الخامسة تماماً، وأنا أجري في ممرات (المترو) بمحطة ( سانسييه) واقفز لاهثاً الدرجات الباقية، وأخرج من جهة مقهى ( ميرابل)، وأحثّ الخطا في درب الجامعة. لم أكن أدري أن الطريق ستستغرق كل هذا الوقت. لقد تأخرت ولابد أن أستاذتنا الدقيقة في ميعاد دخولها إلى الفصل، أخذت موضعها خلف الطاولة تنتظر، وأمامها، على شكل حلقة واسعة، ستون طالباً وطالبة تقريباً من أنحاء العالم كله ينتظرون معها، طلاب من فرنسا وأمريكا اللاتينية وكندا وأفريقيا واليمن وتونس وفيتنام وإيران. سينتظرون خمس دقائق ثم يتجاوزونني ويبدؤون عرض موضوع «العنصرية» حسب المخطط المرسوم. وسيتناول كل واحد من الفريق الذي اختار هذا الموضوع عنصراً يتحدث عنه. حين سألوني عما أختار لم أتردد. قلت لهم: سأكون أنا الحالة التي تمثل الضحية للعنصرية، وتحت إلحاح نظراتهم المتسائلة قلت: نعم، فأنا عربي.. فلسطيني.. اسمر.. لم أتقن اللغة الفرنسية، ولم تتحدد الجنسية على بطاقة إقامتي بعد. قالوا: - إذاً ستكون أول المتحدثين رأيت على باب مقهى (كاروس) فهد السعودي النحيف الوسيم الأنيق كعادته. وكان يعمل مراسلاً لمجلة (اليمامة السعودية) يقف وكأنه ينتظر أحداً على قلق، فسلمت عليه من بعيد. ولمحت من وراء الزجاج عبد الرحمن، الذي يقوم بإعداد معجم اللغة الكردية، يجالس فتاة فرنسية، وهو ماض في حديثه وهي تصغي. وبخطوات سريعة اجتزت ساحة الجامعة وصعدت الدرجات اثنتين اثنتين حتى وصلت إلى الطابق الثاني، وهرعت في الممر الطويل المعتم، إلى القاعة (69). وبهدوء شديد فتحت الباب يداخلني إحساس بالخجل والحرج فتوجهت إليّ الأنظار وانفرج ثغر استاذتنا الشقراء المهيبة عن ابتسامة ساخرة وهي تقول: - وأخيراً.. وصل! هيا لنبدأ ومع أنني قرأت النص، الذي كتبته وصححته لي الصديقة (مارتين) عشرات المرات حتى لاأخطىء، فقد ارتجفت في البداية، في الأسطر الأولى، وتهدج صوتي. وحين استغرقتني الحالة التي حاولت أن أعبر عنها، تجاوزت نفسي، وأنا أحس بالعيون الكثيرة المحدقة بي تتحول من الفضول إلى الدهشة والترقب، وكان صوتي المنفعل بما يقرأ، وحده، الذي يهز الصمت المهيب الذي لفّ قاعة الدرس فجأة بعد الأسطر الأولى. «أود أن أقول لكم، في البدء، ياأصدقائي: إنني لا أعاني الوحدة والعزلة بالمعنى الذي قد تفهمونه، فلي في هذا البلد أصدقاء أكثر مما يحتاج طالبٌ يريد أن يكتب بحثه الجامعي، ويعمل في صمت. ولاترهقني مشكلة مادّية كآلاف الطلاب هاهنا، فقلمي صديق وفيّ، وبفضله أجد في باريس مكاناً آوي إليه، وأعثر في غرفتي حين أعود في الليل، على شيء من الخبز والجبن يسدّ جوعي حتى يوم آخر. وليس بي وجع عاطفي تحمله المرأة إلى قلبي الذي يسكن صدري، فقلبي قد شاخ وعمّر مئات السنين، ولابدّ أن الصدأ قد تراكم عليه إلى حد مخيف. ولاتثقلني وحشة البعد عن وطني، منذ أن أصبح وطني مرتعاً للغرباء القادمين من كلّ فجاج الأرض، منذ أن أجبرنا، هرباً من جحيم الحديد والنار، على الرحيل إلى المنفى، فأصبح كل مكان لي، غير فلسطين، منفى. وقد ألفت الوقوف على عتبة الحلم، إذا ماجنّ الليل، لأتجول في ربوع قريتي التي كبرت معي في المنافي، وبقيتُ طفلاً على أعتابها. مااكتبه بعيد إذا أن يكون أمراً شخصياً عابراً إنما هو تعبير عمّا يحسّه إنسان لم يستطع أن يقاوم أحاسيسه أن تعبر عن نفسها. ماأكتبه بعيد أن يكون، كذلك، بحثاً موضوعياً، يضاف إلى آلاف المقالات والكتب التي عالجت بعقل بارد، موضوع «العنصرية». مثل هذا كثير تجدونه في المكتبات معروضاً للراغبين وبمبلغ زهيد يمكن أن تعودوا بمعلومات وفيرة عن هذا الموضوع. لم نأت هنا لنتعلم، فمجال هذا بقية الدروس والمحاضرات. نحن هنا لنتواصل، ولقاؤنا، الذي يتجدّد كلّ أسبوع، فرصة تواصل إنساني على مستوى اللغة المكتوبة والمحكيّة بين إنسان وإنسان، لاكلمات عن إنسان من حبر وورق. هذا هو اللون من التواصل الذي يهمنا: هذا الإنسان أمامي بشكله ولونه وعوالمه وهمومه الساخنة وليس الإنسان المجرد، أي إنسان إنها فرصة لتتعرفوا إليه عن قرب، وتفهموه وتتعمقوا ظروفه، وتطرحوا عليه ماشئتم من اسئلة، فتتجولوا في رأسه، وتكونوا نبضة في دم قلبه، فربّما لايجمعكم به دربكم مرّة أخرى وإلى الأبد. ربما كان دافعي إلى الكتابة ماكان من أصدقائي، الذين قرّروا أخيراً أن يلجؤوا إلى أحد المعاجم، يستشيرونه لتحديد معنى«العنصرية» كحقيقة موضوعية باردة، قابلة للقبض عليها. أمّا أنا فلا أستطيع، آسفاً، أن أوافقهم على رأيهم هذا، أو أحذو حذوهم. فأنا لستُ في حاجة إلى تعبيرات ميّتّة، دفنت في بطون المعاجم، مادمتُ أعيش هذا «المعنى» في حياتي اليومية. أراه بعينيّ هاتين. اقرؤه على الوجوه. أسمعه عبر تموجات الصوت. أواجهه مع قهوة الصباح على بطاقة إقامتي «الجنسية: غير محددة»، ألقاه كلما وجدتُ نفسي ألهثُ في الممرات الطويلة، المعتمة، الموحشة، أطرق الأبواب العالية، الموصدة، أطلب إليهم تأشيرة خروج. نلتقي معاً في السفارات الفخمة، في الأحياء الراقية هنا وهناك، على الوجوه المتوردّة صحّة ورضاً وراحة أعصاب، حين أقبل عليهم متوسلاً تأشيرة دخول إلى بلادهم الهادئة العامرة، التي يمكن أن يعكر صفوها، أو يقلبها خراباً دخولي إليها! أحسه في دمي يجري في العروق، وأنا أحترق أياماً، شهوراً في انتظار جوابهم يأمرني: تفضّل بالدخول! أو يُقفل الباب في وجهي صارخاً: قفْ مكانك! أراه، ألمسه، أشمّه، أسمعه، حين أطلب فنجان القهوة، أوجريدة الصباح، أو رغيف الخبز. أحسّه حذراً، شكاً، اتهاماً، عبر النظرات والكلمات، والحركات، عبر ما يُقال ومالايقال، يرفضني، يدفعني بعيداً، يعدّ وجودي غير مرغوب فيه، تطفّلاً، جريمة ارتكبتها الطبيعة على عمد. اسمي الوحيد الذي يرنّ، بلا انقطاع في المحطات والمطارات والحدود، فأستدعى إلى السؤال والجواب. وبصمات أصابعي تمثل أمام لجان متخصصة، وجواز سفري يُنادى عليه، لتستعرضه العقول الإلكترونية، لعلّ شبهة ماتعلن عن نفسها، وحقائبي تقاد إلى التفتيش والتدقيق مع أنها لاتحتوي، واأسفاه، إلاّ على الكلمات. ولطالما تمنيت أن تستحيل إلى صواعق تكفيني الجواب عن كلّ الأسئلة. اعذروني ياأصدقائي! فربما لم تواجهوا وحشية العيون. العيون التي تفحصك من كل جانب، تخترقك، تعريك بلا رحمة، تمزّقك، تدفعك، تعيدك إلى التراب الذي منه خرجت، تحرقك بأسئلتها: من أنت؟ ولماذا جئت؟ وكيف؟ وإلى متى؟ وإلى أين؟ وأنت حائر، يسكنك رعب صلد، لاتعرف أن تجيب، أو لايتركون لك الفرصة لتجيب، لأنهم لايسمعون، وإن سمعوا لم يفهموا، وإن فهموا لم يغفروا، وإن غفروا لم يرحموا، وإن رحموا تركوك في شأنك ومضوا إلى شؤونهم، فأمامهم «مشوار» طويل، وقضايا أهمّ منك ومن وجودك كلّه، فانصرف بسلام، أو بغير سلام فانصرف! لايا أصدقائي! لاتذهبوا إلى معجم «روبير» ولاإلى «لاروس» ولاإلى الموسوعة البريطانية! تعالوا إليّ!» وعلى غير انتظار انفجر الصمت بعد صمتي، بالتصفيق وبأصوات متباعدة: برافو..برافو واحتاج الأمر إلى دقائق لألتقط أنفاسي، وأعود إلى مكاني، ويعود الهدوء إلى القاعة، ويعود الطلاب إلى مألوف سلوكهم بعد أن هزّهم صوت الصدق في صوتي وكلماتي، فقليل ما يخرجهم عن مألوفهم، كنت أعلم أنهم لم يصفقوا لي ولم يعجبوا بي بقدر ما صفقوا وأعجبوا بهذه الحالة الفريدة التي يعيشها الفلسطيني في العالم. وجاءت إلى المنصة، من بعدي، الشابة التونسية الصغيرة (نزار), جاءت على ريث وتردد. كان عليها أن تتحدث عن معنى (العنصرية) في المعاجم. كان موقفها صعباً بعد كلامي. أشفقت عليها، أشفقت على رقتها، وتمنيت أن تعفيها الأستاذة من هذه المهمة الصعبة. حاولت نزار أن تتكلم فلم يخرج صوتها. ولعلها أدركت تفاهة ماستقول. وبقيت تحدق في الفراغ ولايجرؤ صوتها على الانطلاق ووجدت الأستاذة في صمتها دافعاً لتعلق ضاحكة: ـ ليس كل إنسان قادراً أن يكتب الشعر! إذاً أنا كتبت شيئاً قريباً إلى الشعر، دون أن أدري. وضاعف هذا التعليق من حرج نزار، فطال صمتها. وكان لابد أن يخرج صوتها أخيراً لتبدأ مداخلتها، فخرج ضعيفاً متقطعاً مجرّحاً.. ثم انطلقت في قراءة حرفية دون روح، وكأنها لم تسمع كلّ ماقلته، أو بالأحرى تجاهلت كلّ ماسمعت، إذ كان لا بد أن تمضي الأمور في الفصل كما تمضي عادة وكأن شيئاً لم يكن
الخامسة تماماً، وأنا أجري في ممرات (المترو) بمحطة ( سانسييه) واقفز لاهثاً الدرجات الباقية، وأخرج من جهة مقهى ( ميرابل)، وأحثّ الخطا في درب الجامعة. لم أكن أدري أن الطريق ستستغرق كل هذا الوقت. لقد تأخرت ولابد أن أستاذتنا الدقيقة في ميعاد دخولها إلى الفصل، أخذت موضعها خلف الطاولة تنتظر، وأمامها، على شكل حلقة واسعة، ستون طالباً وطالبة تقريباً من أنحاء العالم كله ينتظرون معها، طلاب من فرنسا وأمريكا اللاتينية وكندا وأفريقيا واليمن وتونس وفيتنام وإيران. سينتظرون خمس دقائق ثم يتجاوزونني ويبدؤون عرض موضوع «العنصرية» حسب المخطط المرسوم. وسيتناول كل واحد من الفريق الذي اختار هذا الموضوع عنصراً يتحدث عنه. حين سألوني عما أختار لم أتردد. قلت لهم: سأكون أنا الحالة التي تمثل الضحية للعنصرية، وتحت إلحاح نظراتهم المتسائلة قلت: نعم، فأنا عربي.. فلسطيني.. اسمر.. لم أتقن اللغة الفرنسية، ولم تتحدد الجنسية على بطاقة إقامتي بعد.
قالوا:
- إذاً ستكون أول المتحدثين
رأيت على باب مقهى (كاروس) فهد السعودي النحيف الوسيم الأنيق كعادته. وكان يعمل مراسلاً لمجلة (اليمامة السعودية) يقف وكأنه ينتظر أحداً على قلق، فسلمت عليه من بعيد. ولمحت من وراء الزجاج عبد الرحمن، الذي يقوم بإعداد معجم اللغة الكردية، يجالس فتاة فرنسية، وهو ماض في حديثه وهي تصغي.
وبخطوات سريعة اجتزت ساحة الجامعة وصعدت الدرجات اثنتين اثنتين حتى وصلت إلى الطابق الثاني، وهرعت في الممر الطويل المعتم، إلى القاعة (69). وبهدوء شديد فتحت الباب يداخلني إحساس بالخجل والحرج فتوجهت إليّ الأنظار وانفرج ثغر استاذتنا الشقراء المهيبة عن ابتسامة ساخرة وهي تقول:
- وأخيراً.. وصل! هيا لنبدأ
ومع أنني قرأت النص، الذي كتبته وصححته لي الصديقة (مارتين) عشرات المرات حتى لاأخطىء، فقد ارتجفت في البداية، في الأسطر الأولى، وتهدج صوتي. وحين استغرقتني الحالة التي حاولت أن أعبر عنها، تجاوزت نفسي، وأنا أحس بالعيون الكثيرة المحدقة بي تتحول من الفضول إلى الدهشة والترقب، وكان صوتي المنفعل بما يقرأ، وحده، الذي يهز الصمت المهيب الذي لفّ قاعة الدرس فجأة بعد الأسطر الأولى.
«أود أن أقول لكم، في البدء، ياأصدقائي: إنني لا أعاني الوحدة والعزلة بالمعنى الذي قد تفهمونه، فلي في هذا البلد أصدقاء أكثر مما يحتاج طالبٌ يريد أن يكتب بحثه الجامعي، ويعمل في صمت. ولاترهقني مشكلة مادّية كآلاف الطلاب هاهنا، فقلمي صديق وفيّ، وبفضله أجد في باريس مكاناً آوي إليه، وأعثر في غرفتي حين أعود في الليل، على شيء من الخبز والجبن يسدّ جوعي حتى يوم آخر. وليس بي وجع عاطفي تحمله المرأة إلى قلبي الذي يسكن صدري، فقلبي قد شاخ وعمّر مئات السنين، ولابدّ أن الصدأ قد تراكم عليه إلى حد مخيف. ولاتثقلني وحشة البعد عن وطني، منذ أن أصبح وطني مرتعاً للغرباء القادمين من كلّ فجاج الأرض، منذ أن أجبرنا، هرباً من جحيم الحديد والنار، على الرحيل إلى المنفى، فأصبح كل مكان لي، غير فلسطين، منفى. وقد ألفت الوقوف على عتبة الحلم، إذا ماجنّ الليل، لأتجول في ربوع قريتي التي كبرت معي في المنافي، وبقيتُ طفلاً على أعتابها.
مااكتبه بعيد إذا أن يكون أمراً شخصياً عابراً إنما هو تعبير عمّا يحسّه إنسان لم يستطع أن يقاوم أحاسيسه أن تعبر عن نفسها. ماأكتبه بعيد أن يكون، كذلك، بحثاً موضوعياً، يضاف إلى آلاف المقالات والكتب التي عالجت بعقل بارد، موضوع «العنصرية». مثل هذا كثير تجدونه في المكتبات معروضاً للراغبين وبمبلغ زهيد يمكن أن تعودوا بمعلومات وفيرة عن هذا الموضوع.
لم نأت هنا لنتعلم، فمجال هذا بقية الدروس والمحاضرات. نحن هنا لنتواصل، ولقاؤنا، الذي يتجدّد كلّ أسبوع، فرصة تواصل إنساني على مستوى اللغة المكتوبة والمحكيّة بين إنسان وإنسان، لاكلمات عن إنسان من حبر وورق. هذا هو اللون من التواصل الذي يهمنا: هذا الإنسان أمامي بشكله ولونه وعوالمه وهمومه الساخنة وليس الإنسان المجرد، أي إنسان إنها فرصة لتتعرفوا إليه عن قرب، وتفهموه وتتعمقوا ظروفه، وتطرحوا عليه ماشئتم من اسئلة، فتتجولوا في رأسه، وتكونوا نبضة في دم قلبه، فربّما لايجمعكم به دربكم مرّة أخرى وإلى الأبد.
ربما كان دافعي إلى الكتابة ماكان من أصدقائي، الذين قرّروا أخيراً أن يلجؤوا إلى أحد المعاجم، يستشيرونه لتحديد معنى«العنصرية» كحقيقة موضوعية باردة، قابلة للقبض عليها. أمّا أنا فلا أستطيع، آسفاً، أن أوافقهم على رأيهم هذا، أو أحذو حذوهم. فأنا لستُ في حاجة إلى تعبيرات ميّتّة، دفنت في بطون المعاجم، مادمتُ أعيش هذا «المعنى» في حياتي اليومية. أراه بعينيّ هاتين. اقرؤه على الوجوه. أسمعه عبر تموجات الصوت. أواجهه مع قهوة الصباح على بطاقة إقامتي «الجنسية: غير محددة»، ألقاه كلما وجدتُ نفسي ألهثُ في الممرات الطويلة، المعتمة، الموحشة، أطرق الأبواب العالية، الموصدة، أطلب إليهم تأشيرة خروج. نلتقي معاً في السفارات الفخمة، في الأحياء الراقية هنا وهناك، على الوجوه المتوردّة صحّة ورضاً وراحة أعصاب، حين أقبل عليهم متوسلاً تأشيرة دخول إلى بلادهم الهادئة العامرة، التي يمكن أن يعكر صفوها، أو يقلبها خراباً دخولي إليها! أحسه في دمي يجري في العروق، وأنا أحترق أياماً، شهوراً في انتظار جوابهم يأمرني: تفضّل بالدخول! أو يُقفل الباب في وجهي صارخاً: قفْ مكانك! أراه، ألمسه، أشمّه، أسمعه، حين أطلب فنجان القهوة، أوجريدة الصباح، أو رغيف الخبز. أحسّه حذراً، شكاً، اتهاماً، عبر النظرات والكلمات، والحركات، عبر ما يُقال ومالايقال، يرفضني، يدفعني بعيداً، يعدّ وجودي غير مرغوب فيه، تطفّلاً، جريمة ارتكبتها الطبيعة على عمد.
اسمي الوحيد الذي يرنّ، بلا انقطاع في المحطات والمطارات والحدود، فأستدعى إلى السؤال والجواب. وبصمات أصابعي تمثل أمام لجان متخصصة، وجواز سفري يُنادى عليه، لتستعرضه العقول الإلكترونية، لعلّ شبهة ماتعلن عن نفسها، وحقائبي تقاد إلى التفتيش والتدقيق مع أنها لاتحتوي، واأسفاه، إلاّ على الكلمات. ولطالما تمنيت أن تستحيل إلى صواعق تكفيني الجواب عن كلّ الأسئلة.
اعذروني ياأصدقائي! فربما لم تواجهوا وحشية العيون. العيون التي تفحصك من كل جانب، تخترقك، تعريك بلا رحمة، تمزّقك، تدفعك، تعيدك إلى التراب الذي منه خرجت، تحرقك بأسئلتها: من أنت؟ ولماذا جئت؟ وكيف؟ وإلى متى؟ وإلى أين؟ وأنت حائر، يسكنك رعب صلد، لاتعرف أن تجيب، أو لايتركون لك الفرصة لتجيب، لأنهم لايسمعون، وإن سمعوا لم يفهموا، وإن فهموا لم يغفروا، وإن غفروا لم يرحموا، وإن رحموا تركوك في شأنك ومضوا إلى شؤونهم، فأمامهم «مشوار» طويل، وقضايا أهمّ منك ومن وجودك كلّه، فانصرف بسلام، أو بغير سلام فانصرف!
لايا أصدقائي! لاتذهبوا إلى معجم «روبير» ولاإلى «لاروس» ولاإلى الموسوعة البريطانية! تعالوا إليّ!»
وعلى غير انتظار انفجر الصمت بعد صمتي، بالتصفيق وبأصوات متباعدة: برافو..برافو
واحتاج الأمر إلى دقائق لألتقط أنفاسي، وأعود إلى مكاني، ويعود الهدوء إلى القاعة، ويعود الطلاب إلى مألوف سلوكهم بعد أن هزّهم صوت الصدق في صوتي وكلماتي، فقليل ما يخرجهم عن مألوفهم، كنت أعلم أنهم لم يصفقوا لي ولم يعجبوا بي بقدر ما صفقوا وأعجبوا بهذه الحالة الفريدة التي يعيشها الفلسطيني في العالم.
وجاءت إلى المنصة، من بعدي، الشابة التونسية الصغيرة (نزار), جاءت على ريث وتردد. كان عليها أن تتحدث عن معنى (العنصرية) في المعاجم. كان موقفها صعباً بعد كلامي. أشفقت عليها، أشفقت على رقتها، وتمنيت أن تعفيها الأستاذة من هذه المهمة الصعبة. حاولت نزار أن تتكلم فلم يخرج صوتها. ولعلها أدركت تفاهة ماستقول. وبقيت تحدق في الفراغ ولايجرؤ صوتها على الانطلاق ووجدت الأستاذة في صمتها دافعاً لتعلق ضاحكة:
ـ ليس كل إنسان قادراً أن يكتب الشعر!
إذاً أنا كتبت شيئاً قريباً إلى الشعر، دون أن أدري. وضاعف هذا التعليق من حرج نزار، فطال صمتها. وكان لابد أن يخرج صوتها أخيراً لتبدأ مداخلتها، فخرج ضعيفاً متقطعاً مجرّحاً.. ثم انطلقت في قراءة حرفية دون روح، وكأنها لم تسمع كلّ ماقلته، أو بالأحرى تجاهلت كلّ ماسمعت، إذ كان لا بد أن تمضي الأمور في الفصل كما تمضي عادة وكأن شيئاً لم يكن