* الموت:
السماء لا تتسع للغيوم الداكنة التي بدأت تنعصر قطرات مطر تدفن في الأرض، وغطاء أبيض يخفي عن العيون مايدور في الحفرة الترابية، الحفرة تستعد لاستقبال تراب آخر بعد أن لفظت الجدة أنفاسها: في النهاية كما البدء تراب...
يجلس على زاوية الحفرة: الرجال منشغلون، بعضهم يمسك بأطراف الغطاء الأبيض، أو يجهز الأحجار المناسبة، آخرون يتكؤون على المعاول بجاهزية عالية لإهالة التراب على الجثة...
يبقى على الزاوية، يرفع الغطاء في غفلة عن الآخرين، يسيطر عليه الرعب، فهم يضعون التراب في فمها. دمعة صغيرة انحدرت على خده، ألقى نظرة أخيرة إلى كومة التراب التي كانت جدته قبل قليل، تمتم مودعاً دون أن يفتح فمه، انسدل الغطاء الأبيض، تابع الرجال عملهم، فرَّ بعيداً.
* الوكيل:
استمر فراره عاماً كاملاً. فالخوف من تأنيب الجدة كان يلازمه، ويتزايد يوماً بعد يوم، مع تزايد رغبته في زيارتها، حسم أمره أخيراً، حمل وردتين، وصعد الدرب المؤدية إلى القرية...
حجر... تراب
وحل.. وحصى...
وترنحٌ بين الخطوة والخطوة
وخيطٌ من دم
لا يزال في ذاكرته
ينزل المنحدر الواصل بين الانف والفم
والفم بالتراب..
أُغلق..
وصل إلى مقام "الشيخ محمد" نبات العلّيق يحجب كل شيء، تذكر الاسم الذي يطلقه العامة على المقام "الشيخ محمد العليقة". تعود به الذاكرة إلى الوراء، الدم من جديد:
"وكيل الآغا تقطع يده، حدث ذلك في بداية الشتاء، هو مايزال يتذكر لسع سياط البرد على جسده الغضّ. عارياً كان يحمل -الطشت- ويتفقد الماء الذي كان يغلي في وعاء كبير على كومةٍ من الأحجار، يومها كانت الجدة شابة، كانت تصرخ به ليحضر -الطشت- بسرعة، ويدخل إلى البيت الطيني تفادياً للبرد، همَّ بالدخول، لكن...
[صوت مفزع، انكسار شيء ما، رمى الطشت.. انطلق يعدو إلى مكان الصوت. وهو مايزال عارياً، لم يفهم شيئاً، لكنه رأى الشرفة الوحيدة في القرية وقد سقطت، ووكيل الآغا الذي كان واقفاً بمفرده عليها قد تكوم أرضاً، فقد كُسرت يده].
تراجع الطفل، وهو مايزال عارياً في برد كانون، أُدخل البيت الطيني، بدأت الجدة بصب الماء الساخن على جسده، وصارت تدعكه بقوة، وكأنها كانت تعلم ماحدث، فهي لم تكلف نفسها عناء السؤال".
هذه الحادثة ظلت غائمة في ذهنه إلى أن أصبح شاباً، عرف وقتها أن وكيل الآغا قصّ ذات يوم بعض العليق من المقام، وفي صباح اليوم التالي تدهورت شاحنة دون أي سبب معروف قرب القرية، القرويون الذين جعلوا من الشرفة الوحيدة في القرية مظلتهم، غادروها باتجاه الحدث، وكيل الآغا خرج إلى الشرفة مستطلعاً، انهارت الشرفة، يد الوكيل تقطع، انتقم "الشيخ محمد" منه، بعدها لم يجرؤ أحد على الاقتراب من المقام وقص النبات.
* الزيارة:
وصل إلى حرم المقام، دخله من بين نبات العليق، وقف مشدوهاً، فكر بالعقاب، أحس أنه يعود عشرين سنة إلى الوراء، ويومها. [كانت الحرب النكسة، وكان في الثالثة عشرة من عمره عندما رحل مع النساء والأطفال إلى القرية، خوفاً من الحرب، وفي أحد الأيام دخل المقام، وسرق النقود التي كانت موجودة هناك، إنها سبعة فرنكات، اشترى بها سجائر من نوع مرجان-]...
- ياسيدي...
/صدى/
- اعتذر عن سرقة الفرنكات..
/ صدى /
خوف يملأ المكان..
وإصرار على المتابعة..
فلابد من المواجهة..
اقترب من الأحجار، وضع فيها مافي جيبه، إنها عشر ليرات، ربما تعادل الفرنكات السبعة التي سرقها يوماً ما.
أحجار فقط
أحجار وتراب
وأنت وحيد
ترتجف خوفاً
اطلب شيئاً
فأنت عارٍ
عارٍ
حتى من نفسك
تمنى شيئاً، طلبه بصوت مرتفع كي يبدد وحشة المكان، خرج زاحفاً، استمر بالدعاء، غادر المكان صعوداً، كومة العليق تبتعد، الدرب يزداد وعورة، والصبّار يحيط به من كل صوب. توقف:
البلوطة أصبحت هرمة. زاوية -الحاكورة-، ثم بعدها قبر الجد وقبر الجدة، من هذه الزاوية رأى الرجال وهم يضعون التراب في فم الجدة، والغطاء الأبيض يخفي مايدور في الحفرة. دخل من بين أشجار الرمان المتشابكة مع سياج -الحاكورة- علقت الوردتان بالسياج، لم ينتبه لذلك، أصبح أمام شجرة التين، إنه الشتاء، أما الزيتونة العجوز:
- آه كم هو قاسٍ هذا الزمن:
كانت الزيتونة أيام الطفولة، تظلل العائلة، لم يبق منها سوى جذع ضعيف يتكئ على ساق عاجزة عارية. حاول أن يفهم شيئاً، عاد بنظرة خائباً، إلى اليسار قليلاً كانت كومتا تراب.. عبرت صورة الجد الذي حارب الافرنسي، وقُطعت رجله، والجدة التي قطعت كل صلة لها بهذا العالم، ولحقت بزوجها.
عاد بنظره إلى الزيتونة العجوز، والتينة التي تشبه الجدة، تطلع إلى الدالية، لم يبق منها إلاّ خيط أسود يعرش على شجرة البلوط، بحث عن ملجأ، إنه الشتاء:
- كم أنت قاسٍ أيها الزمن!!
* العصا:
"البعل" يلحق بـ "موت" ينزل في جوفه، ويبدأ العراك. "البعل" عارٍ تماماً، و"موت" يضحك ملء فمه، والأرض تدور وتدور.
يركض إلى القرية:
بيت الأسرة القديم أكوام من الحجارة، مع طين أحرقه "شمس" والغرفة التي بناها خاله حديثاً، حيث ماتت الجدة، مغلقة على ماتركته الجدة من ذكريات، فتحها عنوة، عاد طفلاً:
العصا ألف قائمة
تستريح في الزاوية
فوجئ بالجد يهز العصا في وجهه، توقف قليلاً، حاول الهرب، القى نظرة أخرى، العصا تستريح وحيدة، حاول الاقتراب، خاف من الجد، تذكر كومتي التراب، تشجع، أمعن النظر، إنها وحيدة.
عاد طفلاً يلبس زناراً من نار، بدأ يهرب من صورة الجدة وهي تدعك رأسه بقوة، الجد يبتسم له وهو يلف سيجارته، وكأنه يشجعه. أمسك بالعصا. اتكأ عليها، بحث عن مرآة يرى نفسه فيها، لم ير في الغرفة سوى ابتسامة الجد الذي حارب الافرنسي، استعارها منه، خرج من الغرفة وهو يبتسم، انحدر في درب الصّبار، عند زاوية -الحاكورة- فكر في أن يودع كومتي التراب، واجهه السياج، وأشجار الرمان، واصطدمت عيناه بوردتين علقتا في السياج، انحدر راجعاً...
كان "البعل" قد خرج من جوف "موت"، وتوزعت أوردته في الأرض، أصبحت تلالاً من "بخور مريم" و"شقائق النعمان"، وأصبح جسده بلوطاً وسندياناً وزيتوناً.
تأكد أن الربيع آت، وأن أية قوة في العالم لن تأخذ منه عصا الجد، لوح بها في الفضاء، نزل الدرب راكضاً، كان العليق مايزال يحمي باب المقام، و"موت يئن تحت ضربات "البعل"، والربيع يطلع الزهر من رحم الأرض، وصل إلى مكان الحادث القديم، وقف تحت الشرفة، وهو يتكئ على العصا، كانت السيارات الشاحنة تذهب وتجيء، والقرويون يتبادلون التحيات بود، حينها فقط رأى "البعل" يحمل عصاه، ويومي له، كانت الأرض تلبس ثوباً مزركشاً، وتغني "الدلعونة".