مصائر

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د. محمود موعد | المصدر : www.awu-dam.org

كانا مدرسين للغة الإنكليزية. جاءا إلى اليمن معارين من مدينة واحدة، صديقين لايفترقان، ربطتهما روح تكاد تكون روحاً واحدة، فأحدهما مقامر والآخر مغامر. يتفجران شباباً وصحة وقوة، ويقبلان على الحياة بنهم من يفارقها غداً، وينهلان من متعها الصغيرة والكبيرة بظمأ من لايرتوي من ظما. وعمّقت قراءتهما للكتب من رؤيتهما للعالم، فجعلت لحياتهما فلسفة نظرية كانت خلفية لحواراتهما وسلوكهما اليومي.

مازلت أذكرهما حتى الآن على الرغم من ربع قرن ويزيد يفصلني عن هاتيك الأيام: حسن المقامر، ربعة قصير، شعره مفلفل، تشع عيناه الصغيرتان حياة داخلية موّارة وراء نظرات كسلى، لامبالية، صامت في أغلب الأحيان، عابس إلاّ إذا استفزته مفارقة، فإنه يدفن رأسه في صدره ليأخذ حظه من الضحك. أما عبد الرحمن، المغامر، فطويل جسيم، شعره الأشقر خفيف يتكشف عن صلعة لامعة، يتفجّر وجهه دماً وحيوية دافقة، يتحدث في حماسة ويضحك بصخب، ويهتز جسده كله مستجيباً لحديثه وضحكه وسخرياته، وحين يشرب لايوقفه شيء عند حد، وكأنه ينتقم من شخص آخر في داخله، يشرب حتى تدمع عيناه، فيرق حديثه، وينساب الشعر في ثنايا كلماته.‏

وكنتُ على الرغم من تحفظي وخجلي معجباً بهما، بما لديهما من جرأة على الناس، والقيود الاجتماعية، وعلى الإقبال على الحياة، وإن كنت لاأقرّهما على ذلك، ولا أجرؤ على التفكير، مجرد التفكير، في أن أحاول ما يحاولانه. وكنت حين أجلس إليهما أشعر أن شخصيات روائية عرفتها عبر قراءاتي تخرج من الكتب، وتتحرك أمامي، شخصيات من لحم ودم، تمارس حياتها، وتكتب مصائرها بنفسها.‏

مازلت أذكرهما وهما يتعاوران سرد قصتهما المؤثرة مع المطرب المشهور محمد عبد المطلب، هذه القصة التي حفرت في أعماقي وتركت في نفسي أثراً لايُمحى إذ لامست، ولاأدري لماذا، شغاف قلبي، وهزّتني من الأعماق.‏

كانت رحلتهما إلى صنعاء عن طريق القاهرة، وكان عليهما أن يقضيا فيها ليلة واحدة، ليتابعا في الغد الرحلة إلى اليمن وليلتحقا بعملهما في المساء. ارتديا أفخر مالديهما من ثياب، وفاحت منها عطور باريسية ابتاعاها من المنطقة الحرة بالمطار، وغادرا الفندق إلى هدفهما المرسوم. واستقلا سيارة أجرة إلى «العتبة» حيث يُحيي محمد عبد المطلب لياليه الساهرة لعشاق الطرب الأصيل. وتوجها مباشرة إلى مدير«الكازينو» وطلبا منه، بهدوء وحزم، مقابلة الفنان الكبير. فقادهما إلى غرفة أنيقة، ورجاهما أن يجلسا دقائق، فموعد حضور الأستاذ قد اقترب. ولمّا أطلّ عليهما محمد عبد المطلب مرحبّاً، قاما لعناقه فاحتضناه طويلاً، وهما يطلقان عليه عبارات: أبو الطرب، شيخ المطربين، عملاق الفن، نشوة الماضي. وحين التقط أنفاسه بعد هذه المفاجأة، التي كانت في انتظاره، سألهما عما يريدان. فنكّسا رأسيهما قليلاً وكأنهما يفكّران ثم تكلّم حسن، المقامر، بهدوئه ورزانته وجدّيته:‏

ـ أستاذ محمد! نحن من عشاقك في سورية. ولم نستطع أن نداري عشقنا طويلاً، فحضرنا إليك بأنفسنا. وبما أننا رجال أعمال، وليس لدينا وقت كافٍ، فقد ركبنا الطائرة من دمشق، وسنعود عليها غداً إلى دمشق! كل مانرجوه، وماجئنا إليك خصيصاً بسببه، هو أن نسمع أغنيتك المشهورة الرائعة:«بتسأليني بحبك ليه»، ونرجو ألاّ تخّيب رجاءنا! .‏

وتهلل وجه المطرب الكبير، ولم يشكّ لحظة واحدة في صدقهما، وأخذ يردد:‏

ـ من عينيّ الاثنتين، يامرحب.. أهلاً وسهلاً من عينيّ‏

وحين اعتلى منصة الغناء، ارتجف صوته تأثراً، وامتناناً وهو يرحب أمام الجمهور، بالقادمين الضيوف من الشام الحبيبة، الذين حضروا قاصدين سماعه، على الرغم من مشاغلهم وضيق أوقاتهم. ووعد أنه سيلبيّ لهم الرغبة التي جاؤوا من أجلها.‏

وغنّى محمد عبد المطلب لهما وللجمهور أغنيته الذائعة الصيت «بتسأليني بحبك ليه». غنّاها بأشواقه وذكرياته وأمجاده التي أطلقها هذان المغامران العابثان، غنّاها «متسلطناً» متربعاَ، تلك الليلة التي لاتنسى، واستشرف آفاقاً لاحدود لها، وغدا روحاً هائمة تسمو على الإنس في ملكوت الإبداع، غنى فأطال، وردّد، وأعاد، وأطرب، وأهاج في النفوس الأشواق والآهات والتنهدات وصرخات الإعجاب والاستحسان. واختصر عمره وفنّه وخياله وأحلامه في ليلة واحدة امتدت.. وطالت حتى قصرت وانفضت في لحظات من الزمن الذي لايعود.‏

هل أحسّ حسن وعبد الرحمن، تلك الليلة، بنجاح مغامرتهما؟ هل أشفقا على هذا الفنان والإنسان الطيب؟ هل ساورهما الإحساس بالخديعة فندما على فعلتهما؟ لاأدري تماماً. فهما لم يفصحا في روايتهما القصة عن ذلك، ولم أشأ أن أصل منهما إلى جواب ولعل ماعصر قلبي آنئذ هو هذا الوهم الكبير الذي أطلق الرجل من عقاله فأبدع.‏

كل ما فعلاه في اليوم التالي أنهما ركبا الطائرة وتابعا رحلتهما إلى صنعاء اليمن، وليس إلى دمشق الشام كما زعما.‏

وعادت بي الذكرى إلى ليلة جزائرية في أعقاب الاستقلال، وكنت مع زملاء لي نعمل في تعليم اللغة العربية في المدارس الابتدائية. كنا تلك الليلة على موعد مع محمد عبد المطلب وفنانين آخرين جاءوا من القاهرة لإحياء ليلة فنية، بينهم فريد شوقي وإسماعيل ياسين وشريفة فاضل ومحمد قنديل كما أذكر.‏

وكنت أمني نفسي تلك الليلة بأغنية «أجمل من الذكرى في الدنيا إيه تاني» التي كنا نرددها في رحلاتنا حين كنا صغاراً في المدرسة الثانوية، حول النار في الليالي الطويلة أمام الخيمة وفي أماكن كثيرة.‏

وحين جاء دور محمد عبد المطلب، قدّمه عريف الحفل، وبدأت الموسيقى تعزف إحدى أغنياته، وفجأة طلع على الجمهور في الساحة الواسعة بقامته الطويلة، بكامل أناقته، وأخذ، من منتصف المسرح، يتأمل الجمهور الذي استقبله بفتور إلى حد ما. وبقي لحظات ينقل نظراته بين الصفوف. ويبدو أنه لم ير لدى الناس الاستعداد الذي ألفه لسماع لونه الخاص في الغناء، فأعطى إشارة من يده فبدأ صوت الموسيقى يتراخى شيئاً فشيئاً حتى توقف تماماً، عندها أدار محمد عبد المطلب ظهره للجمهور، ومضى بخطوات ثابتة وراء الكواليس، وغاب عن عينيّ إلى الأبد.‏

التقيت (حسن) من عشر سنوات تقريباً في شارع الحمراء بدمشق، عرفته من بعيد. كان يمشي، وكأنه يفتش، بين قدميه، عن شيء فقده. استوقفته، وعانقته، وذكرته بأيام اليمن البعيدة القريبة. سألته عن أحواله وأحوال عبد الرحمن. فهز رأسه أسفاً، وفاجأني بصوت أبحّ:‏

ـ عبد الرحمن مات! أصيب كبده. سافر إلى كل مكان ليجد علاجاً، فما نفعه شيء.. مات!‏

وتهاوى في خيالي جبل أشم إذ دك دكة واحدة! وعلى استحياء عرفت منه أنه حصل على إجازة بلا راتب لمدة سنة ليطوف على بيوت القمار السرية في مدينته؛ فحظه مقبل هذه الأيام. وزهد في دعوتي له. وغاب في الزحام كما ظهر. ولا أدري ما المصير الذي لاقاه أو يلاقيه اليوم، بعد أن ابيض شعره، وتهدّلت ملامحه، وتساقط معظم أسنانه.‏

ولم يطل الأمر بمحمد عبد المطلب، بعد تلك الليلة الاستثنائية، فودع هذا العالم، ليطوله النسيان الذي يطول كل شيء! وأضحت أيام الجزائر واليمن بعيدة لا تطولها إلا الظنون!