المزعومة بينهما:‏

-إنها قاسية.‏

-قلبها من صخر.‏

-ليس لها قلب.‏

-لها، ولكنه من صخر.‏

-سيضعها الله في النار.‏

-بعد أن تكون القطط والكلاب قد انتهت من أكلنا.‏

قال سعد والدموع على خديه:‏

-سأقتلها.‏

علق سعيد:‏

-لن تستطيع.. الأشرار لا يموتون بسرعة.‏

تأفف سعد:‏

-لماذا خلق الله أبانا حتى نتعذب؟‏

قال سعيد:‏

-بل لماذا خلق أمنا التي ستذهب للقبر لترتاح ونحن سنتناول العذاب بالملاعق؟‏

قال سعد:‏

-لولا ذلك الجدار المائل الذي سيسقط على أمنا فتموت.. لولا ذلك السقف الذي سينهار عليها فتموت.‏

عند هذه النقطة من الحوار، التفت التوأمان ببطء أحدهما نحو الآخر.. أطلت روحاهما الشريرتان من عينيهما.. لم يتحدثا.. لم ينطقا كلمة واحدة، لكنهما عرفا كيف يدافعان عن سعادتهما.. يجب أن لاتموت أمهما... يجب أن لا تذهب إلى القبر لترتاح.‏

قطع العم كمال حديثه وسألني:‏

-لماذا تنظر إلي هكذا أيها الوغد؟‏

-هل دار ذلك الحوار بينهما؟‏

-آه.. عدت للاعتقاد أنني أختلق نصف الحكاية.. هذا مادار بينهما، وعليك أن تستمع... المهم.. حصلا على فأسين.. هدما الجدار المائل، فانهار السقف من تلقاء نفسه، ثم حدثت الكارثة.‏

-كارثة؟‏

قال العم كمال:‏

-أن الله وحده يعلم كيف بنيت بيوتنا القديمة.. بعد أن انهار السقف انهار معه نصف السلم.. نصف السلم سحب معه أعمدة الطارمة، وتبعتها الطارمة.. أن أحداً في مدينتنا لم ير بيتاً بهذا الشكل.‏

-إنهار بيت خالي هاشم؟‏

-نعم.. لم يبق منه سوى الباب الخارجي ونصف السلم الذي لا يعرف أحد كيف ظل معلقاً في مكانه.‏

-لكنني لم أسمع أن بيتاً لأحد أخوالي قد انهار.‏

قال العم كمال بهدوء:‏

-ليس المهم أن تسمع.. المهم ما حدث.. لقد وقف خالك هاشم مرتعشاً أمام الجد:‏

-هدما بيتي يا أبي.‏

قال الجد الطيب:‏

-يا ولدي الذي يشبه إخوته الذين يشبهون الحمير كثيراً، ألا تحبهما كثيراً؟‏

-وهل هناك أب يكره أولاده؟‏

دهش الجد وظل يردد لفترة طويلة:‏

-على أحدهم أن يشرح لي.. كيف نطق ذلك الحمار هاشم الذي هو ولدي بتلك الحكمة؟