أرواح ممسوخة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : أنيسة عبود | المصدر : www.awu-dam.org

 

"ابتعدوا عنّي"‏

قالها وراح يخلع عمامته، ثم يعلقها إلى الساموك. بعد ذلك خلع سترته السوداء. دخل الحمام... توضأ. وجاء يفرش سجادة الصلاة.‏

تحلقنا حوله حتى انتهى. أمي تدخل وتخرج صامتة. هي لا شأن لها إلا بالمطبخ والغسيل والرد على الطلبات اليومية.‏

ابنه البكر أنا. محمد بن حاج زكوان. لا بدّ أن أبي مجروح منّي أنا تحديداً. اقتربت أقبلّ يديه. "ماذا هنالك يا أبي؟ تعرف بأني كنت مسافراً. قل ماذا تريد؟!‏

"أخوتك يا محمد..."‏

"ما بهم...؟!"‏

مسح على وجهه كأنه يريد مسح علامات التأثر والأسى. بسمل وحوقل. ثم صمت.‏

انفضّ أخوتي بعيداً. بقيت وحدي معه. "هات دفتر العائلة"‏

"لماذا؟" سأشطب أخوتك عن دفتري. لا أريد أن يكون لي أولاد. أشعر أني مقدود من حجر. "ويله الذي لا ظهر له"‏

"يعني أنت ليس وراءك أحد يا أبي".‏

"هكذا أشعر يا محمد"‏

صوته كان يتهدج، يداه ترتجفان. حمل خيزرانته ومضى خارج المنزل. غاب وراء أشجار التين. ابتعد إلى حقل السمسم. لكنّي تبعته.‏

يا لهذه الأرض المترامية. منذ زمن لم أمشِ بها فقد حجرتني الوظيفة في المدينة، وحجرّت مشاعري تجاه الأرض. ما عدت أشعر برائحة العشب والتراب المبلول... السيد عاصم قال لي: اجلب لي معك نعناع بلدي. وشنكليش بلدي... أريد أن أشعر بوجودي كإنسان منتمٍ...‏

"كإنسان منتم أم كإنسان يريد أن يبهرج حياته المرفهة ببعض الفلكلور؟!"‏

"يا أخي لسانك..."‏

"لا تقل أعرف النهاية. ألا يقال لسانك حصانك؟! أو..."‏

ها أنا أسير وراء أبي.. أتبع خطاه أينما ذهب. أخيراً لا بد له أن يتعب. وأن يقعد على تخم من التخوم أو في ظل شجرة تين محايدة. الحرارة شديدة. والرطوبة عالية. لماذا أحسّ الآن بقسوتهما؟. سابقاً لم أكن أتضايق من هذه الرطوبة. ولم أكن ألهث من شعاع الشمس عندما أختبيء في الزرع كي تمر "نجلا"‏

"أما تزال تحبها يا محمد؟!"‏

"لا أعرف... ربما أحبّ فيها شبابي وفورة الطموح والمشاعر. هي تذكرني بأجمل فترة من فترات العمر. عندما تنفتح لأول مرة على الدهشة والحب والشوق والجمال والرغبات".‏

لا. لا ما عدت أحبها... أكذب إذا قلت غير ذلك. بل أحب فيها ذاتي أنا.‏

أصطدم بشهد النصّوح... يفور. يتغلغل في ثيابي. أركض. يتبعني. أتواجه مع أبي على تخم السمسم قرب قبّة من قبابة الواقفة.‏

"أنت؟!"‏

"أجل يا أبي. جئت وراءك. لكن النصوّح لسعني. لا يهم. المهم أنت لماذا زعلان؟!"‏

نهض... لفّ سيجارة تبغٍ عربي. أشعلها... راح يمجّ... ساد الصمت والهجير. تأملته. قسوته تتفصد مع كل رشفة من التبغ... عصاه ما تزال قابعة على ظهري. صوته ينحر الهدوء الغافي على وسائد الطفولة. لكن لكن أبي!.‏

"أتحبني يا ولد؟"‏

أجل... ما زلت ولداً. ولو أني تجاوزت نصف قرن وأنجبت عدة أولاد.. ما زلت ولداً أركض أمامه. وأخاف عصاه وأحتمي في حضن أمي كي لا يضربني. لكنه لا يتوقف عن ثورته إلى أن يضربني أنا وأمي ويقول "تربيتك عاطله يا سكر.."‏

"وتربية زوجتك خديجة محترمة؟!!"‏

ها هو قد انحنى قليلاً. وضمر جسده، علامات الضعف بدت واضحة. لكن روح الغضب ما زالت فتية عارمة. ربما لأنه يملك المال... فهو يحب جمع المال.‏

"أريد حذاء للمدرسة يا أبي"‏

"إذهب بالشحاطة"‏

"لكن الطريق موحلة"‏

"وماذا لو دعست به؟ تصغر قامتك؟!!"‏

لقد أدرك فعلاً بحسِّه الفطري معنى أن أذهب إلى المدرسة شتاءً بالشحاطة. كانت قامتي تصغر عندما ينظر إليَّ الزملاء والأساتذة فكنت أنكمش وأتقزم لدرجة أني لا أظهر في الصف. ينادي الأستاذ أين أنت يا محمد...‏

"أنا هنا يا أستاذ"‏

ولكنهم لم يكونوا يلمحونني إلا لمحاً بارقاً فأطلقوا عليَّ اسم محمد المخفي، دائماً كان هذا الشعور يعذبني لدرجة كنت أقف أمام المرآة كي أتأكد من حقيقة الأمر. مرة فوجئت فعلاً. إني قصير جداً. (ضئيل) الجسد... بكيت... سألتني (نجلا) لماذا تبكي يا محمد؟ ألا تثق بأني أحبك؟! اقتربت مني. ابتعدتُ. خفت أن تكتشف تقزمي. اقتربت أكثر.‏

أمسكت بيدي. عانقتني. عند ذلك شعرت أني أعاني وهماً قاتلاً ها هي نجلا بين ذراعي، امرأة شهية. وها أنا ألتهم شفتيها. يومئذ عدت إلى المنزل... وقفت أمام أبي بقوة "ما بك يا ولد" "أنا رجل... رجل غصباً عن الجميع"‏

"لي تقول هذا؟"‏

تناول عصاه. أخذ يركض ورائي. أمسك بي على تخوم النهر. صفعني. ثم ربطني إلى شجرة المشمش القريبة. مرت نجلا، لم أنظر إليها. نادتني لم أرد. بعد أسبوع علمت أنها خطبت، فعدت قزماً من جديد "ما بك يا أبي؟"‏

ما يزال يدخّن. وما يزال يستفز أسئلتي. إنه أبي على كل حال.‏

"أتقبل أن يعتدي جيراننا على خالتك خديجة؟!"‏

"أبداً يا أبي. إنها بمقام أمي"‏

"أتقبل أن يشتمها عثمان الراعي كبير عائلة الراعي ثم يكسر شجرة التين الصفراوي التي تتاخمهم؟!‏

"لا أقبل. ولكن أعرف أنهم جيراننا وأن صلة ما ومصالح كثيرة تجمعك بهم. إلا تذكر يوم كنت تذهب إلى حماه معهم لبيع الدخان المهرّب؟!"‏

"أجل... ولكن المصالح شيء وخرق الهيبة والاعتداء شيء آخر".‏

صعبٌ كلام أبي.‏

لا أقبل أن يخرقوا هيبتك يا أبي.‏

إذن عليّ أن أجمع أخوتي. عليّ أن آخذ كل واحد منهم على حدة، أشرح له الأمر، أبالغ، أردد المقولات الجاهزة. نردد شعارات العائلة. أحشو أذانهم بالكلام الاستفزازي المحرض، فيبدأ تكسر الشجر وإطلاق الرصاص على الدجاج. نزعنا منديل زوجة عثمان الراعي ورميناه على الأرض، انكسرت يد أخي الصغير.‏

أمي ولولت لأن زوجها - أقصد أبي- زجّنا في معركة كاذبة ومفتعلة حاولت ردعنا ولكن لم نرتدع. كسرنا ساق امرأة خرساء منهم، فقأوا عين أختي، اجتمع الوجهاء. توقفنا. لملمنا أشلاءنا، وفي الصباح لم نجد أبي في سريره. لذلك لم نتناول الإفطار ولا شربنا الزوق. خرجنا نبحث عنه.‏

عند حقل السمسم، وعلى التخم، تحت ظلال شجرة شاردة، وجدنا أبي يأكل التين مع عثمان الراعي ويدخنان التبغ العربي. أخي قال إنه سمع أطراف حديث يدور حول صفقة تبغ -شك البنت- سيهربانها إلى حماه عبر الجبال.‏

عندما عدنا إلى المنزل. فوجئت أمي.‏

"ما بكم؟!"‏

"ما بنا يا أمي... ها نحن، أقوياء. لقد خرجنا البارحة من معركة طاحنة"‏

"انظروا إلى أنفسكم؟! ألا ترون..."‏

"الأم ترى بفؤادها.... "كالعشاق"‏

لكنها ولولت كثيراً فانصعنا لدموعها... نظرنا إلى المرآة... كنّا أقزاماً. وكانت وجوهنا لا تشبه وجوهنا... وعندما عاد أبي. صرخ بنا بقسوة... تكوروا.. فتكورنا مثل طابات كرة القدم... ثم راح يركلنا بقدمه كلٌ باتجاه. كنا تتدحرج. نتدحرج. وكان هو يدخن التبغ العربي