على هامش الموت

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : ظافــــر الـنجــــــار | المصدر : www.awu-dam.org

الاحتضار-‏

لم يعترض حين مدّدوه بوضعيّة الاحتضار. فقط رمش بجفنين منهكين.‏

ابنته الأرملة الشابّة راقبت حركاتهم بقليل من الانتباه، وقد توقفّت يداها عن العمل بإبرة الصوف، ثم دمدمت بصوت مسموع: ليس تجاه القِبلة تماماً‍‍!‏

غير أن أحداً لم يعرها انتباهه. فهزّت كتفيها لا مبالية وعادت عيناها تزوغان مع الحركة الرتيبة والنشطة ليديها وإبرتها.‏

-قد لايموت اليوم. قالها الإبن الأكبر بتبرّم، ومضى قاصداً السقيفة التي حوّلها إلى محل متواضع للنجارة.‏

-مع ذلك إحسب حساب الموت. قالت الأم بصوت متعجّل لئلا يفوت الابن سماعُه.‏

اسبوع كامل مرّ على بداية الاحتضار. والجثة ترفض أن تموت تماماً. مع ذلك لم تستأ الأم. فإجراءات الموت والدفن لم تكتمل بعد. وهي لا تفتأ تحثّ ابنها على إعادة النظر بصناعة التابوت، والذي لايشبه بخشبه التالف وعدم استقامته، إلاّ صندوقاً للقمامة.‏

-هل أنت متأكد من أنه سيحمل أباك؟‏

-قطعاً لن يستطيع أن يعربد فيه.. مع ذلك سيحمله إلى هناك.‏

-لا يشبه التابوت في شيء!‏

-يمكن حشر أية جثّة فيه. قال الإبن الأكبر ذلك وأدار ظهره لأمّه، قاطعاً الطريق على أية ثرثرة أخرى. فتحت الجثّة عينيها للحظات. كانت الزوجة قد غفت وهي جالسة، وبيدها ترقد المذبّة بلا حراك. وإلى جانبها تموء القطّة بهدوء وحذر، وتتلفّت بعينين مسالمتين. بينما تواظب الابنة الأرملة على نسج الصوف بنفس الرتابة والسرعة المألوفتين، وعيناها الدّاكنتان مسمّرتان على حضنها، حيث تتقلقل كبّة الصوف بحركة دائبة، وحزمت أشعة الشمس المتوازية والشفّافية والمليئة بذرّات لاحصر لها، ترسم على الساقين العاريتين مقطعاً من جسد مهمل لأنثى مهملة. بينما يرقد الصبيّ بشعره الأشعث وفمه المنفرج قليلاً، وهو يحملق بالجثة، مسنداً ظهره إلى الجدار باستسلام رخو، كاشفاً دون أن يدري عن جزء من عورته.‏

-أتريد شيئاً؟ قال الصبيّ ذلك وهو يتوثّب لفعل ما يمكن فعله.‏

كان يعلم أن الجثة لن تتكلم، مع ذلك لا يستطيع أن يتمالك نفسه عن التوثّب وتكرار السؤال ذاته:‏

"أتريد شيئاً" كلّما أوجس حركة من الجثّة.‏

كان مستعداً لفعل أيّ شيء، وثمة إحساس عارم لديه بقدرة سحريّة كامنة تستطيع أن تنفّذ كل ما يُقال لها.‏

".. فقط لو يقول."‏

لكن الجثة لم تقل شيئاً، وعادت لتقفل عينيها من جديد. وعاد الصبيّ لاسترخائه على الجدار وانتظار مالا يدريه.‏

-الموت-‏

قال الابن الأكبر متأففاً: لكأنه انتظر عمداً سقوط المطر!‏

-الموت بيد الله. عقّبت الأم بلهجة عاتبة، وهي تمسح أنفها بمنديل قماشي، وترمق الابن الأكبر وهو يوزّع نظراته بين الجثة والتابوت.‏

-يبدو أنّه لن يتّسع له. قالت الابنة الأرملة.‏

فقال الابن الأكبر: وماذا لو طوى رجليه قليلاً؟!‏

ابتلعت الأم ماكان يمكن أن تقوله، وراحت تفرش التابوت بثوب عرسها الذي انتزعته من صرّة مغبّرة وقديمة. كان من الموسلين الأصفر، والمليء برسوم لشتّى الأزهار. وسبق أن أقسمت أنها لم تلبسه، إلا ليلة زفافها.‏

كانت قد بدأت تنشج بصوت واضح، ووجهها يزداد شحوباً.‏

-لا داعي لذلك. قالت الأرملة وهي تشيح بوجهها، وتضع أدواتها جانباً، وتتحرّك بتكاسل إلى الجهة المقابلة لأمّها.‏

-انهض يا حبيبي، ألا تريد توديع أبيك؟! قالت الأم.‏

كان الصبيّ غافياً، رأسه مائل قليلاً إلى الخلف.‏

وشفته السفلى متدلية بعض الشيء، ودمعتان شبه جافتين تلمعان تحت جفنين وادعين.‏

هزّته الأم برفق. فتوثّب محدّقاً بملء عينيه بالجثّة وهو يقول بصوت عجول: أتريد شيئاً؟‏

-مات. قالت الأم، وتابعت نشيجها بهدوء.‏

اتّسعت عينا الصبيّ، وتهدّلت كتفاه، ثم انفجر بنحيب حاد.‏

-لماذا كل هذا العواء؟! قال الأخ الأكبر، وهو ينحني ليساهم بنقل الجثة إلى التابوت.‏

-ارفعوه باحترام، فهو ليس كيس شعير، قالت الأم وهي تخرز ولديها بنظرة شرسة.‏

-ستموتون كلكم.. والله ستموتون. صرخ الصبيّ كمن يشتم.‏

-اسكت أيها الجرو. قال الأخ الأكبر، وهو يسدّد نظرة قاسية إلى الأم التي احتقن وجهها، وبدأ يمتقع وهي تحشر رأس الجثة بشكل مائل.‏

كانت السماء قد مالت إلى الشحوب منذ فترة، وكانت خيوط المطر تتكاثف وتتسارع عبر فضاء من الدّكنة والصمت والترقّب، وكانت تكتكات الساعة تتعاقب بفتور وسط عالمها الخاص.‏

احتارت الأم كيف يمكن أن تلفت انتباه الجيران، أَعَبْرَ النشيج المرتفع، أم تدعوهم بواسطة الصبيّ؟‏

ثم استقرّ رأيها على أن تتريّث في الأمر بانتظار ما يجب فعله.‏

كانت الابنة الأرملة قد صالبت ذراعيها على صدرها.‏

وثبّتت نظراتها الباردة على فقاعات المطر وهي تولد وتنطفئ فوق البرك الصغيرة، التي بدأت تتشكّل منذ حين في الخارج.‏

-على الأقل أزيلي هذه اللعنة عن شفتيك! قالت الأم ذلك وهي تشير إلى شفتي الأرملة المصبوغتين بأحمر الشفاه، وبلون فاقع.‏

-لا عليك.. لن يراهما أحد. قالت الأرملة ببرود وهي تلوي شفتيها، وتمسحهما بظاهر يدها، ملطّخة بذلك بعض وجهها دون أن تدري.‏

-الدفن-‏

-مات؟ تساءل الجار وهو يدلف من الباب المفتوح على مصراعيه، وينفض المطر عن قبعته التي رفعها لتوّه.‏

ويتلفّت حوله كمن يبحث عن ضائع.‏

-مات. أجابت الأرملة وهي تثبّت نظرتها على عينيه الجريئتين، وتلوّح بحركة غامضة من يدها.‏

حدّق الجار بشفتيها الرديئتي الصباغة، ثم جاس ببصره على أنحاء جسدها وهو يتمتم: إنا للّه وإنّا إليه راجعون.‏

وخزته عينا الأم النديّتين والمشربتين بغضب بارد وحمرة قانية. وقالت بتبّرم: يلزمنا بعض الرجال. ثم استدركت بشيء من الضراعة: المقبرة ليست بعيدة.‏

أخذ الجار المهمّة على عاتقه. ارتدى قبّعته ومضى، عهد للحفّار بالعمل، وعاد بعد بحث يسيرٍ، برفقة أربعة من الفتية العاطلين عن العمل، بوجوههم الخالية من أية رزانة، وثيابهم المهلهلة، وبعيونهم النهمة التي راحت تفتّش جسدي الأم والأرملة دون أن ترمش جفونهم.‏

تنهّدت الأرملة بارتياح، ونفضت يديها من قصّة الموت. في حين تحرّكت الأم بصرامة وحذر. وهي توزّع تعليمات لا أحد ينصت لها أو يعيرها اهتمامه.‏

-لننتهِ من المسألة بسرعة. قال الابن الأكبر ذلك، وهو يشدّ أحد الفتية من كمّه. حيث كان يعابث الأرملة. كان المطر قد تحوّل إلى رذاذ ناعم، يتلاشى في الوشاح الضبابيّ الكبير، الذي بدأ يلفّ الطريق والموكب الصغير والتابوت الرديء الصناعة.‏

حفّار القبور كان قد أنجز عمله، ووضع سيجارته المبلولة في زاوية فمه، واستعد لدفن الجثة.‏

-الله كريم. قال ذلك، ونقل السيجارة إلى الزاوية الأخرى من فمه. وتهيّأ لتناول التابوت المثلوم، الذي بدأ يتخلّع، لتبرز منه بعض أطراف الجثّة، وهي تلوح كمعالم حيّة لموت طريّ.‏

-الله واسع الرحمة. قال الحفار، وهو يتلقّى ويحتضن قسماً من التابوت، مشيحاً بوجهه عن اليد التي اندلقت منه، وراح يوسّده بمساعدة بعض الفتية. وبدأ التراب ينهال، حتى قبيل أن ينجح الحفّار بالخروج تماماً من الحفرة. مع ذلك لم يُبْدِ انزعاجاً، ولم يعقّب بشيء.‏

نفض ما أمكن نفضه من التراب العالق برأسه وثيابه.‏

وتساءل: أليس من شاهد؟‏

-أنا أشهد. قال الصبيّ باندفاع وحرارة.‏

ابتسم الحفّار بتحفّظ، في حين قهقه الأخ الأكبر، وراح يجرجر حجراً كبيراً، وهو يقول: لا بأس بهذه كشاهد. زمّت الأم شفتيها، وارتجفت ذقنها، وهي تتذكر أنّ حساباتها ليست مضبوطة. ثم تراجعت إلى الخلف بحنق منتزعة من عبّها بعض الليرات التي احتفظت بها لهذا الغرض. ودفعت بها إلى يد الحفّار، الذي بدأ يتأمّلها بشيء من الإحباط. في حين كان ابنها الأكبر قد عاد مع الفتية والجار، وهو يلغط معهم حول تحديد أجورهم. وخلفهم تسير الأرملة وحيدة، لكأنّ الجميع نسيها.‏

-وهذه لك أيضاً. قالها الصبيّ بصوت مشروخ وهو يضع قطعة نقود صغيرة من تلك التي تُعطى عادة للأطفال، في يد الحفّار، التي بقيت مفتوحة على الليرات القليلة، ويمضى عائداً في إثر أمه، مطأطأ الرأس، قبل أن يضبط الحفّار شفته التي تدلّت وغمغمت بكلمات مبهمة