منذ عامين ونحن محشورون هنا بمواجهة حرب لا نعرف عنها الكثير، والموت يتربّص بنا طوال الوقت.
قال لنا الرقيب: أنتم صانعوا المستقبل، والوطن ينتظركم. ومضى. يومئذ غرغر الأصلع بالضحك وهو يحشر أنفه في ظهري، خشية افتضاح أمره.
وما أن أصبحنا وحدنا حتى أشار إلى صلعته وقال:
-أنتف شعري إن كان يعرف عن أي مستقبل أو وطن يتحدّث.. أم أنه يبشّر بمستقبل على شاكلته؟ ها.. قل لي؟ بعد يومين فقط قُتل ذلك الأصلع.
خرج يتصيّد إحداهن، فاقتنصوه.
مراراً قلنا له ساخرين: ستموت بين رجلي امرأة.
فيردّ ببرود: سيكون ذلك أفضل بكثير من الموت بين هذه الجيف "مشيراً إلينا".
بقيت جثّته ماثلة أمامنا على بعد عشرات الخطى.
لم نجرؤ على الاقتراب منه. تحوّل إلى فخ. وعيناه الجاحظتان تبدوان عبر المنظار فارغتين وحياديتّين لدرجة كبيرة.
عندما كنّا نتحدّث عن حركة الموت المجنونة، في المدن والشوارع. كان يردّد كمن يحدّث نفسه: فقط أتمنى أن أموت ميتة سهلة وسريعة، وبدون تشويه.
أحياناً يخيّل إلي أنه لا يزال يتحدّث إلينا من هناك ساخراً. وببروده المعتاد: ستموتون حذراً، وفي أوكاركم أيها السادة القنافذ، دون أن تعرفوا لماذا!" وعيناه اللتان شبعتا موتاً تحدّقان صوبنا بفتور، بانتظار مساعدة. تعرفان أنها لن تصل أبداً.
-ماذا قال الرقيب بشأن الجثّة؟
-قال: الوطن يحتاج لأكثر من ذلك.
-ندري.. ندري... ولكن هل يحتاج الوطن إلى الطاعون؟!
فالجثّة بدأت تتفسّخ!
-سنحاول الاتّصال ثانية.
.. كانت محاولاتنا لإخلاء الجثّة دون ضحايا، محكومة بالفشل، فالرصاص يكمن لنا، ومن حيث لانعلم.
مرّة تساءل الأحول وهو يفرك جبهته:
-هل الرصاص رخيص إلى هذه الدرجة؟!
قلنا له: عن أية درجة تتحدث؟
فقال محتدّاً: أمّد إصبعي الوسطى من النافذة ممازحاً، فيرشقونني بعشرات الطلقات!
.. كنّا بدورنا نرشقهم، مع ذلك أنّبنا الرقيب قائلاً:
ما بالكم كالجرذان.. ارموهم كما يرمونكم.. يجب أن تخرسوهم." وننظر، فلا نرى أحداً. مع ذلك، وفي أحيان كثيرة نطلق الرصاص، لا لشيء، فقط لئلا يُقال بأننا لا نفعل شيئاً. ودائماً نبقى بانتظار إطلالة الرؤوس الآدميّة، والتي لا نعرف حتى أسماء أصحابها. لن ندعها تسقط، فقد تتدلّى من فوق أسطح الأبنية، أو من الشرفات، أو النوافذ، إلى أن تنتن، أو يُتاح لذويها أن ينتزعوها حين تسمح الظروف.
تأمّلتُ رأس بائع السجاير بينما كان يساوم الأحول. صبيّ في الثانية عشرة يتسلل إلينا كالشبح، تسبقه رايته البيضاء الصغيرة.
".. ياللرأس الآدمي كم يبدو مختلفاً عندما يكون في مواجهتك! ولكن.. أيّة ظروف هذه التي لا تسمح لنا بالتمييز ما بين الرأس الآدمي والخشبة؟!".
مرة ضبطتُ الأحول يقايض السجائر بالرصاص. خافني وأراد رشوتي. رفضت، وتجاهلت الأمر.
لكنني بدأت أَحْذرُ الصبيّ، وأخاف سجائره. أحسّ الصبيّ بذلك، وراح يقسم بمذلّة علي أنه لايخون أحداً. كانت عيناه محشوّتان بالصدق والبراءة وبأشياء أخرى قاسية. ودّدت لو أصدّقه، ولكن.. من يستطيع الالتزام بكل ما يعد؟؟
سألته ساخراً إن كانت أسرته ترمينا بنفس الرصاصات التي يأخذها منّا، أجاب وقد تحجّرت عيناه: لا أسرة لديّ.
-كيف؟
-دُفنوا تحت أنقاض البيت.. قصفونا.
-من؟
هزّ الصبيّ رأسه وصمت.
لا أدري إلى أيّ حدّ بدا سؤالي سخيفاً، فنحن نُرمى ونرمي باستمرار. ويجب أن نرمي. فالأوامر صريحة.
كما أن لا أحد يرغب في أن يُثقبَ صدغُه.
إننا نستهدف كل شيء، وكل الأهداف بما في ذلك البشر تبدو أحجاماً وأرقاماً مجرّدة، ودون معنى تقريباً.
تطلعت إلى الصبيّ وكأنني أراه للمرة الأولى وهو يخرج من تحت الأنقاض. ابتلعت ريقي بصعوبة، ورحت أسأل من جديد.
-وكيف نجوت؟
-كنت وأختي نجلب الماء من عند الجيران.. من البئر، تحت.
-أين أختك؟
-تبيع الرصاص.
-لمن؟
-لمن يشتري.
-اسكت.. لا تقل ذلك لأحد.. وأين تقيمان؟
حرّك يده حركة واسعة بإشارة مبهمة إلى الأبنية الخالية وشبه المهدّمة، وهي كثيرة.
-ما اسمك؟
-مافائدة اسمي؟ قطعت أنفاسي بأسئلتك...
لقد تأخّرت.. علي أن أعود إلى أختي.
-هل ترى تلك الجثة؟
-أراها.
-كم تريد مقابل ربطها بالحبل؟
-مائة طلقة.
-خذ مئتين.
-لعلك تغشّني؟
-بل سأعطيك بقدر ماتستطيع حمله من الطلقات.
-أقسم على ذلك.
رحت أفتش رأسي بصدق عن شيء أقسم به، فتعثرت بأشياء أخرى.
لاحظ ارتباكي، فتساءل: هل تراجعت؟
قلت: لا والله.. لكنني بدأت أخاف عليك.
قال وقد اطمئن لي: لا تخف.
أخذ رأس الحبل ومضى يزحف ويتلوّى بسرعة كثعبان. وما أن أحكم ربط الجثة حتى انهال الرصاص عليه.
كانت يده تمتدّ بتشنّج تجاهنا، وعيناه المذعورتان تنظران إلى الخلف، وقد اصطبغتا بالدم.
ضغطتُ على الزناد بحقد. كان الصبيّ يتحشرج. وكنت أطلق، أرسم بالرصاص درباً للصبيّ. أُرسل كل ما يمكنني إرساله من الطلقات، وإلى حيث لا أدري.
أشار لي الأحول أن: لا هدف. لكنني بقيت أُطلق بعصبيّة إلى أن شعرت بالوهن وأمسكوا بي.
قالوا: أنت لست على مايرام.
قلت: وعينا الصبيّ تثقبان جمجمتي: ومتى كنا على مايرام؟
في اليوم التالي. وكالعادة. رشقوني بالرصاص. كنت أمدّ إصبع يدي الوسطى، لاممازحاً كما يفعل الأحول، بل بجدّية تامة، لكنني لم أقصد إنساناً بعينه، أو جهة بعينها، ربما قصدت العالم، كل هكذا عالم.
وشُلّت يدي.
وهناك في المستشفى، تمدّدت كالآخرين، لأدرك كم أنا محظوظ بالقياس معهم. فأهملت يدي المشلولة، ورحت أحاول مغازلة الممرضة باليد الأخرى