نقطة التقاطع

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سجيع قرقماز | المصدر : www.awu-dam.org

شهية، في العشرين من عمرها، شمس نيسان تغار من جديلتيها، تُطلع الشمس كل يوم، تلعب معها قليلاً عند الشاطئ، ثم تتركها لتموت في معدة البحر الواسعة. وتذوب في مياهه الدافئة، لتتبرعم من جديد مع بداية الربيع.‏

عندما تخرج في البحر لا تبتعد عنه خشية صياح ديك يعيدها إلى بيتها المائي مع صحوة خيوط الفجر الأولى. تنتظر، لكن أحداً لا يأتي، ومع أن الصيادين يسبقون الشمس في رواحهم إلى البحر فإن أحداً منهم لم يرها...‏

تقول جدتي.. وأسمعها كصوت قادم من بعيد-:‏

- هي عروس البحر، إنها أحلام التي كانت تملأ حارتنا فرحاً وحيوية قبل أن تذهب، وتترك أحمد المظلوم عند مفترق الطرق.. وتتابع الجدة:‏

- كنا نمشي، نحكي في أمور كثيرة، وعندما يبدأ قرص الشمس بالخروج من صدفته، كانت أحلام تعود بهدوء إلى البحر... ورغم اعتراضاتي الدائمة بأن ماتقوله الجدة ليس إلا محض خيال، فقد كانت تؤكد دائماً:‏

- هي أحلام، صدقوني، لقد ولّدت أمها بيدي هاتين، قبل أن أولدها مع مئات من الأطفال، ومنهم أحمد المظلوم.‏

****‏

يستيقظ الصباح منزعجاً من تحرش السائقين به، ومن أبواق سياراتهم، ومكابحهم.. أحمد المظلوم يبدو متفائلاً وهو يأخذ مكانه المألوف على مفترق الطرق، ويتمثل دور رجل المرور، لقد اعتاد الناس رؤيته في ذلك المكان، وكأنه أحد الأعمدة المحيطة بالساحة.‏

لقد بدأت حياة أحمد بالتصحر حينما حُملت أحلام إلى قصر أحدهم إذعاناً لأوامر والدها. والآن من مكانه، يحادثها، ويسألها عن حبها له، لكنه لا يلبث أن يستفيق عندما تزعق الكتل الحديدية، فيعود لمتابعة عمله المروري.‏

****‏

الجدة تعيد سرد روايتها مع كل ربيع:‏

- البارحة رأيت أحلام عند الشاطئ الجنوبي للمدينة، طلبت مني أن أحضر أحمد كي تراه، أرجوك قل ذلك لأحمد -ألحت في طلبها-..‏

فكرت: لابدّ من ذلك. كان عند المفترق ينظم حركة السير، أخبرته بحديث الجدة، سألته الذهاب فجراً إلى الشاطئ، رفض بعناد، قلت له: إن أحلام ستكون بانتظاره، لم يسمع كلماتي، تركته لعمله الذي يبدأ عادة مع الصباح بتدوين أرقام السيارات، يوجه بعض السائقين إلى المرور من هذا الاتجاه، أو ذاك، يصرخ بسائق يقود بسرعة زائدة، لا يشعر السائق بوجوده، ينتبه بعض المارة أن عليهم العبور من هذا المكان، بعضهم يسخر منه، بعض آخر يعطف عليه.‏

فجأة ينسى المفترق، ويفتعل شجاراً عنيفاً مع أمير من صحراء الذهب، يشتبك معه، يتماسكان، يتبادلان اللكم والرفس، يفلت الأمر، يركض أحمد خلفه، تضطرب حركة السير، وتكثر الأبواق الزاعقة خلفه، يذهب بعيداً وهو يلاحق الأمير، لا أحد يكترث لغيابه، حركة السير تزداد انتظاماً.‏

****‏

عندما وهنت خيوط الليل، وبدأت تنسحب باتجاه البحر، قصدتُ الشاطئ، سأراها -قلت في نفسي- وسأعيدها إلى أحمد، لمحتها قبل استيقاظ الشمس لم أجرؤ على التوجه إليها، لم تساعدني قدماي، ركضت هي إلي، كانت خفيفة الحركة كطيف:‏

- أرجوك... يجب أن أر...ى...‏

إنه صوتها. عيناها. شعرها. حاولت أن أكلمها، لم أسمع صوتي، وكأن شيئاً آخر غير الكلمات هو الذي يخرج من فمي، لم تكمل كلماتها، اختفت بسرعة، بينما كانت الشمس ترسل إشعاعاتها الأولى لتفتح لها طريقاً لتخرج إلى متنزهها اليومي.‏

ركضت بفرح طفولي لأخبر الجدة. لم أجدها. سألت صديقتها مريم عنها تنكرت لسؤالي. لم تجب بحرف. ركضت إلى البيت:‏

- أبي أين جدتي؟‏

صمتٌ مفزعٌ، عينا الوالد تتسعان، وهو ينظر صامتاً مستغرباً.‏

-أريد أن أتحدث مع جدتي.‏

صمت مطبق، لم يجبني، خرجت بسرعة لكن كلمات همس بها لأمي ماتزال تدوي في رأسي دون أن أدرك ماتعني: "لقد حدث لعقله شيء ما، ما الذي جعله يتذكر الجدة بعد كل هذه السنوات؟‍!"‏

عدت بسرعة إلى بيته، أحمد ليس هناك، أوراق متناثرة على طاولته العتيقة، بعضها ممزق، واحدة صفراء، قرأت فيها بخط اعتقدت في البداية أنه خطي-:‏

" لم تعودي قريبة، أخذوك دون أن أعلم، اضطربت مياه النهر، تأرجحت الأشجار بعنف أفقدها الأخضر من ثوبها، ذهبت الأوراق في رحلة قاسية مع الريح لتعود صفراء كالموت، وأنا أراك في كل قطرة تنزرعين بين الحصى، وتتوزعين بين الأوراق التي تناثرت في الماء..".‏

ركلتُ الطاولة، انقلبتْ، وتناثرت الأوراق، خرجتُ إلى الزقاق، لمحته يراقب وكر نملٍ نشيط، مرحاً كان، فلقد وجد من يتفاهم معه، كان يحاول مساعدة نملة بتوجيهها إلى حبة قمح، وهو غير مكترث بأحد:‏

- أحمد.. أحلام تريد رؤيتك ، قلت له....‏

- لا أعرف أحداً بهذا الاسم، أجاب...‏

- إنها بانتظارك غداً عند الفجر، أكدت له..‏

- لن تحضر أيها الأبله، قالها بسخرية، دون أن يتطلع إلي..‏

- أحمد صدقني، أحلام تريد رؤيتك، وهي تنتظرك عند شاطئ البحر عند الفجر، توسلت إليه بعيني.‏

- لن أذهب، نظر إلي بغضب، قابلها أنت...‏

تركني مع وكر النمل، تسارعت خطواته، اختفى، بقيت أراقب عمل النمل النشيط، وأنا غير قادر على الحركة.‏

****‏

مع خيوط الفجر الأولى، تسربت الخيبة إلى نفسي، لن تأتي، هكذا قررت وأنا أتجه إلى الشاطئ. جلست على صخرة دائرية مرتفعة أرقب من خلالها ارتسام المويجات على رمال الشاطئ، لم تأتِ، بحثت عنها في كل اتجاه، لمحتها في شبكة صياد عجوز له وجه جدتي، ركضت إلى هناك، تسربت كما الماء من بين فتحات الشبكة. عدت إلى صخرتي الدائرية، بالمناسبة كانت تشبه كثيراً مفترق الطرق الذي يقف أحمد عنده، فكرت بما قاله لي:‏

- لن تأتي أيها الأبله..‏

بدأ قرص الشمس يسترق النظر بعينين ساخرتين، من خلف القلعة العالية شرق المدينة، وانعكس ضوؤه أصفر باهتاً، فوق مويجات البحر التي صحت من نومها، وبدأت بملاعبة الرمال الذهبية..‏

لملمت خيبتي. قررت العودة، يجب أن أخبر أحمد والجدة بما حدث. لم أر أحداً، ما الذي يحدث؟ أنا....؟! أنا...؟!‏

صوت اصطدام سيارتين جعل عينيه المفتوحتين تبصران المكان، اتسعت حدقتا عينيّ، ضجيج الشارع ازداد مع ازدياد أصوات المارة وازدحام العربات.‏

إني أرى ماحولي، حركة السير تزداد، السماء ملبدة بالغيوم، وريح غربية جنوبية عاصفة خرجت من البحر.‏

وأنا!! أنا!!‏

كنت أقف عند نقطة التقاطع، أمثل دور رجل المرور، لمحت أمير الذهب، ترددت في الاشتباك معه...