في السابعة من عمري كنت أسوق قطيع الماعز من الحارات العتيقة في حي الميدان، كغيري من الرعاة، إلى الحقول والمراعي القريبة، من غوطة دمشق، في المناطق التي أصبحت، هذه الأيام، أحياء واسعة تدعى اليرموك، والحجر الأسود، والتضامن، والزاهرة، ودف الشوك، بعد أن قُطعت الأشجار، وأتلفت المزروعات، وبنيت، بدلاً منها بلا هوادة، غابات من الإسمنت المسلح. كنت أعرف عن ظهر قلب هذه الأراضي الشاسعة، وأعرف أسماء حقولها، وكان في كل ناحية منها قناة ماء صافية، يقصدها بعض الصبية للسباحة، أذكر منها: المشرع، الحجر الأسود، العصرونية، الخنّاقة، قناة رانِس وغيرها، أرتادها في أوقات معينة من النهار. كنت أخرج في الصباح الباكر، ولا أعود إلا مع المساء، مع الرعاة الآخرين، بعد أن تكون هذه الحيوانات الأليفة قد أخذت حقها من العشب والماء، وأصوات الأجراس الشجية تخفق في أعناق الكباش وسط سحابة من الغبار، والروائح المميزة للقطعان. كان القطيع نشيطاً في الصباح. ينتقل، بخفة ورشاقة، من مكان إلى آخر، بحثاً عن الحشائش الطرية فيقضمها في شهية. وأحرص كل الحرص ألا يقترب من المساحات المزروعة بالقمح أو الشعير أو البرسيم، وألايطول الشجيرات حتى لا أثير غضب النواطير وأصحاب الحقول. وما إن تقترب الظهيرة حتى يخفّ نشاطه، وتفتر همته، فأنتقي له مكاناً مناسباً للقيلولة، في ظل أشجار الجوز العالية أو المشمش. وتختار كل دابة بقعة لها، فتستلقي على مهل، وتبدأ في اجترار ما أكلته من العشب على عجل. وأختار لي مكاناً، إلى جذع شجرة أسند إليه ظهري. وأتناول من زوادتي ما وضعته أمي. ثم أستسلم إلى تأمل رائع في ما حولي، فتبدو الطبيعة لي في كل تفصيلاتها وأسرارها الغامضة، وألوانها، وروائحها، وأشكالها. وأنتشي لهذه العلاقة الحميمة السرية التي تربطني بكل عنزة من القطيع. وأُخرج، أحياناً، من صدري العاري، إلا من قميص خفيف، جزءاً من القرآن، كنت أشتريه بخمسة قروش، وأقلب صفحاته دون أن أفقه شيئاً منها، فقد كنت أجهل القراءة والكتابة. ولكنني كنت أحسّ بالخشوع لكلام الله الذي كنت أسمعه يرتل من المذياع في الحوانيت التي أمرّ بها، وأنا خارج للحقول في الأصباح الباكرة. وأصل إلى صفحة معينة من الجزء أعرفها، وأقرأ في سري الآية الكريمة الوحيدة التي أحفظها: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً». وأرددها مرات ومرات، فتأخذني ألفاظها السحرية ومعانيها الغامضة، وتحملني إلى عوالم بعيدة قبل أن يُخلق الإنسان. ويسرح خيالي في حقول من الأحاسيس والأفكار الرائعة، ولا أعود حتى يبرد الجو وقت العصر، وينشط القطيع، من جديد، لجولة ثانية بحثاً عما يأكله، قبل أن يعود، في المساءات العذبة، إلى حظيرته في الحي القديم. وكان المطر الغزير، أحياناً، يفاجئني، وفي لحظات معدودات يبللني من الرأس إلى القدمين، قبل أن أجد ملجأ آوي إليه. ويتفتت في صدري العاري جزء القرآن، فيداخلني إحساس بالإثم، وأدفن مِزقه المبللة في أصل شجرة تحت التراب، لأشتري، في الغد، نسخة أخرى. وأتحامل على نفسي، والماء يقطر من ثيابي، حتى المساء، لأصل إلى البيت، فأجد أسرتي تلتفّ حول كانون النار، العابق بالدخان في أغلب الأحيان، فأبدل ثيابي، أو ألتفّ ببطانية، وأصطلي بدفء النار والأمان. وكان الليل يفاجئني أحياناً، حين يطلب مني صاحب القطيع انتظاره حتى يعود، فأضطر كارهاً إلى الانتظار الصعب، حين يتأخر في عودته أو لا يعود. وأفزع إذ يفزع القطيع، فيمتنع عن الأكل، ويأخذ في التلفّت في كل الاتجاهات، قد أوحشته العتمة المريبة، التي قد تتمخض عن ذئب جائع مفترس. ولا أقوى، بعد ذلك، على ضبطه، فيستلم، على الرغم مني، طريق العودة، التي يعرفها جيداً، فأتبعه مستسلماً خائفاً. وتتراءى لي الأشجار أشباحاً رهيبة، أو يخيل إلي أن خلفها آلاف العيون تتربّص بي. وتبدو الآبار المشقوقة على طول الدرب التَّرِب أفواهاً أسطورية تهمّ بابتلاعي مع القطيع، ومياهها المالحة القذرة تدوّي في الأعماق السحيقة، فيسقط قلبي رعباً. وتتبدد مني أحلام النهار، ولا تعود إليّ نفسي المطمئنة، إلا حين أدخل في أزقة الحي القديم. ولا أدري كم دام عملي راعياً، بصحبة قطيع الماعز، حتى التحقت متأخراً بالمدرسة، ودخلت عالماً جديداً. ولكني لا أستطيع مهما مرّ من زمن، أن أنسى تلك الأيام الرائعة، ولا صور هاتيك المخلوقات الوديعة، التي مازلت أراها في القطعان العابرة، ولا لحظات التأمل الطفولي في عالم الطبيعة الواسع وأسراره العجيبة، ولا هبّات الخوف والفزع. وأتساءل، الآن، في لهفة وشفقة: أيستطيع أولادنا الصغار، اليوم، أن يعيشوا ولو جزءاً يسيراً من «المغامرة» التي عشناها؟!.
في السابعة من عمري كنت أسوق قطيع الماعز من الحارات العتيقة في حي الميدان، كغيري من الرعاة، إلى الحقول والمراعي القريبة، من غوطة دمشق، في المناطق التي أصبحت، هذه الأيام، أحياء واسعة تدعى اليرموك، والحجر الأسود، والتضامن، والزاهرة، ودف الشوك، بعد أن قُطعت الأشجار، وأتلفت المزروعات، وبنيت، بدلاً منها بلا هوادة، غابات من الإسمنت المسلح.
كنت أعرف عن ظهر قلب هذه الأراضي الشاسعة، وأعرف أسماء حقولها، وكان في كل ناحية منها قناة ماء صافية، يقصدها بعض الصبية للسباحة، أذكر منها: المشرع، الحجر الأسود، العصرونية، الخنّاقة، قناة رانِس وغيرها، أرتادها في أوقات معينة من النهار. كنت أخرج في الصباح الباكر، ولا أعود إلا مع المساء، مع الرعاة الآخرين، بعد أن تكون هذه الحيوانات الأليفة قد أخذت حقها من العشب والماء، وأصوات الأجراس الشجية تخفق في أعناق الكباش وسط سحابة من الغبار، والروائح المميزة للقطعان.
كان القطيع نشيطاً في الصباح. ينتقل، بخفة ورشاقة، من مكان إلى آخر، بحثاً عن الحشائش الطرية فيقضمها في شهية. وأحرص كل الحرص ألا يقترب من المساحات المزروعة بالقمح أو الشعير أو البرسيم، وألايطول الشجيرات حتى لا أثير غضب النواطير وأصحاب الحقول.
وما إن تقترب الظهيرة حتى يخفّ نشاطه، وتفتر همته، فأنتقي له مكاناً مناسباً للقيلولة، في ظل أشجار الجوز العالية أو المشمش. وتختار كل دابة بقعة لها، فتستلقي على مهل، وتبدأ في اجترار ما أكلته من العشب على عجل. وأختار لي مكاناً، إلى جذع شجرة أسند إليه ظهري. وأتناول من زوادتي ما وضعته أمي. ثم أستسلم إلى تأمل رائع في ما حولي، فتبدو الطبيعة لي في كل تفصيلاتها وأسرارها الغامضة، وألوانها، وروائحها، وأشكالها. وأنتشي لهذه العلاقة الحميمة السرية التي تربطني بكل عنزة من القطيع. وأُخرج، أحياناً، من صدري العاري، إلا من قميص خفيف، جزءاً من القرآن، كنت أشتريه بخمسة قروش، وأقلب صفحاته دون أن أفقه شيئاً منها، فقد كنت أجهل القراءة والكتابة. ولكنني كنت أحسّ بالخشوع لكلام الله الذي كنت أسمعه يرتل من المذياع في الحوانيت التي أمرّ بها، وأنا خارج للحقول في الأصباح الباكرة. وأصل إلى صفحة معينة من الجزء أعرفها، وأقرأ في سري الآية الكريمة الوحيدة التي أحفظها: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً». وأرددها مرات ومرات، فتأخذني ألفاظها السحرية ومعانيها الغامضة، وتحملني إلى عوالم بعيدة قبل أن يُخلق الإنسان. ويسرح خيالي في حقول من الأحاسيس والأفكار الرائعة، ولا أعود حتى يبرد الجو وقت العصر، وينشط القطيع، من جديد، لجولة ثانية بحثاً عما يأكله، قبل أن يعود، في المساءات العذبة، إلى حظيرته في الحي القديم.
وكان المطر الغزير، أحياناً، يفاجئني، وفي لحظات معدودات يبللني من الرأس إلى القدمين، قبل أن أجد ملجأ آوي إليه. ويتفتت في صدري العاري جزء القرآن، فيداخلني إحساس بالإثم، وأدفن مِزقه المبللة في أصل شجرة تحت التراب، لأشتري، في الغد، نسخة أخرى. وأتحامل على نفسي، والماء يقطر من ثيابي، حتى المساء، لأصل إلى البيت، فأجد أسرتي تلتفّ حول كانون النار، العابق بالدخان في أغلب الأحيان، فأبدل ثيابي، أو ألتفّ ببطانية، وأصطلي بدفء النار والأمان.
وكان الليل يفاجئني أحياناً، حين يطلب مني صاحب القطيع انتظاره حتى يعود، فأضطر كارهاً إلى الانتظار الصعب، حين يتأخر في عودته أو لا يعود. وأفزع إذ يفزع القطيع، فيمتنع عن الأكل، ويأخذ في التلفّت في كل الاتجاهات، قد أوحشته العتمة المريبة، التي قد تتمخض عن ذئب جائع مفترس. ولا أقوى، بعد ذلك، على ضبطه، فيستلم، على الرغم مني، طريق العودة، التي يعرفها جيداً، فأتبعه مستسلماً خائفاً. وتتراءى لي الأشجار أشباحاً رهيبة، أو يخيل إلي أن خلفها آلاف العيون تتربّص بي. وتبدو الآبار المشقوقة على طول الدرب التَّرِب أفواهاً أسطورية تهمّ بابتلاعي مع القطيع، ومياهها المالحة القذرة تدوّي في الأعماق السحيقة، فيسقط قلبي رعباً. وتتبدد مني أحلام النهار، ولا تعود إليّ نفسي المطمئنة، إلا حين أدخل في أزقة الحي القديم.
ولا أدري كم دام عملي راعياً، بصحبة قطيع الماعز، حتى التحقت متأخراً بالمدرسة، ودخلت عالماً جديداً. ولكني لا أستطيع مهما مرّ من زمن، أن أنسى تلك الأيام الرائعة، ولا صور هاتيك المخلوقات الوديعة، التي مازلت أراها في القطعان العابرة، ولا لحظات التأمل الطفولي في عالم الطبيعة الواسع وأسراره العجيبة، ولا هبّات الخوف والفزع.
وأتساءل، الآن، في لهفة وشفقة: أيستطيع أولادنا الصغار، اليوم، أن يعيشوا ولو جزءاً يسيراً من «المغامرة» التي عشناها؟!.