الأبيض الغريب

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمــد شــاكر الســـــبع | المصدر : www.awu-dam.org

حين بدأت الفحوصات الأولية للعم كمال ارتفعت درجات القلق لديه، وسكنه هم وغم. انقبضت روحه المرحة، فتمتع أخوالي بنعمة السلام، وهدأت نفسي أنا الآخر إذ سلمت من سوط لسانه الذي كان يجلد به روحي جلداً لا يخلو من الرحمة. بيد أن راية السلام لم تخفق طويلاً، فبعد مرور يومين على انتهاء تلك الفحوصات عادت الطمأنينة للعم كمال الذي صرح أنه يثق بمهارة أطبائه. ولكي أنجو من العذاب القادم عما قريب، شككت بتلك المهارة، من خلال نقاش طويل وملتو، أنا نفسي لم أفهم منه شيئاً.. قال العم كمال رامياً إياي بنظرة مريبة:‏

-أيها الوغد.. هل تريد أن ترسلني إلى العالم الآخر قبل ساعة أجلي؟‏

ادلهم قلبي لهذه الكلمات التي قالها آخر عم حي لي يمر في حالة عصيبة بين الحياة والموت. هاجمني إحساس بالذنب والعقوق، وبدأت أصدق أنني وغد حقيقي.. في ما بعد اكتشفت أن العم كمال عرف الحالة التي عشتها في تلك اللحظات، فأستثمرها في غاية الذكاء... في البدء علق قائلاً:‏

-لاتحمل الهم... كلنا سنغادر إلى العالم الآخر.‏

هذا جرح جديد.... وفي الخطوة الثانية ضرب ضربته التي سددها بمهارة:‏

-ليرحم اللّه جدك برحمته الواسعة.‏

بدأت جدران الغرفة تتقدم نحوي... ها هو العم كمال يفرض حصاره بإحكام، ليجرعني الغصات بسخريته التي لا تطاق من قوم أمي.‏

سألته بصوت منكسر:‏

-ما الذي فعلته لك حتى تعاملني هكذا؟‏

-أنا الكاذب ابن سلالة كذابين؟.. أنا الذي يقص نصف الحكاية ويختلق نصفها الآخر؟... لقد أفسدت حكاياتي بأحداث أنت الذي اختلقتها...‏

قاطعته:‏

-لكنني شرحت لك الأسباب.‏

-أسباب؟.. أية أسباب؟... أنا لا أذكر ذلك، ومع ذلك سأقص عليك حكايات حقيقية، وسأرى إن كنت ستتلاعب بها كما فعلت فيما مضى لكي أدق عنقك.‏

-لن أتلاعب بما تحكيه، ولكن ابعد عن أخوالي... تحدث عن غيرهم من الناس فأكد العم كمال بنبرة رخيمة:‏

-إن أخوالك وأبناؤهم قاموا بأعمال تعجز عنها الأبالسة...‏

-يا عم..‏

-لا تصرخ في وجهي.. إن أخوالك وأبناءهم لا يشبهون الناس الآخرين.. إنهم من طينة أخرى.. ولكي تصدق ذلك، سأقص عليك ما فعله أربعة من أبناء أخوالك بجدك، وربما بجدتك أيضاً.. أربعة من الأبالسة الصغار جعلوا الجد يتعذب طويلاً... أنت كنت صغيراً جداً في زمن وقوع تلك الأحداث، وربما لم تولد بعد، توقف عن الكلام. كنت أعرف أنه بدأ يهيئ نفسه لحديث طويل... قال:‏

-حامد ابن خالك لطيف كان صبياً غريب الأطوار... لم يكن يطيق الماء أبداً. عجزت أمه وعجز أبوه عن الإمساك به وغسله، عندئذ تراكم الوسخ طبقات على جلده.‏

-أهذه أحداث تصلح للقص؟‏

زمجر العم كمال:‏

-إياك أن تقاطعني مرة ثانية.. إن قذارة هذا الصبي تسببت في أحداث اعتبرها جيران عائلة جدك ضرباً من أعمال المجانين. المهم أن حامد استحق عن جدارة لقب "الوسخ"... هذا اللقب الذي اقترن باسمه زمناً طويلاً. كانت ملابسه قذرة أيضاً إلى الحد الذي استحالت فيه معرفة ألوانها الأصلية. كان يلف رأسه بكوفية قيل أن لونها أبيض عندما ارتداها أول مرة. ساح هذا الصبي القذر في جميع شوارع المدينة راكضاً وراء الحمير المحملة برمل الشواطئ، أو مطاردة الكلاب. الغريب أن العائلة أهملت شأنه، بل نسيته... اسألني لماذا؟‏

-لماذا؟‏

-لأسباب كثيرة. أهمها أنه أثار اشمئزاز النساء والرجال، وربما كراهيتهم لعناده وخوفه من الماء، ثم إنه ترك المدرسة في وقت مبكر، إضافة إلى أنه ابتعد عن المحيط الذي يقع تحت أنظار أفراد العائلة. هذا الصبي القذر غزا عالم المدينة المترامي الأطراف. كان يرى متسكعاً في كل مكان، حتى في مقابر المدينة القصية. أشبعه أبوه وأعمامه ضرباً، عله ينضوي تحت خيمة العائلة، إلا أنه كان يلعق مواطن أوجاعه كما يفعل الكلب. ولقد اهتم الجد به، غير أنه أهمل شأنه معلقاً:‏

-من يصدق أن جلد هذا الصبي يشبه جلد الجاموس؟.. أنا أجهل السبب الذي يكمن وراء انتقام الرب مني، وإلا أي أحفاد كلاب هؤلاء؟‏

وبالتدريج، أن بمرور الزمن نسي أفراد العائلة حامد الوسخ. بيد أن حامد كان ذا نفع لنساء العائلة، فقد سخرنه لشراء حاجاتهن من دكاكين البقالة أو من الأسواق.. ولم يرفض طلباً لإحداهن، على الرغم من أنهن كن يخاطبنه بلقبه، وهو نفسه لم يشعر يوماً بالغيظ من هذا اللقب الرديء.‏

قفزت من مكاني جراء الضحكة المجلجلة التي أطلقها العم كمال. أيقنت أن أحداثاً أكثر إثارة، أو أكثر غرابة سيرويها هذا العم الساخر.. قال:‏

-اختفى حامد الوسخ فترة طويلة من محيط العائلة، وفي تلك الفترة ظهر أكرم وحسن وكنعان.. هؤلاء هم أولاد خالاتك الذين شكلوا عصبة مشاكسة... ثلاثة قطاع طرق صغار ملأوا المحلة بالمعارك والمقالب.. اشتبكوا مع أقرانهم ومع جيرانهم. لم يسلم أحد من أذاهم.. وذهبت كل العقوبات التي أوقعت بهم سدى، كما يقال. وحين ظهر حامد في أزقة المحلة، أثار ظهوره لدى جميع العوائل.. هذه المرة، أنا الذي سألته:‏

-لماذا؟‏

-لأنه عاد بلعبة غريبة لم يألفها الصبيان.‏

-لعبة غريبة؟‏

-نعم.. إنها البوكر المكشوف.‏

كدت أقفز إلى خارج الغرفة، واحتج العم كمال:‏

-ألا تصبر؟‏

-الصبي حامد يعرف لعبة البوكر المكشوف؟‏

أكد العم كمال:‏

-وعلم هذه اللعبة لصبيان المحلة وسرق نقودهم.‏

-لن أصدق.‏

-بل تصدق.‏

-قلت لن أصدق.‏

زأر العم كمالك‏

-إذن، أنا في سبيلي إلى تحطيم رأسك.‏

هدأت وهدأ العم أيضاً، ثم واصل حديثه:‏

-علمهم قواعد اللعبة، لكنه لم يعلمهم المهارة التي احتفظ بها لنفسه. ووقع في شراكه قطاع الطرق الثلاثة. حاولوا بكل الوسائل أن يلحقوا به الخسارة، لكن مصروفهم اليومي كان ينتقل من جيوبهم إلى جيبه. شعروا بوطأة الهزيمة.. شعروا؟.. بل انسحقوا تحتها. كيف يحدث هذا لهم؟.. وعلى يد مَنْ؟... على يد ابن خالتهم، ذلك الذي يطلق عليه الجميع: الوسخ؟... قرر كنعان أن يخدع حامد فسأله يوماً:‏

-كيف يمكن أن يكسب شخص بشكل أكيد؟‏

فأجابه حامد:‏

عليه أن يأتي بقول آس أوستريت فلوش أو كاريه أو كينت.‏

انغلق الطريق على قطاع الطرق الثلاثة أمام هذه الأسماء المحيرة. سألوه كثيراً وأجاب كثيراً. في اليوم الثاني، وعندما اجتمع الصبيان الأربعة لكي يلعبوا حدثت المصيبة الأولى...‏

-مصيبة أولى؟‏

-نعم.. فبعد أول دورة من اللعب، ضاعف قطاع الطرق الثلاثة مبالغ الرهان.. الدهشة أصابت حامد، فقد تغيرت الأوراق المكشوفة أمامه.. كل واحد من أبناء عماته يملك "آسين"، وهو يمتلك "أساً" واحدة.. ماذا جرى؟.. إنه يعرف قواعد اللعبة، وليس بمقدور أحد أن يغشه بهذا الأسلوب. وافق على مضاعفة الرهان، وحان كشف الأوراق المستورة.. النتيجة كانت معركة دامية بينه وبينهم.‏

-لماذا؟‏

-لأن أوراقهم المستورة كلها "آسات".. يعني هناك اثنتا عشرة "آساً" وهذا غير ممكن. هكذا ألحق الهزيمة بهؤلاء الغشاشين الصغار. هذه هي المصيبة الأولى التي جرت وراءها المصيبة الثانية. لقد عاش أكرم وحسن وكنعان بضمائر معذبة، فقرروا أن ينتقموا من حامد الوسخ انتقاماً ستتحدث به الناس. قيل أن كنعان هو من خطط لهذا الانتقام:‏

-لنغسله ونجعله نظيفاً.‏

تحمس حسن وأكرم لهذه الفكرة، وأعدوا عدتهم بنشاط ومثابرة.. سرقوا ثلاثة صخور سود صغيرة من حمام الرجال العمومي في سوق النجارين، فهذه الصخور لحك جلد حامد. سرقوا عدة قطع من الصابون من أصناف متنوعة، إذ ربما نوع واحد لا يؤدي المهمة، كما سرقوا حبل غسيل من بيت الجد. في ظهيرة أحد الأيام استدرجوا حامد إلى شاطئ نهر الكحلاء، وهناك هجموا عليه وطرحوه أرضاً.. ربطوا رجليه بقطعة من الحبل، ثم نزعوا عنه ملابسه، قلبوه عدة مرات من أجل أن يربطوا يديه... قطع العم كمال كلامه ليعلق:‏

-أولئك الأوغاد الثلاثة فعلوا ما لم يفعله الشيطان. حكوا جلد ابن خالهم حكاً بصخورهم السود، إلى حد أن الدم سال من أكثر من موضع في جسم حامد. تمت عملية تنظيفه وسط فضيحة جلبت التعاسة والبؤس للجد، فقد تجمع الناس على صراخ حامد الذي لم ينقطع. لم يرحم قطاع الطرق ابن خالهم، بل غسلوه بالصابون عدة مرات، وحملوه وأغطسوه في النهر عدة مرات. غلسوا ملابسه فظهرت ألوانها التي غابت عن الأنظار زمناً لم يستطع أحد تقديره. في ذلك الوقت العصيب بالنسبة لحامد، تناقل الناس هذا الحادث، حتى وصل العائلة، فهرع الجد لينقذ الصببي المنكود الحظ من شر أبناء عماته، غير أن الجد حين رأى حامد أصابه الهلع:‏

-الهلع؟‏

أجاب العم كمال:‏

-نعم... هنا حدثت المصيبة الثالثة التي أحزنت الجد طويلاً.‏

سكت العم كمال ولم أشأ أن أسأله، فحديثه وصل إلى الجد الذي يتوجب عليه ألا يسخر منه. لم يتحمل العم كمال هذا الصمت، فقال:‏

-أمر الجد أن يحملوا حامد إلى بيته. في البيت أمر أن يحضر جميع أولاده وبناته. كان مجلساً عائلياً ينقصه الاتزان والتروي. انشغل الجد بالنظر إلى حامد، ثم النظر إلى أمه وأبيه، إلى أولاده وبناته، إلى زوجته، إلى الأحفاد الذين حضروا.. وأخيراً انطلق الرعد من فمه:‏

-انظروا إلى هذا الصبي.. يبدو لي أنه من سلالة كلاب أجنبية. نظر الجميع إلى حامد، فارتسمت الدهشة في وجوهم.. اكتشفوا أن بشرة جلده شديدة البياض، وبشرتهم تكاد تكون سمراء محروقة.‏

وهدر الجد:‏

-من أين جاءه هذا البياض الذي يعمي العيون إذا انعكست أشعة الشمس؟.. أنا واثق أنه سيعمي العيون.. ثم خاطب أمه:‏

-أنت ابنة أخي، وزوجك الحمار هو ابني، لكما البشرة نفسها، فمن أين جاء هذا الأبيض الغريب؟‏

وهتفت إحدى عماته:‏

-يا أبي...‏

-ماذا أيتها الحمقاء:‏

وأجابت الحمقاء:‏

-انظر إلى شعره.. إنه أشقر.‏

تحول صوت الجد إلى دمدمة رعد:‏

-وشعره أشقر؟... يا إلهي.. شعره.. نعم إن شعره أشقر...أريد أن أعرف من أين جاءنا هذا الكلب الأجنبي؟‏

صرخت أمه:‏

-إنه ابني وابن أبيه.‏

تساءل الجد بهدوء غريب:‏

-ابن أبيه؟... هذا الحمار الأسود ينجب هذا الكلب الأبيض؟.. وفوق ذلك يمتلك شعراً أشقر؟... دعيني أجد العصا أولاً ثم أقول لك أنه ابن أبيه.‏

قيل أن الجميع حاول الفرار، إلا أن صوت الجد ألصقهم في أماكنهم... ثارت أم حامد فلطمها الجد لطمة قاسية...‏

تنبهت إلى مغزى حديث العم كمال فقلت بحنق:‏

-يا عم أنت تتحدث بكلام رديء عن خالي لطيف وزوجته وابنه.‏

رد العم كمال بحنق أيضاً:‏

-أنا أسرد لك ماحدث... هذا ما قاله جدك.‏

-لكن والد جدتي كان أبيض البشرة وذا شعر أشقر.‏

-إن الجد هو الذي خلق هذه المصيبة حين نسي أوصاف والد الجدة.‏

-لن أصدق هذا.‏

-بل عليك أن تصدق لأنني سأروي ما بقي من الأحداث.‏

أحسست بالقرف من الحكاية كلها. وطنت النفس على أن لا أسمع ما تبقى من الأحداث، غير أن العم كمال لجأ إلى التهديد. رضخت للأمر مواصلاً السماع.. قال العم:‏

-أول مرة تتدخل الجدة في كل هذه الفوضى فخاطبت الجد:‏

-ما الذي تقوله؟‏

-قلت ما قلت وأنت سمعت ذلك.‏

فغضبت الجدة وهدرت هي الأخرى:‏

-يبدو أن هذه العائلة كلها من المجانين.‏

غاض الدم في وجه الجد وهمهم:‏

-ماذا؟... ماذا؟‏

-كيف تتهم أفراد عائلتك؟‏

-أتهم؟.. هذا الأبيض الغريب و...‏

قاطعته الجدة:‏

-هل نسيت أن أبي أبيض البشرة وذو شعر أشقر؟‏

تساءل الجد بدهشة:‏

-هل كان أبوك كذلك؟.. أنا لا أذكر ذلك.‏

فزعقت الجدة:‏

-ماذا؟‏

-يا امرأة لا تصرخي.‏

والتفت الجد إلى أكبر أولاده وسأله:‏

-كيف كانت أوصاف جدك؟‏

قيل أن الابن الأكبر ظل صامتاً فصرخ الجد، فأجاب متلجلجاً:‏

-لا أذكر.‏

-كنت كبيراً حين مات وهل كان أبيض البشرة؟..‏

هل كان شعره أشقر؟‏

-لا أذكر... لا أعتقد أنه كان كذلك.‏

صرخت الجدة وبكت النسوة. خرج أخوالك بقلوب محطمة، وحزن الجد حزناً قاتماً، وساهم حامد في إعادة الأمور إلى ماكانت عليه سابقاً، فهو لم يستطع أن يتحمل النظافة طويلاً، ونجح في إعادة القذارة إليه بسرعة عجيبة، وقيل أن الجد علق بحزن:‏

-ها هو يصبح أسود ليشابه قطيع الحمير السود الذين هم أولادي.‏