ستلايت

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد قرانيا | المصدر : www.awu-dam.org

 

احتالَ الأحفادُ على الجدّ ليقضيَ السهرةَ معهم. قالوا له:‏

-لن تنامَ هذه الليلة بعد صلاة العشاء مباشرةً .‏

أسمعوه بيتاً من رباعيات الخيّام " فما أطال النوم عمراً.."‏

حاول الجدّ الاعتذار لأن ليلَ الصيفِ قصيرٌ، وإذا سهر، فقد لا يتمكن من الاستيقاظ والذهاب إلى المسجد لحضور صلاة الفجر جماعةً. لكن الإلحاحَ كان أقوى من اعتذاراته.. ثم إن الأحفاد أقبلوا عليه وأنهضوه، فألبسوه حذاءه، وسحبوه من يديه:‏

-سنجعلك تبتعد قليلاً عن بيتك وزمنك وعالمك..‏

فما كان منه إلاّ أن حوقل ثم قال:‏

-أعطوني إذن. العكازة والسبحة..‏

لم يكن منزل الحفيد بعيداً. استقبلته زوجةُ حفيده الشابةُ مرحّبةً:‏

-زارتنا البركة يا (جدّو).‏

أجلسوه في صدر الغرفة. احتفلوا به. عاملوه معاملةَ فاتحٍ عظيمٍ قادم من أعماقِ الزمن. فالسبعةُ والسبعون من سنيّ العمر تجعله متشبثاً بالماضي، وهو الذي شهدَ الحربين العالميتين. وخبرَ بنفسه حكم (العثمانلي) وعاين بنفسه جنودَ غورو وهم يقصفون البرلمان. ويذكر دائماً أنه اكتوى بظلم الاقطاع أكثر مما اكتوى بنار الأجنبي.‏

قدّموا الفاكهة. قشّروا له التفاح، ومع أن الجدّ كان يحتفظ بأسنانه سليمةً، إلا أنه لم يأكل سوى جزءٍ من التفاحة.‏

تشعّبَ الحديثُ.. كانت ذاكرةُ الجدّ خصبةً، وحياتهُ زاخرةً بالتجارب الثرّة، والحديثُ دافئٌ.. داعبوه.. جعلوه يبوح بحكاياه. تحدّث بأناةٍ. نَقَلَ إليهم صوراً من البراءة التي كانت تسود الحياة في مطلع العمر.‏

قال أحد الأحفاد:‏

-دعنا من حكايا جدّي القديمة قليلاً.. وأرنا كيف يعيش العالمُ اليومَ بالستلايت.‏

ضغط جهازَ التحكّم. اتجهت الأنظار إلى الشاشةِ الصغيرةِ التي بدأتْ تعرض شوارع العالم وأسواقه وملاهيه.. كان الجدّ حادّ النظر، وكان ينظر بعينين منبهرتين. وعلى الرغم من أنه قد عَرَفَ التلفاز وشاهده مراتٍ بالأبيض والأسود، فقد كان هذه المرّة مصعوقاً. إنه يرى المثير والمدهش. الأرقامُ تتوالى أمام ناظريه، وكل رقمٍ يقذف بجديدٍ غريب.. ظهرت على الشاشة صورةُ رجل وامرأةٍ عاريين في السرير.. ضحك الأحفاد. لم يستوعب الجدّ المنظر أولَ وهلةٍ، لكنه عندما ثبّت ناظريه، ما لبث أن وضع كفيه على وجهه، وتململ في جلسته.‏

كان الجميع يراقبونه، قال الحفيد:‏

-ما بكَ يا جدّي؟! من المؤكد أنكم لم تعهدوا مثيلاً لهذه المناظر في زمنكم.. العالم تغيّر. انفتح أمام الجميع.. نحن ننتقل في اللحظةِ الواحدةِ من قارّةٍ إلى قارّة..‏

الشاشة لا تزال تعرض اللعبة المثيرة بين الرجل والمرأة. انتقلَ الجدّ ببصره إلى الأرض. تنهّدَ بعمق.. عَبَرَت أفقَ ذاكرتِهِ مواقفُ مثيرةٌ من عهدِ الطفولةِ والشباب.‏

قال في نفسه: "أعوذ بالله!"‏

سأل الحفيد:‏

-أليست مثلُ هذه الصّوَرِ جديدةً عليك؟!‏

أغضى الجدّ حياءً، ثم همّ بالنهوض. تمتم:‏

-آنَ لي أن أعود.‏

تمسك به الجميع.. قال أحدُهم:‏

-ستنام الليلة هنا، ولن نعفيكَ من الجواب. قل لنا يا جدّي الحبيب. هل كان الواحد منكم يرى مثلَ هذه المناظرِ في شبابه؟!‏

تململ الجدّ من جديد. ظهر عليه التبرّمُ. وضعَ سبحته في جيبه. بحثَ بناظريه عن العكازة.‏

أعادَ الحفيدُ تساؤلهُ مُلّحاً. قال الجدّ متضايقاً:‏

-لماذا تحرجونني؟! لماذا تعيدونني من السابعة والسبعين إلى السابعة؟! الإقطاعيون عندنا سبقوا أوربا في هذا المجال بزمنٍ طويل.‏

تلهّفَ الجميع لمعرفة ما يرمي إليه.. أطفأ الحفيد التلفاز. عادتِ الأنظار تتوجّه إلى الجدّ، تنتظرُ تحرّكَ شفتيهِ للإفصاحَ عما في مكنونه.‏

قال الجدّ حيّياً:‏

-شاهدتُ مثلَ هذا المنظر عندما كنتُ طفلاً، حين دخلتُ دارَ (البيك) الكبيرةَ ذاتَ صباح،ٍ وأنا أحمل إبريق الحليب.‏

-ماذا شاهدت؟! وماذا حدث؟!‏

-أُصبتُ يومئذٍ بالذهول، فوقع إبريق الحليب من يدي.‏

-ما الذي أذهلك؟!‏

-منظر (البيك) مع الخادمة. المنظرُ نفسُه يتكرّرُ اليومَ!‏

-هيه. ثم ماذا بعدُ؟‏

-نبّهَ صوت سقوط الإبريق (البيك) فنهض مذعوراً ليضربني.‏

ضحك الجميع وقال أحدهم:‏

-من المؤكدّ أنها كانت ضرباتٍ موجعةً‏

نهض الجدّ، وقال:‏

-لا.. لم يلمسْني لأني هربتُ.. أعطوني العكازة.