المرأة والبهلوان

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد قرانيا | المصدر : www.awu-dam.org

تنّهدتْ وهي تبكي فوق سرير النوم، تمتمت "ليس الذهب كل شيءٍ في الحياة!" بكتْ بكاءً حاداً. تناوشتها الأفكار والهواجس. تمنّت لو تنتهي بها رحلةُ العمر عند هذه اللحظات.. وكلُّ النجاح الذي أحرزته في ماضيها، والسعادة التي عبرت بها، تغدو سراباً، لا تعادل هذه النوبة المخزية التي نكبها بها هذا البهلوان الشاب، حين صفعها بعجزه، وهي في أوج لحظات رغبتها كامرأةٍ غير عادية، بدأت تدلف إلى مرحلة العجز والشيخوخة...

..‏

عادت بها الذكريات إلى العهود المخملية، الدافئة.. يوم صعدت المسرح في بدايات حياتها وقابلها الجمهور بالتصفيق الحار. والتفّ حولها المعجبون فأغرقوها بالشراب وغسلوا جسمها بعرق المتع الحسية، يوم ابتدأت النقلة الجذرية من عالم الفقر والجوع إلى عالم الأضواء والمال والمعجبين، كان الجمال والجسد جواز سفر للعبور إلى الجانب الآخر من العالم الصاخب الماجن الذي أنساها كل شيءٍ حتى الأم الأرملة تحولت في ماضيها إلى ثقبٍ أسود عمل الزمن على تضييقه، وتغطيته بطبقةٍ كتيمة من الصدأ لم تُبقِ له وجوداً.‏

..‏

أول رجلٍ عرفته عن كثبٍ كان صاحب المنتجع.‏

-سأجعل منك حكاية الوسط الفنّي. ستكونين قمراً في سماء الليالي التي ستختفي نجومها. عاملها في البداية بكل أدبٍ وتهذيب. اقتنعتْ في قرارة نفسها بأن ما يروّجونه عن أخلاق أصحاب المنتجعات الليلية ليس سوى إشاعات لا أساس لها من الصحة. إنه في قمة الأخلاق والأدب. جعلها تحسّ بوجودها الإنساني كامرأةٍ. منحها غرفةً خاصةً. لم تضبطه مرةً ينظر إليها من ثقب الباب أو من خلف ستارةٍ، أو يفاجئها على حين غرّة.‏

إنسانٌ كامل التهذيب في أوج الشباب، لم تلحظ منه نظرةً مريبةً، ولن تنسى تلك الساعة حين سمعت طرقاً خفيفاً على الباب، وجدته خلفه يقف خجلاً حيياً يغضّ بصره ويستأذن في الدخول، فلا يرفع طرفه إلى جسمها الذي يستتر بغلالة رقيقة، ويطلب إليها أن ترتدي ثوبها ليستطيع تناول القهوة معها.. آه. كم كبُر في عينها تلك اللحظة، وقد قالت في نفسها بعدئذٍ: "لو لم أكن عرفتك في هذا المنتجع الليلي، لكنت اعتقدت أنك قديس!!"‏

ألقى في روعها أنه أحبها كابنته، وهو يخاف عليها من الرجال، لذلك آلى على نفسه أن يحافظ عليها لتبقى بريئة جميلة لا يدنسها ذئب.‏

-لا بدّ أنه إنسانٌ حقيقي.. شكراً للقدر الذي ساقني إليه.‏

دفع إليها مبلغاً من المال كأجرٍ أوليّ. شكرته على كرمه وشهامته وحرصه.‏

-ستكون أباً لي، ولن تعصي لك ابنتك أمراً. أنا طوعُ بنانك..‏

لو طلب منها تلك اللحظة أي شيءٍ لاستجابت له بتسليم كامل. لو طلب الروح والجسد لقدّمتهما إليه راضيةً.. وماذا تريد من الدنيا أكثر مما هي فيه.. المال والمسكن والأثاث والخدمة والسهر والمتعة في ممارسة الحياة بحرية مطلقةٍ. إنها ترضي حاجة الجسد في الرقص كل ليلةٍ، والمعجبون يزدادون، والتصفيق الحارّ يجعلها تطير في عوالم لم تكن تحلم بمثلها من قبل، وما إن تنتهي من وصلتها حتى يتهافت عليها المعجبون، فلا تلبيّ سوى دعوةٍ واحدةٍ تطفئ فيها ظمأ الجوانح إلى الشراب الذي باتت لا تستطيع العيش من دونه.‏

تعجب أحياناً من نفسها حين تتذكر حياتها الماضية التي عاشتها بغير شراب، وبغيره لا يتخدر الجسد، ولا يرتوي من ظمأ، ولا ينتقل الإنسان إلى عوالم السحر والحب. ولا يدخل دائرة النشوة والتلاشي، فهل ثمة أعذب من هذا وأمتع؟!‏

ظلّت صورة الرجل تكبر في نفسها. أضفتْ عليه ظلالاً شفّافةً من مخيّلتها. آلت إلى صورة رجلٍ أسطوري، وتمنّتْ لو كان هذا الرجل الخيالي زوجها ووليّ أمرها على الرغم من تقدّمه عليها في السنّ، وأن تتحرك حسب إشاراته ورؤاه. ترقص بأمره وتشرب بإشارةٍ من إصبعه، تستجيب لنظراته ورغباته بكل قبولٍ ورضى، وهل تتمنى المرأة في حياتها إلاّ مثلَ هذا الرجل الغيور الشهم الشريف؟؟‏

كلّ ذلك كان على ما يرام، حتى أزفت تلك اللحظة الحاسمة، وكان أن عرفت بحواسها الرجل الأول في رحلة الجسد.‏

...‏

عادت آخر الليل، ذات صيفٍ من السهرة، دخلت غرفتها منهكةً من الشراب والرقص، نزعت غلالاتها، أسلمت جسمها للماء الدافئ تزيل التعب والعرق، ثم تمسحه بالطيب، وتستلقي على سريرها، وهي لا تزال ملتفةً بمنشفة الحمام.‏

هدأت أنفاسها أحسّت برغبةٍ سريعة في النوم تراود جفنيها، وما إن سوّت رأسها على الوسادة حتى وصل إلى سمعها طرقٌ شاعريٌّ على باب الغرفة. حسبته بداية حلم لذيذ.. فتحت عينيها بين الحلم واليقظة، العزف يتوالى على باب الغرفة. تنهض تطالع وجه الرجل العظيم. يدخل من دون استئذان. يجلسان معاً على حافة السرير بغير حرجٍ. تقرأ في قسماته وعداً جميلاً أخضر، يومض في هدأة هذه الليلة الوادعة.‏

"-اطلب ما تريد. أنا خادم المصباح السحري. إشارتك أمر، ورغبتك مستجابة.." عرض عليها الزواج. مَهّدَ لحديثه بعبارات لا تخلو من حكمةٍ.. "الزواج سترٌ للمرأة.. ونهاية مطاف للأنثى.."‏

على الرغم من أن الموضوع كان مفاجئاً، إلاّ أنها تحثّه على المضي في التوغّل في أبعاده، تتلهف لتحقيقه بكيانها، تتمنى الدخول في عالم الفعل الصحيح، وها هي عارية إلى جانبه، ولا تودّ أن يكون لها عرسٌ صاخب، وما عليه سوى أن ينضو عنه ثيابه، وينثني عليها ليقطف ثمار هذا البستان الناضجة الذي كان حارسه الأمين.‏

-أنا جاهزة للحظة الزفاف، وهل بين الرجال من هو أحق منك؟!‏

-لا يا عزيزتي. أنا متزوجٌ، ومن حقك أن يكون لك الرجل الكفء.. وقد أبدى أحدُ الشباب إعجابه بك وطلب أن تكوني له الليلة.‏

صمتتْ لحظاتٍ، لا لتفكّر فيما يطرح، فالرجل- في نظرها- مثالٌ للإنسانية والنبلِ.‏

إنه ليس أنانياً حين فكّر بمصلحتها لصالح غيره، وليس لصالح نفسه.‏

تحرّكت الأنثى في داخلها. ملكت عليها كل جوارحها "أنا أنثى، وقد تلهفت لهذه اللحظة منذ أمدٍ بعيد.."‏

وكان الرجل الذكر الأول في حياتها.‏

لا تزال تذكره بثوبه الأبيض الطويل، وغطاء رأسه المزيّن بعقال مائل، وسماتٍ شرقية، والجسدُ تربةٌ توّاقة للمطر، ما إن شربت ماء الحياة حتى تفجرّت ينابيع خصب، وتندّى عشب، وأزهرت أغصان، وغنى السرير أغاني الحب.‏

وينبلج الصباح فلا تنهض إلاّ مع غبش المساء، لتجد بجانب سريرها ورقة كتبت بخطٍ ردئ "سأواظب على منتجعكم كل صيف. شكراً لنادي العذارى.."‏

وآه يا جسد امرأةٍ تطلّع إلى أكثر من ليلة لقاء، ولكن هيهات..‏

..‏

كان الذكر الثاني أنيقاً جدّاً.‏

لم تهتمّ بما همسوه من حولها بعد حفلات الرقص من أنها قُدّمت للرجل الأول على أنها أحدى أعضاء نادي العذارى، وأن الليلة كانت بمليون.. لا شيء يهمّ.. والليالي تتوالى والسهرُ يطيب، والرقصُ مهنة تدرُّ الذهب، وتستدرّ أكفّ المعجبين بالتصفيق، والدعواتُ كثيرةٌ متواصلة ومغرية، والجسد يستعر برغبات لا حدود لها، والرجل الآخر كان أنيقاً، وجدته يزيّن غرفتها بأبهته وعظمته.‏

قال ولي نعمتها الذي كان لا يزال عظيماً في نظرها:‏

-أنتِ تستحقين كل خيرٍ.‏

سألت وهي تدرس تفاصيل الجسم الذكري الذي سيخفف من شبقها:‏

-الزوجُ الثاني أليس كذلك؟!‏

كان لبقاً مهذباً. جعلها تتوق إليه. همس معتذراً:‏

-سننصرف معاً إذا لم يكن لك رغبةٌ في ذلك؟‏

"لن أكذب على نفسي. لقد خفتُ أن يفلت من يدي. فأنا لا أتوق إلى أي شيء في العالم هذه اللحظات كما أتوق إليه".. إنها تدفع عمرها لقاء تجربة ذاقت حلاوتها مرةً في العمر، فلماذا لا تتكرر اللعبة، وكل ما حولها يثير فيها الرغبة، ويطالبها بالارتواء حتى الثمالة..‏

شكرت ولي النعمة، واعترفت أنها مدينة له بالكثير، ثم جعلت الغرفة تغرق بأضواء حمر، وسفحت عطوراً مثيرة، وسُمع مواء داخلي متبادل، تنّزى ألقاً وغزلاً وحباً وارتواءً وانطفاءً، وحين بسطت الظهيرة خيالاتها على الستائر، فتحت عينيها، فلم تجد إلى جانبها أحداً، وكأن كل ما كان ليس سوى حلمٍ لذيذٍ. فمطت شفتيها وتمتمت: "لا شيء يهم ما دام كل شيءٍ جميلاً وشهياً ولذيذاً" وها هو الزوج الثاني أو العاشر أو الألف يعرّفها بنفسه: "أنا إمبراطور الماس، وصاحب أسطول يجوب البحار، وعندي "يختٌ" للجميلات الصغيرات" لا شيء يهمّ ما دامت اللعبة مثيرةً تفضي إلى المال والمتعة، والرجلُ الشرقيّ الأوّل بعد الألف الذي عرفته يعلن عن نفسه بأنه "مسؤول كبيرٌ في جزر الواق واق، وبإمكانه أن يجعل منها ملكةً على عرش سلطانه، وسلطانُه يضم الشرق والغرب، وصولجانه يفكّ الأسير والسجين. وهاتِ يا حب، وانتثرْ يا مالُ، وتشظَ يا جسد، وما عليك إلا أن تقول أريد لبنُ العصفور حتى يحضر بين يديك، أو أريد أن أرى نجوم الظهر، حتى تظهر في وضح النهار.‏

في فترة الشباب تلك لم تكن تدري أن الشراب خراب ودمار، وأن للجسد طاقةً سيتوقف بعدها، وأن الحياة محطاتٌ، والعمرُ كما يقول المعمرّون غمضةُ عينٍ، نسيت في غمرة احتفالات الجسد، وتهافت أصحاب الجاه والقرار، كل شيءٍ، ولم يستقرّ في خلدها إلاّ أنها أنثى تعطي وتأخذ، وصاحب المنتجع -ولي النعمة- يحقق لها المتع والمال، ولعلها تدري أو لا تدري أنها أصبحت بقرةً حلوباً في حظيرةٍ، وها هو العمر يتقدّم، والجسدُ يترهّلُ شيئاً فشيئاً، ويبدأ ينحدر من أعلى الهرم، ورصيدها المصرفي يتزايد. ولا بدّ بعد كل ذلك من وقفةٍ ومراجعةٍ، ولتبكِ ما طاب لها البكاء!‏

..‏

تبكي الآن فوق سريرها، متحسرّةً على عمرٍ مضى لم تحصد منه سوى متعٍ زالت بزوال لحظاتها، ومالٍ كثيرٍ، ولكن ماذا يجدي المالُ، وليس لها من ماضيها شيءٌ تفخر به، والعمرُ يولّي مسرعاً، وهو كالماء في باطن الكفّ، يهرب من بين الأصابع.‏

عندما جلست ذات يومٍ تراجع حساباتها. فكرت:‏

"أنا مدينةٌ لهذا الرجل بالكثير، صحيح أنه استفاد مني، لكنه أفاد أيضاً، ولكن إلى أين سيؤدي بي المسير في هذه الحياة الصاخبة؟!.. أنا لن أنكر رعايته، لكن الحياة الممتعة التي أدمنت دقائقها ومعطياتها، والشراب الذي أدمنته، أحسّ به سمّاً زعافاً يسري في شراييني! فإلى متى الاستمرار؟!.. إلى متى، والرجال الذين عَبَبْتُ ما وسعني من حثالاتهم، أتمنى لو أن واحداً منهم له صفة الثبات والدوام، يكون زوجاً تخلص له الروح وينقطع من أجله الجسد.. ليكن ذلك المسؤول -مثلاً- الذي تسلّم إدارة الملاهي، وهو قادر على جعلي أحسّ طعم الحياة كلما شعرت في نفسي توقاً ورغبة.. آه. هل سأبقى قشةً في مهب الريح؟!.."‏

..‏

لا تزال تذكر جيداً يوم انتقلت إلى مسكنها الجديد، الذي ابتعدت فيه عن المنتجع، أنها ذاقت شيئاً من راحة النفس وطمأنينتها، ولكنها لا تنسى أنها علّقت صورته الشخصية الملوّنة والكاملة، في غرفة نومها، وعاشت مدةً تتملى تفاصيلها، تعاينها من قمة الرأس إلى أخمص القدمين بالحذاء الإيطالي المتميز. تغمض عينيها في معظم لياليها على أحلامٍ ورديةٍ، تختلف عن الأحلام التي عرفتها في ميعة الصبا، وتستيقظ كل صباحٍ على أملٍ، ربما لا يكون تحقيقه مستحيلاً، وجهاز الهاتف يصلها بالرجل الوحيد الذي ظلّ يوشّي حياتها بالأنس، ويداعب جوانحها بالمتع، ولكن..‏

ولكن هل هذه هي الحياة؟.. كل الحياة بلا زيادةٍ ولا نقصان؟.. طعامٌ وشرابٌ وسهرٌ ومواعيدٌ، وبكاءُ؟!!‏

ألأجل هذا وُجدنا في هذا الكون الصاخب؟!!‏

ألأجل هذا خُلقنا؟!!‏

ثم كان قرارها الحاسم بالابتعاد عن الرجال.‏

..‏

شاهدتْ ندوةً حيةً في التلفاز بثتها إحدى المحطات الناطقة بالعربية، واستمتعت بالأفكار الجديدة التي لم تطّلع عليها من قبل، والتي جعلتها تفكّر في ماهية الحياة، وجدوى العمر، بعد أن هجرت الملهى، وصارت تتطلّع إلى حياة جديدةٍ تمور بحبٍ حقيقي ودفءٍ حقيقي، ومن خلال الندم والحسرة، ترى الحياة الآن في حركة دائبةٍ تتغيّر وتتبدّل، كنهرٍ جارٍ يمرّ بعتبات البيوت وما علينا إلاّ أن ننهض كل صباح لنمارس رياضةً إنسانيةً محببّة، نزيل أدران نفوسنا، ثم نستنشق هواءً نقياً، ونستقبل شمساً جديدةً، وننطلق نغني للحياة، نأخذ ونعطي على أحسن ما يكون الأخذ والعطاء.‏

..‏

مرت بها لحظات ذاقت فيها طعم السكينة والطمأنينة، لحظات من الهدوء والراحة لم تعهدها في حياتها من قبل، لقد ابتعدت عن حياة الأقبية والأضواء، وها هي الآن تعيش وحيدةً، في قصرٍ يحتلّ نشزاً من الأرض إلى جوار مسجد (الشامية) الذي يرفل بالنور في كل لياليه.. ما أبعدَ ما بين البارحة واليوم!!.‏

..‏

أحبّت الندوات الروحية. لاحقتها في المحطات العالمية، وجعلتها مدار اهتمامها. شعرت بخواءٍ كبير بعتور حياتها.. العالم يتحرّك، ولا بدّ أن يكون للإنسان هدفٌ ورسالة.. ولن تنسى تلك الخلاصة التي انتهى بها أحد المفكرين في ندوته:‏

"إن النفس الإنسانية تنزع للخير، كما تنزع للسوء والشر.." وقد تكشّفت لها حياتها منذ تلك اللحظة، على أنها مجرد ماضٍ شرّيرٍ، وأنها كانت أشبه بشجرةٍ خبيثة، منظرها جميل، وثمرها مرُّ سامّ، وأنها لم تكن تعرف الخير، وأن ما كانت تعتقد بأنه حبّ في المنتجع لم يكن سوى رذيلة، فما أحوجها الآن لأن تفجرّ النوازع الخيرّةَ، فتكفّر عن ماضٍ تمنّت لو كان ثوباً لخلعته، أو عضواً معيّناً في جسدها لبترته!.‏

اكتنفتْها الحَيرةُ والأفكار المتضاربة.. تمرّ بها الساعات شاردة.. تتساءل: "إذا كانت الحياة شرّاً في الماضي، فلماذا لا تكون خيراً في مقبل الأيام" والطريق الطويل يبدأ بخطوةٍ واحدةٍ، فلماذا لا تشرع الآن بالخطوة الأولى، لماذا؟!‏

نهضت لتوّها، أمسكت بصندوق المشروب الفرنسي، وأفرغت جميع محتوياته في الحمام.. شعرت براحة وطمأنينة.. اتجهت إلى غرفة نومها. نظرت إلى الصورة الكبيرة التي تحتل الجدار، فحكمت عليها بالسقوط، ثم جلست وكأنها أزاحت أعباءً ثقيلة عن كاهلها.. تنفّست بعمق.. ما أشدّ حاجة الإنسان لأن يختلي ساعات مع نفسه ليراجع ما مرّ به!.. أغمضت جفنيها، وابتدأ شريط الصور.. وآهٍ يا ذكريات مؤسفة، لم تترك في القلب سوى الحزن والحسرة.. وأنت يا نهر الدموع هل بإمكانك غسلَ النفس من قذارات الماضي؟..‏

في النفس تنبثق آمال جديدة، ورغبات، والعمر قد لا يكون فيه متسعٌ لزيادةٍ والشرّ طاغٍ، ومنافذ الخير تغري المنفتحين على الحياة وباب التوبة مفتوح، والله يبسط كفيه في النهار ليتوب مسئ الليل. "فهل سيكون لي نصيب منها؟!"‏

..‏

في حياتها، لم يبق سوى الرجل الأخير.‏

لم يكن كبقية الرجال!..‏

قد تسخر في بعض اللحظات من نفسها، عند ما تتذكر الطريقة التي عرفته بها. يوم كانت تتابع عرضاً بهلوانياً، يقوم به ذاك الشاب الغجريّ في إحدى الصالات الفندقية حين أعجبت برشاقته ولياقته، ومقدرته العجيبة في السير على الحبل، وهو يمسك العصا بيديه، يوازن بها خطواته وحركاته المدروسة بدقةٍ متناهية، ويجري ألعابه بالصحون الورقية التي يقذفها بقدمه، ويتلقاها برأسه، مرتبةً بعضها فوق بعضه الآخر، يومذاك فكّرت بهذا الشاب البهلواني. فكّرت به تفكيراً جاداً مغايراً لتفكيرها السابق بكل الرجال الآخرين الذين عبروا فوق جسدها.. جميع الرجال الذين عرفتهم من قبل، هم الذين كانوا يفكرون بها. أما الآن، فالوضع مختلفٌ جدّاً.. وتطلعها الجديد للاستقرار جعلها تحرص على حفلات البهلوان، كانت وحيدة. تجلس مشدودةَ الأعصاب تتابع بكل كيانها حركاته.. وكاد قلبها يقتلع من بين ضلوعها حين رأته يسقط من فوق الحبل ويتكوّم جثةً هامدةً، أو كأن تلك السقطة فجرّت نوازع الخير في نفسها، فنقلته بسيارتها إلى مشفى خاص، وظلت تلازمه حتى أبلى من كسوره.‏

-إلى أين ستذهب يا بهلوان؟‏

بكى البهلوان. ذرف دموعاً سخيةً:‏

-نحن الغجر لا نعرف الاستقرار. كل يوم في قريةٍ أو في مدينةٍ، وما بين القرية والمدينة نضيع على الدروب.. كنا في الماضي نرقص على الحبال في الساحات والخانات، ونرقّص القرود والنساء، ونجمع القروش، لكننا اليوم انتقلنا إلى الفنادق. صرنا نحن القرود، وأصحاب الفنادق يحركوننا كالدمى.. كنا في الماضي نقوم بألعابنا لنسلّي الناس البسطاء، فصرنا اليوم نسلّي علية القوم.. هم يدفعون النقود لأصحاب الفنادق ونحن نسمع رنينها.. الغجري لا يملك رصيداً، ولا يرتبط بأرض أو زمانٍ أو صديق. هو أشبه بنسمة صيفٍ عابرةٍ.. النسمة تبعد الحر عن الناس، ونحن نبعد الهموم عن الموسرين، والنسمة تذهب هباءً، ونحن نذهب ونضيع.. إننا مجرّد مهرجين وقردة..‏

-يبدو أننا كلنا مهرجون، والحياة مهرجان كبير.‏

لن تنسى تلك الساعة التي اصطحبته فيها إلى بيتها، حين انبثق في داخلها تصميمٌ وإصرارٌ ربما غيّر مجرى حياتها..‏

أدخلته الحمّام. غسلته بيديها. مسحته بالطيب. خصّصت له غرفةً في (الفيلا) الفسيحة، جلست معه تحت ظلال الورد. رسمت بقربه واحاتٍ ظليلةً مفروشةً بالحبّ. اصطحبته في نزهاتٍ قريبة. جعلته يشعر أنه إنسانٌ. إنسانٌ وليس بهلواناً يؤدّي رقصة على حبلٍ لتسلية المترفين، ثم ينصرف لينام في خيمة مع قردٍ وكلبٍ وحمار.‏

امتنعت عن ارتياد المحلاّت العامة، قاطعت كل ما من شأنه أن يذكرها بماضيها. امتنعت عن الزينة، أراحت وجهها من طلاءٍ وأصبغةٍ استعمرتها سنين طويلة. واصلت مع البهلوان متابعة الندوات الفكرية. كانت آخر ندوة عن الزواج.. "الزواج نصف الدين" "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعلوا بينكم مودةً ورحمة.." "هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن.." هذا كلامٌ عذبٌ ساحرٌ.. وقع من نفسها موقعاً كأنه النقش والحفر. أخلدت للصمت. حلّقْت خلف أفكارٍ مؤرّقةٍ "لماذا لا تكون امرأةً كباقي النساء.. تتزوج وتحمل وتلد وتنعم بطفلٍ؟؟. آه. إذا منّ الله عليها بزواجٍ وأثمرَ، فستكون أسعد مخلوق، والعمر لم يبتعد عنها كثيراً.. هتفتْ من أعماقها وهي تنظر إلى السماء متلهفة: "يا رب!! يا رب!!"‏

استرجعت في نفسها حلاوة الآيات والأحاديث. ترقرت في عينيها دمعتان حارتان نظرت من جديدٍ إلى السماء: "يا رب!" لا تزال حلاوة الكلام العذب تسري في أحاسيسها فتنقلها إلى حالات فريدةٍ.. نشوة لم تحسّ بمثلها من قبل.. أسكتت التلفاز.. سمعت صوت المؤذن يتناهى إلى سمعها قادماً من مئذنة مسجد الشامية القريب عذباً رائقاً في هدأة الليل. أسبلت جفنيها لتسمح للكلمات بتخدير كيانها.. ثم نهضت بهدوء وجلالٍ فاغتسلت، وجلستْ تصلي وتبكي، وتشعر بلذةٍ علويةٍ تنتشلها من ربقة الطين وترتفع بها إلى طهارة السماء.‏

***‏

تنبّهتْ إلى البهلوان صعدّته بنظراتٍ فاحصة. شاب رياضي الجسم، مقطوع من شجرةٍ، كما هي منقطعةٌ عن الأهل والماضي والشرّ الذي أكل عمرها.. والبهلوانُ فوق كل ذلك إنسانٌ. إنسانٌ عاديٌ جدّاً، ليس ثرباً وليس مسؤولاً، وليس صاحب سلطة وجاه، وثمة تجانسٌ بين ماضيها كراقصة حلبةٍ، وماضية كراقص حبلٍ، وفارق السنّ ليس مهماً ما دام الهدف والغاية نشدان الراحة والاستقرار، والقدر يتيح لها فرصةً نادرةً، لتكفّر عن ماضٍ مُخْزٍ، ولتنتشْ بذور الخير، ولتتطاول في النفس، وهل هناك أكثر طهارةً ونقاءً من البهلوان بين جميع روّاد المنتجعات والفنادق؟!‏

في ليلتها الأخيرة، سيطر البهلوان على تفكيرها، فلم تعرف من الليل سوى الأرق، وصورته تحوم بطيفها، فيشتغل بها الخيال وتلتهب بها العواطف. تشعر أن حبها يمور في جوانبها، ينبض في العروق، يجري مع الأنفاس. وأن من المحال ألاّ تجيب داعيَ الهوى، وألاّتحصل على ما عساه يحقّق لها الصبابة والسكينة بعد هذا العناء والقلق المرير.‏

في الصباح تقلّب الأمر على وجوهه الممكنة، تحاول اختباره. تقترب منه، تنصب حبال الفتنة. تطلعه من نفسها على كل ما من شأنه أن يجذبها إليه كأنثى، تغرس الثقة في نفسه كرجل، لا كبهلوان يؤمر فيطيع.. ثم تقترب وتقترب علّها تثيره، فلا تلقى منه سوى الإعراض، وها هو يغض بصره عنها حياءً، "فما بالك أيها الغجري وابن الغجري، لا يميل قلبك إلى امرأةٍ، ولا تجنح نفسك للاستجابة ولو لكلمة غزل؟!.. وأنا الأنثى، زليخة العصر، لكنني شريفة الغرض، أرى الصدّ والتجاهل يضاعف من تعلّقي بك، وما عدت أطيق الحياة من دون شراكة معك!.. وهأنذي، أتهيأ لك، وأتصدى لك تصدّي الأنثى للذكر، وأفاتحك بالأمر صراحة، وأدعوك إلى مخدعي، وسأسدل الستائر، وأغلق الأبواب، وأهمس في أذنيك، هَيْتَ لك.‏

في المساء.. كانت المصارحة. حملق ببلاهة. فتح فمه دهشةً، أعرض عنها.. لم تدع له فرصةً للتعبير عما في نفسه.. تدفّقت الكلمات من فمها لاهثة متلهفةً:‏

-أنت موافق. أليس كذلك؟.. لا. لستَ موافقاً فحسب. أنت تكاد لا تصدق ما تسمع، سأكون لك. تتملكني بكل كياني، وسأجعل منك أميراً على عرش قلبي، وسيكون هذا القصر مملكةً تسرح وتمرح في أرجائها.. أنا أقرأ الدهشة في ملامحك.. لا تحاولْ أن تراوغ!.. لا تزعم أنك غير راغب في الزواج منّي.. الدهشة في عينيك ووجهك تنمّ عن مدى مفاجأتك بالفكرة.. انهض الآن.. انهض، وأحضر إمام الجامع القريب، قبل أن ينصرف إلى منزله.. قلت لك انهض..‏

تدفعه بيدها، فيقف وقد أسقط في يده. ينتصب كالأبله الذي لا يفقه شيئاً من المسرحية التي تمثّل أمام ناظريه مع أنه أحد شخصياتها.. لعله ممثلٌ سيءٌ.. هو بهلوان وليس ممثلاً. البهلوان حقيقةٌ ماديةٌ ملموسةٌ، ولكن التمثيل إيهام وخداع..‏

-ما لك تقف كالصنم؟!.. إذهب وأحضر الشيخ يا شيخ.. أم أنك.. أنا أقدّر موقفك.. أنت خجلٌ.. خجلٌ أليس كذلك.. حسناً سأذهب معك.‏

كان المسجد قريباً، والمصلون يخرجون من المسجد.. وها هو الشيخ يخرج متوكئاً على عصاه، من حوله بعض أتباعه..‏

-تفضّل يا سيدي الشيخ.‏

-إلى أين يا بنتي؟!‏

-ستعقد لي الليلة.‏

نظر إليها نظرةً فاحصةً، ثم ابتسم وسألها:‏

-أليس هذا الشاب ابنك؟!‏

-يا سيدنا الشيخ. أرجو ألا نضيع الوقت.‏

ركب الشيخ السيارة، وقبل أن تتحرك لتقطع المسافة القريبة، سألها:‏

-الشاهدان جاهزان. أليس كذلك؟!‏

-لا.‏

اصطحب الشيخ اثنين من أتباعه، وتحرّكتِ السيارة متمهلةً. في المنزل قرأ الشيخ عشراً من القرآن الكريم.. "إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين.." ثم قال لها ردّدي خلفي:‏

-زوّجتُك نفسي على سنّة الله ورسوله.‏

وقال للبهلوان:‏

-قبلت أن أتزوجكِ على سنّة الله ورسوله..‏

صمت البهلوان. لكنَّ الشاهدين كانا ينظران كالأبلهين، وما إن تفرّست في وجهيهما، حتى كادت تقع لفرط دهشتها. ندّت عنها صرخةٌ مكتومةٌ، وردّدت في نفسها وهي لاتكاد تصدّقُ: "أأنت.. أأنتَ يا عظيم، قد نبتت لك لحية بيضاء، وتتوكأ على عكازة.. ياه.. لشدّ ما يتبدّل الإنسان!!.. ولمن تركتَ المنتجع؟!.. وأنتَ.. أنتَ يا مسؤول الأمن.. ها قد صارت لك جبةٌ وعمامة! فلمن تركت الملاهي ونساءها؟!!.. أراك صحوت أخيراً.. صحوتَ. صحوت، ولكن هذا غلطٌ. غلطٌ فادح. غلطٌ أن تتخلى عن مسؤوليتك، بعد أن دخلت مرحلة الصحو.. أنا خبرتُ حياة الملاهي.. ولا أحد يعلم مثلي مقدار ما تحتاج إليه أماكن الليل من صحو..‏

قال الشيخ، وهو مندهشٌ من حملقة عينيها:‏

-ذريةٌ صالحة..‏

قبل النوم بكى البهلوان!.. بكى كثيراً، وهي تظن أنه بكاء الفرح، وهذه العبرات التي تتفجر من عينيه، تزيده في ناظريها ألقاً وروعةً.. ولكن ما باله يتمادى في البكاء حتى يكاد لا يكلفُّ عنه؟!‏

-لماذا تبكي أيها البهلوان الحبيب في ليلة زفافك الخالدة؟!.. لماذا تبكي؟! أنا أسمع أن المرأة هي التي تبكي خوفاً من هذه الليلة الفاصلة في حياتها. ولكن الشباب لا يبكون.. الرجال لا يبكون يا حبيبي. الرجال لا يخافون من ليلة الزفاف، أم أن الأمور قد انعكست في هذا الزمان.. تذكر يا حبيبي أنك رجل. ولا يليق البكاء بالرجال.. البكاء للنساء، للأطفال، يا حبيبي. كن رجلاً.‏

بعد النوم..‏

بعد محاولة النوم، أخلد البهلوان للصمت والوجوم، بينما انخرطت -هي- في موجةٍ عارمةٍ من النحيب الصاعق.. بكت دماً وحزناً وحرقةً وحسرةً. انهال شعرها المرسل على وجهها فغطاه، وبلّلته الدموع الغزيرة، حتى التصق بالوجه، ورسم فوقه غطاءً ممزقاً، ثم توقف النحيب قليلاً، ليحلّ محله النشيج المرّ..‏

تزيل بأصابعها الشعر عن عينيها. تنظر إليه شزراً. تمسكه من شعره. تشدّه بأصابع متشنجة وتسأله بحرقةٍ:‏

-لماذا. لماذا لم تخبرني بالحقيقة؟! لماذا لم تقل لي؟! لماذا لم تخبرني من قبل بأن كل البهلوانات مخصيون؟!.. لماذا لم تعلمني خلال وجودك معي طوال هذه المدة بعادات الغجر؟! لماذا لم تخبرني بأن أهلك قد خصوك لكي تبقى بهلواناً.. ولكن ما أشدّ غبائي، كان يتوجب عليّ أن أفهم أن الغجر هم بحاجة إلى المال وليسوا بحاجةٍ إلى الرجال..‏

ولكن يا إلهي.. لماذا يخصون الرجال؟! ألم يفكروا فينا نحن النساء؟!‏

لماذا يخصون الرجال. لماذا؟!..‏