ما عدت أملك سبيلاً للفرار من سياط العم كمال التي تجلد روحي جلداً لا رحمة فيه. اكتشفت أنه كلما اقترب أوان إجراء العملية له تزداد حكاياته عن قوم أمي قسوة وسخرية. في ليلة بدت لي مريرة، سبح صوت العم كمال في جو الغرفة المشبع بروائح المنظفات والمعقمات: -أتذكر خالك عبد المجيد؟ -يا عم.. لقد مات منذ زمن طويل جداً إلى الحد الذي لم أعد أذكر ملامحه جيداً. لماذا لا تترك الأموات ينعمون بالسلام في قبورهم؟ -أنت؟.. يا وغد الأوغاد الذي أتلف حكاياتي تدافع عنه لأنه خالك.. قررت أن أخرج من الغرفة. قررت أن أدير ظهري إلى عمي كمال إلى الأبد، إلا أنه قطع الطريق علي مثل كل مرة.. قال: -لن تتركني وحيداً في هذا المستشفى. -إذن، دع قوم أمي وشأنهم. هز العم كمال رأسه وهمهم: -لقد صنعوا تأريخاً من الفوضى والاضطراب لا مثيل له. لم يكن بوسع أحد سوى أولئك قطاع الطرق أن يفعلوه. قلت محتجاً: -لماذا تنعت أخوالي بقطاع الطرق؟ -لأنهم كذلك يا ابن أخي، بل قطاع الطرق كانوا سيرتجفون أمام ما فعله أخوالك. هذه المرة سأحكي عن خالك عبد المجيد. قاطعته: -وتسخر منه بطريقتك؟ فسألني بامتعاض: -من يسخر؟ -أنت يا عم.. أتعرف كم تعذبني هذه السخرية؟. أتعرف ماذا يعني تشويه صورة جميلة في مخيلتي لأحد أخوالي؟ -وحكاياتي الجميلة التي شوهتها بأكاذيبك؟.. أتعرف كم عذبني ذلك التشويه؟ نظرت إلى العم كمال متفرساً في تقاطيع وجهه، وعلى الرغم من التجاعيد التي ملأت وجهه، إلا أن صورته القديمة هي التي أراها الآن.. ذلك الرجل الوسيم ذا الحديث الطلي، ما الذي حدث إذن، حتى ينتقم مني بهذه الصورة؟ جلجل صوت العم كمال: -كان خالك عبد المجيد مصدر دهشة لجدك الطيب أول الأمر، ثم تحولت الدهشة إلى نوع من العذاب، وكان الجد على حق... -عن أي حق تتحدث؟ زمجر العم كمال: -حين أبدأ حكايتي عليك أن تغلق فمك. أهذه طريقتك الجديدة لإفساد حكاياتي؟ عندما تأكد أنني أغلقت فمي قال: -ولد خالك عبد المجيد في بستان العائلة قبل أن تنتقل إلى المدينة. عاش بين النخيل والأشجار والجداول. طارد الأفاعي والسناجب والقنافذ. هذا كله يعرفه جدك جيداً، لكن الذي يجهله هو كيف تعلم خالك بناء البيوت، إذن، من حق الجد أن يدهش، ومن حقه أن يتعذب. كان يسأل الجدة حين يتذكر ولده عبد المجيد: -هذا الحمار الذي هو ولدي وولدك أين تعلم بناء البيوت؟. أنا لا أذكر أن بيتنا في البستان كان من الطابوق. كان الغضب يقطع كلام الجد في منتصفه. لم تكن الجدة ترد عليه، فهي الأخرى لا تعرف أين ومتى تعلم ولدها بناء البيوت. وخالك لم يكن ليهتم لفورات غضب والده، إنما أثبت أنه كان يمتلك عقلاً خلاقاً.. كان مهندساً عظيماً، أدخل الكثير من الفن في بناء البيوت. وهكذا أصبح أستاذاً للبناء، يعمل بأمرته عدد كبير من البنائين الذين ينفذون أفكاره التي أثارت دهشة سكان المدينة.. لقد تغيرت مداخل البيوت.. أصبحت ترتفع عن الشارع بدرجات.. الواجهات العليا ظهرت فيها النقوش، وأية نقوش؟.. نقوش من الحجارة نفسها. توقف العم كمال عن حديثه ليسألني: -حين أصبحت شهرة خالك عبد المجيد بهذا الاتساع، أتعرف ماذا كان شعور جدك الطيب؟ -ماذا كان؟ -الخوف. -الخوف؟ أكد العم كمال: -نعم الخوف. -لماذا؟ -كان جدك يردد بحنق دائماً: أن أولادي جميعاً من الحمير، فمن أين أتى هذا؟ -يا عم إنك تشتم أخوالي. عاد العم كمال إلى الزمجرة: -هذا ليس كلامي، بل هو كلام جدك الطيب. ثم أضاف بعد وقفة قصيرة: -المهم، أن جدك كان يتعذب أكثر كلما ازداد خالك شهرة في البناء إلى الحد الذي ما عاد أحد يسميه باسمه، إنما نعت "بالأسطى". خلال عشر سنوات تغير شكل بناء البيوت ومداخلها وشبابيكها على يد الأسطى وفريق عمله الذي أتقن الفنون التي ابتدعها. مرة أخرى توقف العم كمال عن سرد حكايته. شعرت أن حديثه سيتخذ وجهة أخرى، وجهة كفيلة بالإساءة لخالي عبد المجيد. في تلك اللحظة، تمنيت أن يتوقف حديث العم عند هذا الحد، إلا ان أمنيتي صرعها إصرار العم كمال على إتمام الحكاية حتى نهايتها: -هل كان خالك عبد المجيد سعيداً بتلك الشهرة؟. لا أحد يعرف كيف أصابه الغم فجأة. رفض عروضاً كثيرة لبناء البيوت. لم يخرج إلى العمل أو إلى مقهى عمال البناء.. لزم البيت.. دخن كثيراً.. تقلب على الفراش أكثر دون أن يغلق النوم عينيه. أطلق زفرات، قيل إنها كانت ساخنة لدرجة قطعت قلبي زوجته وأمه، عندئذ توسلت الجدة بالجد: -عبد المجيد يتعذب.. يجب أن تعرف ما الذي يعذبه؟ -أنا؟ بكت الجدة: -أنت أبوه وتفهمه جيداً. وهدر الجد: -لو كان حماراً مثل أولادي الآخرين لفهمته.. أنا؟.. كيف أستطيع أن أفهم رجلاً يعتلي حائطاً عالياً جداً؟ لم تجد الجدة الطيبة سوى أن تجند جميع أولادها وبناتها للضغط على قلب الجد لكي يحنو على ولده عبد المجيد. ونجحت مناورة الجدة. في المساء، ذهب الجد إلى بيت الابن. ظل هناك ساعة أو أكثر، ثم عاد بوجه مكفهر. سألته الجدة عن الأمر فأجابها بحنق: -كان علي أن آخذ العصا معي. فصرخت الجدة: -يا رجل كف عن هذا التصرف، إنه ليس صغيراً حتى تقرعه بالعصا. صرخ الجد أيضاً: -لو كانت العصا معي لدققته دقاً لن ينساه أبداً. هدأت الجدة وسألته: -هل عرفت ما الذي يعذبه؟ -السقف. -ماذا؟ أكد الجد بحنق: -قلت السقف. -أي سقف؟ هدر الجد: -لو كنت أعرف أي سقف لارتحت. إنه يفكر منذ زمن أن يستبدل مواد سقف البيت التي هي من الخشب والبواري بمادة الجدار. الدهشة هزت جميع أفراد العائلة. تساءل أكثر من خال لك: -ماذا يعني بمادة الجدار؟ قال الجد؟ -سألته هذا السؤال فقال سقف من الطابوق. أكثر من صوت ارتفع: -سقف من الطابوق. قال الجد: -نعم، وحين سألته كيف يجعل الطابوق يقف في الهواء بين الجدران، أجابني أن هذا هو سر عذابه. قالت الجدة: -ابنك مجنون. اعترض الجد: -بل حمار... إنه سوف يهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها إذا عمل مثل هذا السقف. ثم من هو الحمار الذي ينام تحت سقف من طابوق معلق في الهواء؟. قيل أن خالك عبد المجيد لم يدع العذاب ينخر روحه زمناً طويلاً، فهو مجالد عنيد وذو عقل خلاق. فجأة، قرر أن يسافر إلى بغداد. هكذا حسم الأمر بسرعة، ودع زوجته وأولاده وأشقاءه وشقيقاته وسط دهشة الجد والجدة. غاب عن أهله شهراً كاملاً، كان الجميع فيه قلقاً. الجد وحده يردد بحنق: -لماذا أنا الوحيد الذي ابتليت بهؤلاء الحمير الذين هم أولادي؟. أمن أجل سقف من طابوق يهجر زوجته وأولاده وعائلته؟. شعرت بالألم يغادر قلبي ويدب بملايين الأقدام تحت جلدي. لم يترك لي العم كمال أي وقت مناسب للاحتجاج، قال: -خرج الخبر إلى الجيران الذين لم يستغربوا الأمر، فهم يعرفون جيداً تصرفات أخوالك التي تشابه تصرفات المجانين، لكن سكان المدينة اعتبروا هذا السقف نوعاً من شيء لا يستطيعون معرفته أو تحديده. قيل أن عبد الواحد الاسكافي سأل إمام جامع النجارين بعد انتهاء صلاة الجمعة إن كان هذا السقف بدعة، والبدعة كما يعرف هو الاسكافي ضلالة... -يا عم.. -لاتصرخ أيها العاق و لا تقاطعني مرة أخرى لئلا تشتبك عليّ الأحداث. هكذا سأل عبد الواحد الاسكافي. قيل أن إمام الجامع وقع في حيرة كبيرة، فأجاب لا أدري. وقيل أيضاً أن السؤال كلف الاسكافي كثيراً، فقد وجدوه في المساء محطماً تماماً أمام باب بيته، ورغم أن جميع سكان المدينة يعرف من فعل ذلك، لكن أحداً لم يذكر ذلك حتى همساً، بما فيهم الاسكافي نفسه. سألته: -من فعل ذلك؟ -أخوالك. -كيف عرفت ذلك؟ -المدينة كلها تعرف أي نوع من المقاتلين هم أخوالك. قطاع الطرق أولئك لا يغفرون لأحد إذا أساء لهم. ولقد فعل الاسكافي ذلك عن حماقة. توقف العم كمال عن الحديث كعادته. أية أحداث تسيء إلى قوم أمي سيرويها هذا العم بعد هذا التوقف؟.. قال وقد اكفهر وجهه: -حين عاد خالك عبد المجيد إلى العمارة، كادت المدينة أن ترفع بيوتها وتهرب إلى مكان آخر. -هل أعترض يا عم؟ -لا.. عليك أن تسمع فقط. حين يحارب أب ابنه فإن الجميع، القريبون والبعيدون، يحكمون أن الأب على حق. هكذا انحاز الجميع إلى جانب الجد، والجد أهمل كل الهدايا التي جلبها له الابن من بغداد. لم يكن في ذهن الجد، في تلك اللحظة سوى البراكين والأعاصير وسقف الطابوق.. قال بهدوء حكم عليه الجميع بالكذب: -هل وصلت إليه؟ -سقف الطابوق؟ قال الجد بهدوءه الكاذب: -ومن يكون غيره؟ ظهرت العافية في وجه الخال عبد المجيد الذي قال: نعم قيل أن ثلاثة عشر من أخوالك رموا أنفسهم على الجد لكي يجعلوه جالساً في مكانه قل أن يصل إلى عصاه... قلت: -ألي حق في الاعتراض يا عم؟ -ولا كلمة.. أن جدك رحمه الله مليون مرة، رغم حكمته إلا أن تلك الحكمة الذي اكتسبها من الحياة لم يمر بها سقف من الطابوق. عندئذ صرخت: -لا تسخر من جدي. وصرخ العم كمال: -أنا لا أسخر من جدك أو من أي أحد. الذي حدث أرويه، أنا لست مثلك كذاباً أفسد جميع حكاياتي. -ياأيها الرب الرحيم.. عدنا مرة أخرى؟ -هل رأيت أيها الوغد أي ألم يورثه التلاعب بالكلمات؟... ولما كان خالك عبد المجيد ذا عقل خلاق، قال أمام الجميع: -سأبني سقف بيتي من الطابوق. الجد المحاصر بالأبناء هدر: -لا تقتل ذريتي أيها الحمار الذي هو ابني. في اليوم الثاني، منذ الصباح الباكر جداً، حضر فريق عمله الذي لم يصدق الأمر، جيء بالطابوق وبألواح طويلة من الحديد. رفع سقف البيت الذي لا يغطي سوى غرفتين. وضعوا ألواح الحديد الطويلة على مسافات متقاربة، ثم بدأ العمل بالطابوق والجص. الخال هو الذي كان يبني، بعد يومين قال: -سأنام تحت هذا السقف. زوجته أرسلت أولاده إلى بيت الجد، وبقيت معه إلى الصباح تحت ذلك السقف دون أن يغمض لها جفن. في الصباح جاء الجد والجدة والأشقاء والشقيقات وكل الأولاد والأحفاد. طلب منهم الصعود جميعاً إلى السطح. صعد أمامهم وأخذ يقفز فوق سقف الطابوق. الزوجة أول الأقربين ذهبت إليه وتبعها الجميع. عندئذ صاح الجد: -ليكن سقف بيتي من الطابوق.. مللت من رصفه بالطين والتبن كل شتاء. الأغنياء وأنصاف الأغنياء والفقراء الذي وقف إلى جانبهم المصرف العقاري بنوا سقوف بيوتهم بالطابوق المعقود. خالك عبد المجيد جعل الجميع يحترم عقله المبدع، لكنه لم يحترم الزمن الذي لم يسخر من عقله، بل سخر من مهارة يديه.. -هل تبدأ الآن بشتم قوم أمي؟ قال العم كمال بهدوء: -لا... إنني الآن، بعد أن زودني عمري الطويل بالحكمة، علي أن أبكي على خالك المبدع عبد المجيد الذي غير هندسة مدينة بكاملها، لكنه لم يفهم أن الإبداع في عقله وليس في يديه وعينيه.. قلت بدهشة: -كيف؟ -كان عليه أن يكون فكراً قائداً، لايدين وعينين منفذتين. نسى الزمن والعمل الشاق والبرد والحر، لقد فقد قوة الشباب بالتدريج، ثم فقد قوة النظر، وبدأت يداه ترتعشان. لم يعد ذلك البناء الذي يتلقف الطابوق على ارتفاع أربعة أمتار. ما عادت يداه ثابتتان لعمل الخطوط الهندسية لمداميك الطابوق. اهتز كل شيء في علمه، ولم ينقذه العناد. أخيراً انسحب من ساحة بناء البيوت، ليعمل في بقالية صغيرة.. لأول مرة، أرى الدموع في مقلتي عمي. قال بصوت عميق أثقله الألم: -ليرحمك الله يا عبد المجيد.. ليتك كنت أكثر عقلاً. حسن، مضى أكثر من عام و"الاسطى" المبدع محاصر بين جدران البقالية. ثم سن له عادة جديدة: قبل الظهيرة بساعة يخرج من بقاليته ويدور على الأماكن التي تبنى فيها البيوت. هناك كان العمال يستقبلونه استقبال القائد الكبير. كان يراقبهم وهم يعملون، ثم يبدأ بإزجاء النصائح لهم بعد أن يحدد الأخطاء في عملهم. أول الأمر، اعتبروا تصرفه فضلاً عليهم، لكن حين كثرت اعتراضاته بدأوا يضيقون به، لأن أصحاب البيوت يأخذون باعتراضاته ويتشاجرون معهم. شكوه إلى الجد الذي وبخه: -لست صغيراً حتى أنصحك. اترك الآخرين وشأنهم واحتفظ بالسمعة التي كسبتها خلال سنوات طويلة. كلمات الجد الهادئة تلك لم تشف آلام الاسطى القديم. ظل متمسكاً بتلك العادة التي أرهقت البنائين الذين تعلموا المهنة منه... توقف العم كمال عن حديثه. هز رأسه علامة على الأسف ثم قال: -وجاءت الحادثة التي أسقطت ذلك الاسطى الخلاق. لا أحد يعلم لماذا قرر أن يهدم الحمام في بيته ويبنيه من جديد. لقد ارتفعت الجدران بسرعة. لم يعمل معه أحد من عماله القدامى، فقط زوجته وأولاده. ثم عقد السقف. لم يكن سقفاً جميلاً، حتى زوجته عرفت أن هذا ليس بناء جيداً.. قبل أن يغسل يديه من الجص العالق بهما، دوى صوت انهيار السقف.. تساقطت دموع العم كمال، فسألته: -بعد ذلك ماذا حدث؟ أجاب: -خير لنا أن نتوقف عند هذا الحد.
ما عدت أملك سبيلاً للفرار من سياط العم كمال التي تجلد روحي جلداً لا رحمة فيه. اكتشفت أنه كلما اقترب أوان إجراء العملية له تزداد حكاياته عن قوم أمي قسوة وسخرية. في ليلة بدت لي مريرة، سبح صوت العم كمال في جو الغرفة المشبع بروائح المنظفات والمعقمات:
-أتذكر خالك عبد المجيد؟
-يا عم.. لقد مات منذ زمن طويل جداً إلى الحد الذي لم أعد أذكر ملامحه جيداً. لماذا لا تترك الأموات ينعمون بالسلام في قبورهم؟
-أنت؟.. يا وغد الأوغاد الذي أتلف حكاياتي تدافع عنه لأنه خالك..
قررت أن أخرج من الغرفة. قررت أن أدير ظهري إلى عمي كمال إلى الأبد، إلا أنه قطع الطريق علي مثل كل مرة.. قال:
-لن تتركني وحيداً في هذا المستشفى.
-إذن، دع قوم أمي وشأنهم.
هز العم كمال رأسه وهمهم:
-لقد صنعوا تأريخاً من الفوضى والاضطراب لا مثيل له. لم يكن بوسع أحد سوى أولئك قطاع الطرق أن يفعلوه.
قلت محتجاً:
-لماذا تنعت أخوالي بقطاع الطرق؟
-لأنهم كذلك يا ابن أخي، بل قطاع الطرق كانوا سيرتجفون أمام ما فعله أخوالك. هذه المرة سأحكي عن خالك عبد المجيد.
قاطعته:
-وتسخر منه بطريقتك؟
فسألني بامتعاض:
-من يسخر؟
-أنت يا عم.. أتعرف كم تعذبني هذه السخرية؟. أتعرف ماذا يعني تشويه صورة جميلة في مخيلتي لأحد أخوالي؟
-وحكاياتي الجميلة التي شوهتها بأكاذيبك؟.. أتعرف كم عذبني ذلك التشويه؟
نظرت إلى العم كمال متفرساً في تقاطيع وجهه، وعلى الرغم من التجاعيد التي ملأت وجهه، إلا أن صورته القديمة هي التي أراها الآن.. ذلك الرجل الوسيم ذا الحديث الطلي، ما الذي حدث إذن، حتى ينتقم مني بهذه الصورة؟
جلجل صوت العم كمال:
-كان خالك عبد المجيد مصدر دهشة لجدك الطيب أول الأمر، ثم تحولت الدهشة إلى نوع من العذاب، وكان الجد على حق...
-عن أي حق تتحدث؟
زمجر العم كمال:
-حين أبدأ حكايتي عليك أن تغلق فمك. أهذه طريقتك الجديدة لإفساد حكاياتي؟
عندما تأكد أنني أغلقت فمي قال:
-ولد خالك عبد المجيد في بستان العائلة قبل أن تنتقل إلى المدينة. عاش بين النخيل والأشجار والجداول. طارد الأفاعي والسناجب والقنافذ. هذا كله يعرفه جدك جيداً، لكن الذي يجهله هو كيف تعلم خالك بناء البيوت، إذن، من حق الجد أن يدهش، ومن حقه أن يتعذب. كان يسأل الجدة حين يتذكر ولده عبد المجيد:
-هذا الحمار الذي هو ولدي وولدك أين تعلم بناء البيوت؟. أنا لا أذكر أن بيتنا في البستان كان من الطابوق.
كان الغضب يقطع كلام الجد في منتصفه. لم تكن الجدة ترد عليه، فهي الأخرى لا تعرف أين ومتى تعلم ولدها بناء البيوت. وخالك لم يكن ليهتم لفورات غضب والده، إنما أثبت أنه كان يمتلك عقلاً خلاقاً.. كان مهندساً عظيماً، أدخل الكثير من الفن في بناء البيوت. وهكذا أصبح أستاذاً للبناء، يعمل بأمرته عدد كبير من البنائين الذين ينفذون أفكاره التي أثارت دهشة سكان المدينة.. لقد تغيرت مداخل البيوت.. أصبحت ترتفع عن الشارع بدرجات.. الواجهات العليا ظهرت فيها النقوش، وأية نقوش؟.. نقوش من الحجارة نفسها.
توقف العم كمال عن حديثه ليسألني:
-حين أصبحت شهرة خالك عبد المجيد بهذا الاتساع، أتعرف ماذا كان شعور جدك الطيب؟
-ماذا كان؟
-الخوف.
-الخوف؟
أكد العم كمال:
-نعم الخوف.
-لماذا؟
-كان جدك يردد بحنق دائماً: أن أولادي جميعاً من الحمير، فمن أين أتى هذا؟
-يا عم إنك تشتم أخوالي.
عاد العم كمال إلى الزمجرة:
-هذا ليس كلامي، بل هو كلام جدك الطيب.
ثم أضاف بعد وقفة قصيرة:
-المهم، أن جدك كان يتعذب أكثر كلما ازداد خالك شهرة في البناء إلى الحد الذي ما عاد أحد يسميه باسمه، إنما نعت "بالأسطى". خلال عشر سنوات تغير شكل بناء البيوت ومداخلها وشبابيكها على يد الأسطى وفريق عمله الذي أتقن الفنون التي ابتدعها.
مرة أخرى توقف العم كمال عن سرد حكايته. شعرت أن حديثه سيتخذ وجهة أخرى، وجهة كفيلة بالإساءة لخالي عبد المجيد. في تلك اللحظة، تمنيت أن يتوقف حديث العم عند هذا الحد، إلا ان أمنيتي صرعها إصرار العم كمال على إتمام الحكاية حتى نهايتها:
-هل كان خالك عبد المجيد سعيداً بتلك الشهرة؟. لا أحد يعرف كيف أصابه الغم فجأة. رفض عروضاً كثيرة لبناء البيوت. لم يخرج إلى العمل أو إلى مقهى عمال البناء.. لزم البيت.. دخن كثيراً.. تقلب على الفراش أكثر دون أن يغلق النوم عينيه. أطلق زفرات، قيل إنها كانت ساخنة لدرجة قطعت قلبي زوجته وأمه، عندئذ توسلت الجدة بالجد:
-عبد المجيد يتعذب.. يجب أن تعرف ما الذي يعذبه؟
-أنا؟
بكت الجدة:
-أنت أبوه وتفهمه جيداً.
وهدر الجد:
-لو كان حماراً مثل أولادي الآخرين لفهمته.. أنا؟.. كيف أستطيع أن أفهم رجلاً يعتلي حائطاً عالياً جداً؟
لم تجد الجدة الطيبة سوى أن تجند جميع أولادها وبناتها للضغط على قلب الجد لكي يحنو على ولده عبد المجيد. ونجحت مناورة الجدة. في المساء، ذهب الجد إلى بيت الابن. ظل هناك ساعة أو أكثر، ثم عاد بوجه مكفهر. سألته الجدة عن الأمر فأجابها بحنق:
-كان علي أن آخذ العصا معي.
فصرخت الجدة:
-يا رجل كف عن هذا التصرف، إنه ليس صغيراً حتى تقرعه بالعصا. صرخ الجد أيضاً:
-لو كانت العصا معي لدققته دقاً لن ينساه أبداً.
هدأت الجدة وسألته:
-هل عرفت ما الذي يعذبه؟
-السقف.
-ماذا؟
أكد الجد بحنق:
-قلت السقف.
-أي سقف؟
هدر الجد:
-لو كنت أعرف أي سقف لارتحت. إنه يفكر منذ زمن أن يستبدل مواد سقف البيت التي هي من الخشب والبواري بمادة الجدار.
الدهشة هزت جميع أفراد العائلة. تساءل أكثر من خال لك:
-ماذا يعني بمادة الجدار؟
قال الجد؟
-سألته هذا السؤال فقال سقف من الطابوق.
أكثر من صوت ارتفع:
-سقف من الطابوق.
قال الجد:
-نعم، وحين سألته كيف يجعل الطابوق يقف في الهواء بين الجدران، أجابني أن هذا هو سر عذابه.
قالت الجدة:
-ابنك مجنون.
اعترض الجد:
-بل حمار... إنه سوف يهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها إذا عمل مثل هذا السقف. ثم من هو الحمار الذي ينام تحت سقف من طابوق معلق في الهواء؟.
قيل أن خالك عبد المجيد لم يدع العذاب ينخر روحه زمناً طويلاً، فهو مجالد عنيد وذو عقل خلاق. فجأة، قرر أن يسافر إلى بغداد. هكذا حسم الأمر بسرعة، ودع زوجته وأولاده وأشقاءه وشقيقاته وسط دهشة الجد والجدة. غاب عن أهله شهراً كاملاً، كان الجميع فيه قلقاً. الجد وحده يردد بحنق:
-لماذا أنا الوحيد الذي ابتليت بهؤلاء الحمير الذين هم أولادي؟.
أمن أجل سقف من طابوق يهجر زوجته وأولاده وعائلته؟.
شعرت بالألم يغادر قلبي ويدب بملايين الأقدام تحت جلدي. لم يترك لي العم كمال أي وقت مناسب للاحتجاج، قال:
-خرج الخبر إلى الجيران الذين لم يستغربوا الأمر، فهم يعرفون جيداً تصرفات أخوالك التي تشابه تصرفات المجانين، لكن سكان المدينة اعتبروا هذا السقف نوعاً من شيء لا يستطيعون معرفته أو تحديده. قيل أن عبد الواحد الاسكافي سأل إمام جامع النجارين بعد انتهاء صلاة الجمعة إن كان هذا السقف بدعة، والبدعة كما يعرف هو الاسكافي ضلالة...
-يا عم..
-لاتصرخ أيها العاق و لا تقاطعني مرة أخرى لئلا تشتبك عليّ الأحداث. هكذا سأل عبد الواحد الاسكافي. قيل أن إمام الجامع وقع في حيرة كبيرة، فأجاب لا أدري.
وقيل أيضاً أن السؤال كلف الاسكافي كثيراً، فقد وجدوه في المساء محطماً تماماً أمام باب بيته، ورغم أن جميع سكان المدينة يعرف من فعل ذلك، لكن أحداً لم يذكر ذلك حتى همساً، بما فيهم الاسكافي نفسه.
سألته:
-من فعل ذلك؟
-أخوالك.
-كيف عرفت ذلك؟
-المدينة كلها تعرف أي نوع من المقاتلين هم أخوالك. قطاع الطرق أولئك لا يغفرون لأحد إذا أساء لهم. ولقد فعل الاسكافي ذلك عن حماقة.
توقف العم كمال عن الحديث كعادته. أية أحداث تسيء إلى قوم أمي سيرويها هذا العم بعد هذا التوقف؟.. قال وقد اكفهر وجهه:
-حين عاد خالك عبد المجيد إلى العمارة، كادت المدينة أن ترفع بيوتها وتهرب إلى مكان آخر.
-هل أعترض يا عم؟
-لا.. عليك أن تسمع فقط. حين يحارب أب ابنه فإن الجميع، القريبون والبعيدون، يحكمون أن الأب على حق. هكذا انحاز الجميع إلى جانب الجد، والجد أهمل كل الهدايا التي جلبها له الابن من بغداد. لم يكن في ذهن الجد، في تلك اللحظة سوى البراكين والأعاصير وسقف الطابوق.. قال بهدوء حكم عليه الجميع بالكذب:
-هل وصلت إليه؟
-سقف الطابوق؟
قال الجد بهدوءه الكاذب:
-ومن يكون غيره؟
ظهرت العافية في وجه الخال عبد المجيد الذي قال:
نعم
قيل أن ثلاثة عشر من أخوالك رموا أنفسهم على الجد لكي يجعلوه جالساً في مكانه قل أن يصل إلى عصاه...
قلت:
-ألي حق في الاعتراض يا عم؟
-ولا كلمة.. أن جدك رحمه الله مليون مرة، رغم حكمته إلا أن تلك الحكمة الذي اكتسبها من الحياة لم يمر بها سقف من الطابوق.
عندئذ صرخت:
-لا تسخر من جدي.
وصرخ العم كمال:
-أنا لا أسخر من جدك أو من أي أحد. الذي حدث أرويه، أنا لست مثلك كذاباً أفسد جميع حكاياتي.
-ياأيها الرب الرحيم.. عدنا مرة أخرى؟
-هل رأيت أيها الوغد أي ألم يورثه التلاعب بالكلمات؟... ولما كان خالك عبد المجيد ذا عقل خلاق، قال أمام الجميع:
-سأبني سقف بيتي من الطابوق.
الجد المحاصر بالأبناء هدر:
-لا تقتل ذريتي أيها الحمار الذي هو ابني.
في اليوم الثاني، منذ الصباح الباكر جداً، حضر فريق عمله الذي لم يصدق الأمر، جيء بالطابوق وبألواح طويلة من الحديد. رفع سقف البيت الذي لا يغطي سوى غرفتين. وضعوا ألواح الحديد الطويلة على مسافات متقاربة، ثم بدأ العمل بالطابوق والجص. الخال هو الذي كان يبني، بعد يومين قال:
-سأنام تحت هذا السقف.
زوجته أرسلت أولاده إلى بيت الجد، وبقيت معه إلى الصباح تحت ذلك السقف دون أن يغمض لها جفن. في الصباح جاء الجد والجدة والأشقاء والشقيقات وكل الأولاد والأحفاد. طلب منهم الصعود جميعاً إلى السطح. صعد أمامهم وأخذ يقفز فوق سقف الطابوق. الزوجة أول الأقربين ذهبت إليه وتبعها الجميع. عندئذ صاح الجد:
-ليكن سقف بيتي من الطابوق.. مللت من رصفه بالطين والتبن كل شتاء.
الأغنياء وأنصاف الأغنياء والفقراء الذي وقف إلى جانبهم المصرف العقاري بنوا سقوف بيوتهم بالطابوق المعقود. خالك عبد المجيد جعل الجميع يحترم عقله المبدع، لكنه لم يحترم الزمن الذي لم يسخر من عقله، بل سخر من مهارة يديه..
-هل تبدأ الآن بشتم قوم أمي؟
قال العم كمال بهدوء:
-لا... إنني الآن، بعد أن زودني عمري الطويل بالحكمة، علي أن أبكي على خالك المبدع عبد المجيد الذي غير هندسة مدينة بكاملها، لكنه لم يفهم أن الإبداع في عقله وليس في يديه وعينيه..
قلت بدهشة:
-كيف؟
-كان عليه أن يكون فكراً قائداً، لايدين وعينين منفذتين. نسى الزمن والعمل الشاق والبرد والحر، لقد فقد قوة الشباب بالتدريج، ثم فقد قوة النظر، وبدأت يداه ترتعشان. لم يعد ذلك البناء الذي يتلقف الطابوق على ارتفاع أربعة أمتار. ما عادت يداه ثابتتان لعمل الخطوط الهندسية لمداميك الطابوق. اهتز كل شيء في علمه، ولم ينقذه العناد. أخيراً انسحب من ساحة بناء البيوت، ليعمل في بقالية صغيرة..
لأول مرة، أرى الدموع في مقلتي عمي. قال بصوت عميق أثقله الألم:
-ليرحمك الله يا عبد المجيد.. ليتك كنت أكثر عقلاً. حسن، مضى أكثر من عام و"الاسطى" المبدع محاصر بين جدران البقالية. ثم سن له عادة جديدة: قبل الظهيرة بساعة يخرج من بقاليته ويدور على الأماكن التي تبنى فيها البيوت. هناك كان العمال يستقبلونه استقبال القائد الكبير. كان يراقبهم وهم يعملون، ثم يبدأ بإزجاء النصائح لهم بعد أن يحدد الأخطاء في عملهم. أول الأمر، اعتبروا تصرفه فضلاً عليهم، لكن حين كثرت اعتراضاته بدأوا يضيقون به، لأن أصحاب البيوت يأخذون باعتراضاته ويتشاجرون معهم. شكوه إلى الجد الذي وبخه:
-لست صغيراً حتى أنصحك. اترك الآخرين وشأنهم واحتفظ بالسمعة التي كسبتها خلال سنوات طويلة.
كلمات الجد الهادئة تلك لم تشف آلام الاسطى القديم. ظل متمسكاً بتلك العادة التي أرهقت البنائين الذين تعلموا المهنة منه...
توقف العم كمال عن حديثه. هز رأسه علامة على الأسف ثم قال:
-وجاءت الحادثة التي أسقطت ذلك الاسطى الخلاق. لا أحد يعلم لماذا قرر أن يهدم الحمام في بيته ويبنيه من جديد. لقد ارتفعت الجدران بسرعة. لم يعمل معه أحد من عماله القدامى، فقط زوجته وأولاده. ثم عقد السقف. لم يكن سقفاً جميلاً، حتى زوجته عرفت أن هذا ليس بناء جيداً.. قبل أن يغسل يديه من الجص العالق بهما، دوى صوت انهيار السقف..
تساقطت دموع العم كمال، فسألته:
-بعد ذلك ماذا حدث؟
أجاب:
-خير لنا أن نتوقف عند هذا الحد.