المــواجــهة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمـــود زعـــرور | المصدر : www.awu-dam.org

تشعر بتعبٍ شديد، وهي تصعدُ درجَ العمارةِ المتهالك، وتحاذر بعد كل درجةٍ ترتقيها كيْ لاتنزلق قدمها. إذْ لاتخلو أية درجةٍ منْ تكسُّرٍ في حوافها، أوْ تشقق في سطحها المشوَّه.‏

بل وزاد في قسوةِ الأمر، هذا المكان الذي تحوِّطه القذارة من كل جانب، والرائحة المقزِّزة التي تبعثُ على الاشمئزاز وتدفع إلى الشعور بالغثيان المؤلم.‏

تفتح بابَ البيت، وتسرع إلى أول كرسي تغرق نفسها فيه، وقد أخذ منها الإرهاق كل مأخذ، فتستسلم لراحةٍ محدودة، لأنها تشعر بعجزٍ كبير، لنْ تقوى معه على القيام ببذلِ أي جهد، فما واجهته كان صعباً وقاسياً، وسيمضي وقت طويل كيْ تذهبَ بعضُ آثاره.‏

لقد كان الطريقُ طويلاً، والحرّ في تلك القرية البعيدة لايطاق، وقد عانت كثيراً قبل الوصول إلى ابنتها.‏

أصبحت القرية هدفها في كل شهر، وهي ليست زيارة لابنتها فحسب، بل صورة غريبة وموحشة في اللقاء مع قدرها الغامض، ومواجهة مؤلمة مع مصيرها المظلم.‏

تفكر "ندى" في تلك الدموعِ التي انطلقتْ مثل سكاكين حادة تنْغرزُ نِصالُها في القلبِ المتعب.‏

وتحتضن، أيضاً، تلك الأسئلة التي تلكوها البنت الصغيرة كل لقاء متوسلةً، وراجيةٍ، ولاتجد لها سوى أطياف من رغبة مرجوَّة، أو صور لحلمٍ عزيز.‏

لقد أدركتْ "ندى" أنها تعيش حقيقة واحدة، هي خوفها الذي يكبر ويمتد، وباتت وجهاً لوجه أمام محنتها القاسية مع الوحدة، والعزلة، والضعف.‏

ومرةً بعد مرة، أصبحتْ تشعر أنها غير قادرةٍ على الخروج من هذا الاختبار الجحيمي منتصرةً لها القيمة والاعتبار.‏

لكنها، وهي تتذكر محاولاتها في المواجهة، وتحطيم تلك الحدود، تحسّ بشيءٍ من القوة يحلُّ في نفسها، وطيف من نصرٍ مأمولٍ يسكنُ روحها.‏

تسترجع وضعها السابق الذي عاشته لفترة عندما كانت تعملُ بائعةً في محلٍ للألبسة، وإحساسها بالحرية يغمرها على نحوٍ شامل.‏

تتذكر تلك الشقة الصغيرة التي أقامت فيها مع تلك العجوز الطيبة، الحنون، وقد كان الرضى والأمان يظلّلان تلك الأيام.‏

تأتيها صورة "نبيل"، ذلك الشاب الجامعي الذي سكن الشقة المجاورة، وتلك الأحلام الملونة التي رسمتها معه ذات يوم.‏

إنها تدرك أن الوعود الصادقة التي سمعتْها من "نبيل" تنتظرها، وماعليها سوى أنْ تحسمَ أمرها، وتنتصر على خوفٍ أزلي سكن في العيون والأهداب.‏

ترى هل تستطيع؟!.‏

قالتْ مرةَ لـِ "نبيل" :‏

- "أنا أعيش جوراً رهيباً، تلخصه بحدة حروف اسمي. ندى. النون نفق مظلم أسكنه ولاأقوى على الخروج منه. الدال دماء غريزة تقطر من جروحي. أما الألف فهو آهات طويلة لاتنتهي.".‏

لكن "نبيل" يتطلع إليها بحنو، يمسِّد شعرها برقة، ويجيب على نحوٍ مغاير:‏

- "بالعكس. أنا أرى أن حروف الإسم لها قراءة أخرى. ندى. النون نور يشع من وجهك، نور بحجم كون لايُحدّ. الدال دوح ظليل ينتظر قرارك.‏

والألف أمل أقدمه لك وأعدك بالإنتظار.".‏

يأيتها صدى حديث صادق وحار، استمعتْ إليه من زوجين حاولا أن يفعلا شيئاً يحمل قيمة جديدة لحياتها. وعلى نحو مباغت، يعتريها شعور يشتمل على الحقد، وهي تدرك أسباب ذلك، فبعد قليل سيأتي زوجها الذي ملَّتْ أكاذيبه، نعمْ. سيأتي محمَّلاً بقسوته وشكوكه.‏

تنهض بسرعة، تفتح البابَ وتخرج، وأطياف منْ حلمٍ بهيج تدفعها للأمام، وتدعوها بقوةٍ وإصرار