أيقظها المطر.
خربش على النوافذ، ثم نقر بقوة فاستيقظت.
"ماذا تريد أيها المطر؟!"
"أريد أن أشرب القهوة معك"
"اتركني أرجوك. إني نعسانة. كنت أرفو جوارب الطريق كي يمشي بي إلى الأمام، لقد تعبت من وقوفه. وكنت أرتب حطب البرد كي أشعله في مساء قادم. أظن سيعمّ البرد. يهطل الثلج..
تبرد القلوب، فتبرد الحروف. تهرب من برد إلى برد. لكنهم سيجدونها، أخيراً، ميتة على قارعة المدارس"
"ياه..."
"لاتبتئس أيها المطر. هذه هي الحقيقة المرّة التي تقف بعيداً على بوابة الزمن"
يبكي المطر. يمسح دموعه في النافذة، يستلقي على الأسطحة، يسأل بقهر، "والأطفال؟!"
"ماذا يفعل الأطفال؟ سيلعبون بالحروف الميتة، وقد يملؤون
جيوبهم بها، يأخذونها إلى المنازل، يعرضونها على الآباء، لذلك سيبكي الآباء سراً في الليالي الممطرة".
"مع ذلك أودّ أن أشرب القهوة معك"
"قلت لك أنا نعسانة.. وحبيبي مايزال نائماً. إذا استيقظت فإنه سيفيق، سوف ينزعج..
غضب المطر. ضرب النوافذ. أحكمت إغلاق الأبواب. لكنه كسر أغصان شجرة البرتقال الصغيرة. فرفط ثمارها، ثم نزل إلى البحر يتسكع بين الحارات النائمة.
(2)
هطل المطر بغزارة هذا المساء.
أمي خاطت أكمام حكاياتها حتى لاتبرد.
أبي العائد من الحقول، ربط الثيران في حظيرة تدلف. ثم أشعل ضوءاً صغيراً كي تتفرج الحيوانات على بعضها.
"هل تعرف الحيوانات بعضها يا أبي؟! هل تحفظ الملامح؟!"
هزّ أبي رأسه بالإيجاب. قال لأمي: دعي المطر يدخل. ربما يذيب بعض هذا الأسى.
ظلت أمي منهمكة في عملها، أمرني أبي أن أفتح الباب كي يدخل المطر. لم أعترض. فتحت الباب. "افتحي النافذة" حاضر أبي. لكن المطر يرفض أن يدخل، ليس عندنا نار ولاموقد، ولا حصير، ولا سجادة تهريب ، ولا.. التفت إلى أبي فوجدته يذوب، يذوب ويصير بحيرة ماء.
(3)
كلما عاتبته لأنه مشغول، يقول لها: ولمن أعمل أليس من أجلك؟ تنهدت "ولكنك تطيل الغياب. أكاد أنسى رائحتك، وأنسى حركة يديك. وأكاد.. يلعن أبو الشغل، ينتهي العمر ولا ينتهي.. "هكذا هي الحياة.. العمل يتطلّب ذلك".
سنوات والعمل يتطلب ذلك. يسرق لحظات من الزمن. يلتقيان، ثم يغيب مجدداً.
كل صباح تشرب القهوة وحدها. تحضر فنجانه. تصب له القهوة، ولكن لايحضر. تشرب قهوتها وهي تكتب له نشرة الأحوال.. أحوال الروح، الجسد، المدينة، الأصدقاء، الحياة، ألـ..
في الفترة الأخيرة لم تعد تكتب له. ماعاد للكلام قيمة.
عندما عاد آخر مرة رمى بالهدايا والأموال أمامها.
"انظري ماذا جلبت لكم؟"
ظلت قابعة في كرسيها الهزّاز، حدثها، لم ترد.
امتدت يده تشدّ على أصابعها، شعرت أن أغصاناً يابسة بين أناملها.
"مابك؟"
نهضت عن كرسيها، صنعت القهوة ثم عادت، "تعال نشرب القهوة هنا" بصعوبة كان يمشي، بصعوبة كان ينتقل، أمسكت به، ساقته إلى المرآة. همست بقهر "تأمل نفسك".
حدق جيداً، رفع يده يتلمس وجهه. أيقظته خطوط الزمن إلى بياض الشعر. إلى أنفاسه المتعبة.. إلى وجه زوجته المكدود. إلى ..
أنزل يده. تأملها. رآها قطعة خشب يابسة. أطلق دمعة كبيرة.
الدمعة صارت غيمة. حلّقت في الغرفة واستقرت على المرآة. غامت عيناه.
تلمست المرأة شعره "أيسترجع هذا الكنز الذي حملته شعرك الأسود؟"
لم يرد. ظل واقفاً.
"أتعيدني هذه المجوهرات إلى أنثى حارة، فتية، تذوب بين يديك؟"
ظلّ صامتاً ثم سار باتجاه أول كرسي، استرخى عليه، وأغمض عينيه متعباً.
في الفترة الأولى، كانا يجلسان معاً ويتبادلان تحية الصباح ويشربان القهوة مع نشرة أحوال موجزة.
بعد فترة، صارا يتبادلان تحية الصباح ثم يشرب كل منهما قهوته وحده.
لكن في الفترة الأخيرة. ماعادا يتبادلان تحية الصباح.. ولايشربان القهوة. إنها مضرة بالصحة.
(4)
حين رآني بعد غياب طويل أصرّ أن أزوره، كي نتبادل الأخبار
وأحاديث الصبا والأصدقاء.
"لقد كبرت ياماهر!"
"هكذا.. نولد كي نكبر، وأنت أيضاً ابيض شعرك"
حين ودعته أصرّ أن نلتقي. ثم راح يشرح لي أين يسكن.
"ياسيدي تشرّق إلى الشرق عدة كيلومترات. هناك على الطريق الذي يمر قرب السنديانة العتيقة ستجد قصراً منيفاً. له آجر أحمر وجدران رخامية. هناك كلاب حراسة كثيرة، ستنبح عليك. لاتخف إنها فقط للنباح لا أكثر. بعد القصر بأمتار يقبع بيتي. بعد بيتي يوجد شجرة زعرور وبقرة مربوطة إلى ساق الشجرة. هل حفظت العنوان؟!"
"حفظته. سأزورك قريباً"
"أهلاً بك... لاتنسى ها؟! بيتي قرب القصر.. ولكن أريد أن ألفت انتباهك إلى شيء مهم. لاتسأل أحداً.. بيتي معروف جداً. ولكن لاتخطئ به وتظنه بيت كلاب الحراسة إنه منخفض، وترابي، وبسيط، لكن.... هذا هو بيتي فمتى تأتي؟!"
ضغطت على يده، لم أستطع أن أحدد له موعداً. لكن بالتأكيد لن أذهب. "لو كان الفقر رجلاً لقتلته؟!".
إذن. كيف أصادقه أنا؟!
(5)
آلو..
نعم...
حبيبتي. كيف أنت؟!
اشتقت إليك، أتعلم أن الشوق يجعلني أبكي. تعبت من الشوق. هيا تعال.
حاضر. سأجيء. جهزي القهوة.
ألو.. لقد جهزت القهوة، تأخرت، هيا.
حاضر. افتحي الباب. مدّي يديك، أبعدي المطر عن النوافذ
كي لايراني عندما أعانقك.
"حاضر. ها أنا أطرده"
"أنا قادم.."
"لقد بردت القهوة. لماذا تأخرت؟!"
"أنا قادم ياروحي"
أغلقت السماعة. نظرت حولها. قهقه المطر شامتاً.
هي تعرف بأنه لن يأتي.
وهو يدرك بأنها تعرف بأنه لايقدر أن يأتي، لأن المسافات عاقة، ولأن المفارق كثيرة.
لكن، كلاهما كان يحلم. لذلك، زعلت القهوة. أهرقت دموعها السوداء على البياض وقالت:
تكذبون عليّ؟!
(6)
أنهت قصصها القصيرة.
طوت الورق ووضعت قلم الحبر فوق الأوراق المكدسة. تنفست بهدوء. امتدت يدها إلى فنجان القهوة، لكنها ارتبكت حين سمعت صوتاً يأتي من بين الأوراق. إنه صوت أنثوي جميل، حزين. نظرت حولها لم تجد أحداً. أشعلت سيجارة من علبة تبغ بيضاء وراحت تراقب الدخان الملتوي. عاد الصوت مرة أخرى" أخرجيني من أوراقك".
ذهلت. "من؟!"
"قلبت لك أخرجيني من أوراقك. لا أريد أن يسجنني الحبر والورق. أريد أن أخرج إلى الهواء، إلى النور، أريد أن أمشي في المدينة، أغير شارعاً، أبدّل حديقة، أصنع رجالاً على طريقتي. أهدم قناعات. أريد... هيا أخرجيني."
"أنت من؟! قولي. من أنت؟"
"ألا تعرفين من أنا؟!! تعبثين بي. تلبسينني كل مرة قميصاً بلون. وزمناً بلون. تأمرينني أن أقول ماتريدين.
لقد تعبت، وكرهتك. أريد أن أرحل."
تراجعت الكاتبة. أطفأت السيجارة. "ولكن لم أعرف من أنت؟!"
"أنا.. أنا الفكرة.. انظري. ألا ترينني؟!"
نظرت الكاتبة إلى الورق. رأت دمعة كبيرة، ورأت الحبر يذوب ويرسم أشجاراً مقطوعة