ثرثرة في المحطة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : أنيسة عبود | المصدر : www.awu-dam.org

 

دون استئذان جلس إلى طاولتي.‏

فنجان قهوتي برد، والثلج يرخُّ وراء الزجاج المغبّش. نظرت إلى وجهه. لم أقرأ شيئاً. الوجه أول صفحة في جسد الإنسان، والوجه أوّل باب للدخول إلى العوالم الباطنية. مسافرون يغادرون. مسافرون يدخلون. القاعة الواسعة تتكسر فيها الأصوات والخطى والوجوه. دخانٌ وكؤوس وكراسي بلاستيكية بيضاء. عطور تمتزج بالزفير ورائحة الفطائر المحروقة. صوت ينفلش في القاعة كلها. الرحلة رقم كذا على البولمان كذا.

الرحلة؟!!‏

ورحلتي لم يعلن عنها، لابدّ أن عمراً ينتظرني الآن في المحطة..‏

-عمرو. سأكون في محطة الوصول الساعة الثانية عشرة.‏

ستنتظرني؟‍!‏

-طبعاً.. ألست حياتي؟!‏

-والله..؟!!‏

-...‏

أفتح كتاباً وأطلب شاياً بالقرفة، لا أريد أن أقرأ أي شيء. مللت قراءة الشعر -أنا أحبّ القصة أكثر ياعمرو- هذا الذي يحدق بي ويلتقط حركاتي يزعجني. لم يطلب شاياً ولا قهوة. فقط وضع رجلاً فوق أخرى وراح يحدق بي. لا أعرف لماذا أردت أن أسأله: أتعرفني؟!! الثلج يهطل بغزارة. ندف الثلج تتراكم على الزجاج. رياح قوية تركض في الشارع. رياح كسرت باب البولمان ثم شالته. بعيداً ميتاً على ضفة الطريق والطريق كانت مسرعة. وأنا أريد أن أصل لأرى عمراً واقفاً في زاوية المحطة محدّقاً بالوجوه، بالحقائب، ماذا سأقول له؟!‏

"لاأعرف". سيفاجئني بصمته وأنا أحبّ أن يثرثر. ليحدثني مثلاً عن صباحاته، عن المساءات، عن النساء اللواتي أحببنه، عن التي أحبّها وكانت أجمل امرأة، هكذا كلهم يقولون وعندما يحبون امرأة تكون هذه المرأة أجمل امرأة في المدينة، ماتت به، ثم تركها ليحبنّي، أليس كذلك ياعمرو...؟!‏

إذن ليحدثني عن غرفته، وسريره وأحلامه، عن ألوان قمصانه، ألوان خيباته. بعد ذلك سنملّ الحديث. سنترك الأحلام في مكانها على الطاولة. في فناجين القهوة، فوق كراسي المقهى، ثم سنهبط دون مراعاة إلى الطابق الأرضي، إلى القبو، إلى العالم ..الأسفل، حيث سنرى الأموات يتشاجرون حول الاتفاقيات والتقسيمات، حول جثة لينين إن كانت مازالت بلا ديدان وبلا نخر، حول المرأة البوسنية التي تحولت إلى رجل، حين مرَّت تحت قوس قزح...‏

-أتصدقين ذلك؟!!‏

لماذا لا أصدق ياعمرو؟ الله قادر على كل شيء. في قريتنا تحولت امرأة إلى شجرة بجذعين وبغصنين شاهقين. وتحول الرجل الذي يحبها سراً إلى شجرة بلوط كبيرة بجذع ضخم. التفت الأغصان ذات صيف، ومال الجذعان مقتربين من بعضهما، ولكن ما إن حلَّ الشتاء حتى قصفهما الرعد. فجَّ المسافة بين الشجرتين وخلخل الجذور وقصّف الأغصان المتعانقة. ألا تصدق ياعمرو؟ اسأل أهل قريتي إذاً...؟‍!‏

لابدَّ من الخصام في نهاية الحديث "عمرو.. أنا أكرهك بجنون" لماذا لاتصدقني؟ كلما حدثتك عن شيء تقول لي: خيالك خصب ياحبيبتي..؟!‏

ماذا تقصد؟!‏

أغضب وأثور، أتحول إلى طفلة. أريد أن أبكي. أريده أن يضمني ويطفئ ثورتي بينما تظلّ يداي تضربان ظهره وكتفيه، ثم أغمر رأسي في صدره وأشهق.‏

الرجل الذي يجلس أمامي يحدق بي. نظرته تشبه نظرة عمرو. أرتعش وأنا أنظر إليه. أهرب إلى قهوتي. أنفخ دخان سيجارتي في الهواء. يراقب الدخان الملتوي بصمت. أنظر حولي باحثة عن طاولة فارغة، فلا أجد، كل الطاولات محجوزة. أكرر النظر إلى عينيه: يا إلهي: عيون عمرو نفسها، وعمرو الآن في المحطة يطارد بعينيه النساء الهابطات من الباصات، يطارد كل الوجوه كي يصطادني، لكنه سيفشل، عند ذلك في سيتوه في المدينة. وسيقول عني بأني كاذبة ومعقدة، دائماً أخلف المواعيد.‏

سأعتذر له. سأخبره بأن باب الباص طار من شدة العاصفة، لن يصدقني، ماذا أفعل؟ هل أشرب البحر حتى يصدقني.؟! ليطق إذا لم يصدق. الرجل الذي قبالتي يثير غضبي. إنه لايتحرك ولا يطلب شيئاً. لايدخن ولا يتكلم. يظل محدقاً بي، يتابعني. أظنه يسمع صوت أسراري وأنا أتحدث إلى عمرو. سيقول: هذه المرأة مجنونة تحدّث رجلاً غائباً. لايهم. الجنون يخلصنا من السجن أحياناً. هذا الرجل يفرض وجوده عليّ. يتأمل بطاقته الشخصية ثم يعيدها إلى جيبه.‏

سأطلب إليه أن يترك الطاولة. أنا أول من جلس إليها. سأطرده، أو أقول له: معي ضيوف، معي أصدقاء سيأتون من حجرة الهاتف. سأقول...‏

-أتدخّن؟!‏

هكذا قلت له بتودد، لكنه لم يردّ، هزَّ رأسه بالنفي. ربما كان أخرس، ربما، لاأعرف. سأحاول ثانية أن أطرده أو أن أكسر السور الذي بيني وبينه. عطره يعجبني، نظرته، أصابعه تشبه أصابع عمرو، ومازال الباص معطلاً. البرد قارس، والصمت قارس. لارغبة بي إلا بالتحدث عن عمرو: ماذا يحبّ؟ ماذا يكره؟! حولت نظري بعيداً وقلت للرجل: تافهة هذه المرأة التي هناك، هناك في الزاوية، إنها تشرب القهوة وتقهقه بصوتٍ عالٍ -صوتها مزعج، أليس كذلك؟! زمَّ الرجل شفتيه وكأني لا أتحدث إليه.‏

-أتشرب قهوة؟! أيضاً هزَّ رأسه بالنفي. مع ذلك تابعت حواري دون اكتراث.‏

أنا أشرب قهوة كثيراً مع أن معدتي تؤلمني. عمر قال لي: حبيبتي أرجوك لاتشربي قهوة: أترى؟! إنه ينصحني وهكذا يقول: لكنه يريد أن يتحكم بي. أنا لاأقبل. الأمور المتفاقمة تبدأ بدايات صغيرة ثم تكبر وتصير تلالاً لاتقدر على إزاحتها. لن يجبرني أحد على شيء لا أريده. أحبّ القهوة، وسأظلّ أشرب. أصلاً الحياة الحالية لم تترك لنا إلا شربَ القهوة وتأمل خطوط الحظ في أيدينا. غيرنا يشرب بلداً بكامله. يشرب نظريات مثلاً، أو قل مبادئ!! لم يقل له أحد سيصيبك عسر هضم..‏

أوّل مرة شربت قهوة صفعني أخي. قال: القهوة للكبار، قلت له: أنا صرت كبيرة. شدني من شعري وربطني إلى الساموك- صرخت أمي "اتركها" لا، لن أتركها. هي فعلاً كبرت ويجب أن أؤدبها، إنها تكتب القصائد لابن رقية"‏

أمي مسحت على كتفي وقالت المرأة التي تشرب القهوة يصير لها شوارب وأخوك معه حق، ثم مامعنى القصائد؟!!‏

"معه حق؟! "‏

أتصدق..؟! أنا لم أكن أحب ابن رقية. كنت فقط بحاجة إلى رجلٍ أكتب له، كتبت له كثيراً حتى ظنّ أني أموت فيه. ولكن لم أكتشف نفسي معه. لم أجدني وهو يقبلني. كنت معه صخرة لاأكثر، لذلك صفعني وقال لي: أنت صخرة. قلت له لأنك لست رجلاً. تركته ومشيت: أتسمعني؟! ظل الرجل الذي أمامي صامتاً، ابتسم ابتسامة بلهاء، ثم عاد إلى وجومه وصمته وظلام وجهه.‏

"أنت تشبه عمراً" عمرو الذي ينتظرني الآن، أو أن ملَّ ورحل. كل شيء نملّه إلا الحياة. لانشبع منها أبداً. أعتقد أنّ زهير بن سلمى كان يكذب حين قال سئمت. أتعرف؟! صوتك مثل عمرو، انكمشت. لم أسمع صوته. صححتُ خطئي. قلت: أقصد عيونك، لونك الأسمر، قامتك. ابتسم الرجل ثم أشاح بوجهه. شعرت بالحزن. أدركت كم أنا وحيدة في هذه الزحمة والثلج يسقط في الخارج. المحطة تضيق على المسافرين وتكتظ بالدخان من كل الماركات.‏

الذباب يهرب إلى الداخل من شدة البرد. الروائح المخنوقة تشعرني بالغثيان. أشعلت سيجارة ثم أطفأتها. قلت متحدية صمت هذا الرجل.‏

عمرو ينتظرني الآن، سيأخذني إلى بيته، المدينة غريبة. لا أعرف فيها أحداً. عمرو رجلٌ طويل، طويل. أحبّ طوله. أشعر أمامه بالضعف.. لكن آخر مرة التقيته تشاجرنا. دائماً نتشاجر حين نتحدث عن الأدب والسياسة. لانتفق أبداً، أنا أقول له إننا نسير إلى الوراء وهو يقول: هذه حتمية الصراع. لابدّ من منتصر ومهزوم. أي انتصار؟! الانتصار نقرؤه ولانعيشه. نتوهمه ولانخلقه أليس كذلك؟!‏

حدق بي الرجل طويلاً مقطباً حاجبه. أزاح كرسيه بقسوة ثم حمل حقيبته ومضى. إلى أين؟! لم يردّ على سؤالي. يا إلهي: ظهره يشبه ظهر عمرو، قامته، مشيته، إنه هو.. هو. رحت أركض بين المسافرين. ناديته -عمرو. عمرو- لم يرد. قلت للمرأة التي تقف بعيداً: أرجوك: هذا الرجل الذي يمر أمامك أوقفيه. قهقهت المرأة وقالت: أي رجل؟! قلت هذا الذي يرتدي "جاكته" كحلية ويحمل محفظة رمادية.‏

"أين؟! "‏

ركضت وراءه. لم أستطع اللحاق به. أعاقتني الكراسي والطاولات والمسافرون. الثلج ينهمر. خرجت إلى الشارع. سياراتٌ تمرُّ... لوحت بيدي: عمرو.. أجل إنه هو، ينعطف، يغيب، يتلاشى، يذوب كقطعة ثلج، فأقف يعتصرني البرد، أقف، أدور حولي، مشدوهة، ووحيدة. أجرجر نفسي إلى داخل المحطة، أنفث هواء ساخناً، أعود إلى طاولتي.‏

"أين كنت.. طوّلتِ، بردت قهوتك"‏

نظرت إلى محدثي -أردت أن أسأله: من أنت؟! لكنه قاطعني وقال:‏

مايزال الباص معطلاً، بالتأكيد سنتأخر. لماذا تدخنين كثيراً وتشربين قهوة كثيراً؟!‏

لم أردّ.. تابع حديثه: رائع هذا الثلج، يعوضنا عن نقص الأمطار. أظن أن الأراضي مقبلة على جفاف مميت. أوه.. ألا تكفينا الحروب؟!! يقولون.. و. استمر الرجل بالحديث، بينما الثلج يتراكم والشارع يرتدي الندف الأبيض، وأنا لا أسمع شيئاً، وذاكرتي تمضي بعيداً عن المحطة، أدور بحثاً عن عمرو، والرجل يسألني: لماذا لاتريدين؟! ثم ينظر إليَّ بأسىً، يهزّ رأسه ويقول بصوت هامسٍ: للأسف إنها خر..ساء، لكنها جميلة