أحلام
وكان الطفل الصغير فيّ، في الصباحات البعيدة، يسوق، بقضيب رمان طريّ رفيع، قطيع الماعز، من الحارات العتيقة ذات البيوت الطينية المتواضعة، والتي تحتوي في داخلها على ما يدهش. يقوده عبر الدروب الترابية الطويلة إلى الحقول والمراعي، تماماً حيث سيتربع، بعد سنوات معدودات، «مخيم اليرموك» ليبني أسماره، ويساور أحزانه، وينتظر دروب الرجوع إلى القرى والمدن الغافية هناك. وسيرفع جدران بيوته القصيرة، ذات الأبواب التنكية أو الخشبية، والنوافذ الضيّقة الواطئة، ويشق شوارعه وأزقته الموحلة في الشتاء، المثيرة للغبار في الصيف، ويطلق أطفاله فيها بلا قيود. وحين يمضّه الانتظار ينتفض غابات إسمنتية شيطانية، وشوارع زفتية واسعة، وأزقة طويلة، ضيقة، رطبة، لا ترى وجه الشمس، ثم سيتمدد كارهاً أو راضياً إلى «الحجر الأسود» و«التضامن» و«دف الشوك» و«التقدم».
كنتُ وحيداً مع القطيع، في أغلب الأحيان، إلاّ فسحاً قصيرة ألتقي فيها رعاة الماعز أو الغنم، وكلهم أكبر مني، بل لقد تجاوز بعضهم سن الشباب، وحين أغمض عينيّ الآن، ينبثق في وعيي صور حللها الزمن فتكاد لا تبين: أبو جاسم المعيدي، محمود الأشكي، محمد العودة، عزو الشربجي، أبو الموت، حدّو حوا الكهل وطفلته الصغيرة الجميلة بشيرة التي أفلتت مني ملامحها تماماً، ولا بد أن أسنانها قد تساقطت وأصبحت جدّة إن كانت ما تزال من الأحياء.
وفي الأوقات التي يقيل فيه القطيع تحت الأشجار العالية، كنت أجلس على حافة ساقية معشوشبة، أو أستند إلى شجرة جوز أو مشمش وارفة الظلال، أتأمل هذه المخلوقات الوديعة، الجميلة، وهي تجترّ، وأحاول حواراً صامتاً مع كل واحدة منها؛ إذ أسبغ عليها صفات إنسانية، وأطلق عليها اسماً يميزها. وكان بصري يمتد إلى الآفاق البعيدة، في الخضرة الأرضية المتموجة، الحشائش والأوراق المهتزة المرتعشة، فيهتز قلبي ويرتعش بحنين غامض، أو في الزرقة السماوية والمنبسطة اللانهائية، أو في الظلال المتراقصة وهي تتشكل بأشكال عجيبة لا يمكن الإمساك بها، ويرحل خيالي بعيداً... بعيداً.
ولم أزل أذكر ذلك الحلم، الذي كان يردني، ولم يكن قد مضى على خروجنا من فلسطين أكثر من أشهر معدودات. ولقد اضطر معظمنا إلى العمل ، لأن العيش آنذاك، لم يترك لنا خياراً آخر نأوي إليه.
في لحظات القيلولة تلك، ينفتح على بعد خطوات مني، في الخيال، سرداب عميق طويل، له باب دائري سحري، لا يراه أحد سواي، أرفعه، وأنزل على درج أو سلمّ، يوصلني إلى بداية السرداب. ولا أنسى إغلاق الباب السري خلفي، أو أنه كان يغلق تلقائياً بعد نزولي.
وكان السرداب مُضاء بمصابيح كهربائية لا تطفئها الريح، ولا تسودُّ زجاجتها كقناديلنا الزيتية، ويمتدّ السرداب، أمشي فيه مسافات تحت الأرض، أتجول بحرية. وتصادفني على الجوانب غرف أو قاعات أو ملاعب، غرف ذات حُصرٍ وبسطٍ ساحرة الألوان، وفرش وثيرة، كنت أغرق في صوفها الناعم. أقفز عليها أنا وعبد السلام، ابن جارنا وصديق الطفولة هناك في القرية، ومن سمحتُ له بمرافقتنا من الأطفال في هذه الرحلة السحرية تحت الأرض. كنا نقفز ونتدحرج ونتصارع، ونحن في غاية من النشوة، لا يردّنا شيء عن لعبنا ولهونا. ونخرج إلى الملعب المضاء كذلك، فنعثر على مانشاء من كرات جميلة ذات ألوان خلاّبة، نأخذ منها بغير حساب، ونتابع لعبنا من الصباح حتى المساء. وإذا رجعنا وجدنا طعاماً لذيذاً، في اللحظة التي نريد، مهيأً في الصحون بطريقة سحرية، لا تحتاج إلى طبخ أو نفخ نار أو إشعال «بابور كاز» حرون يخنقنا بدخانه، ولا إلى تنظيف وغسيل وجلي، مما يتعب أميّ جلّ النهار وطرفاً من الليل. كان كل شيء حاضراً أو يحضر للتو بمجرد الرغبة منّا.
كنت أحياناً أصطحب أسرتي وبعضاً من أقاربي إلى هذا الملجأ السرّي، فأدخلهم، في خيالي، فينزلون بخفّة واحداً وراء الآخر. وكنت لا أخفي، بيني وبين نفسي، الإحساس بأني أنا صاحب كل هذا.
وإذا احتاج الأمر إلى نقود لرحلتنا القصيرة في المدينة، وجدناها ذهباً أو فضة، كما هي الحال في الحكاية التي تقص على مسامعنا. وإذا رغبنا في تسلية تحققت لنا وسائلها: ورق لعب غريب الأشكال والألوان، دحاحل كعيون القطط، عصيّ، مربعات، خذاريف، أراجيح. إحساس كامل بالأمان، تحت الأرض، بعيداً عن دويّ الطائرات الصهيونية السوداء المغيرة، ولمعان قذائفها الخاطفة للأبصار، وأصواتها المتفجرة. بعيداً عن طلقات مدافع دباباتهم، وأزيز رصاصهم، تلك الليلة التي لا تنسى. عالم من الأمان. لا أحد يطولنا، لا أعداء، لا ضباع، لا أفاعي، أمان دائم، بلا مرض أو موت في هذا الجو المسحور.
وكنت أغيب عن القطيع في هذا الحلم الجميل الذي لا ينتهي، واضطر أن أصحو منه حين يتوقف القطيع عن الاجترار، وتكون حدة الشمس قد انكسرت وحان وقت الأصيل، فأمضي به نحو بقعة خضراء، عشبها طري لذيذ، وأقوده في المساء نحو حارات الميدان العتيقة، وفي الخاطر خيالات من السرداب السحري.
وحين فتحت المدارس أبوابها أمامنا أصبحنا تلاميذ، نرتدي الصدارات السود، ونتهجّى الحروف والكلمات، ننشد الأناشيد، التي توقظ ما ليس نائماً فينا تجلّلنا بالعزة والقوة والأمل بالعودة القريبة. ونقف في الصف الطويل، لنأخذ حصتنا من الحليب المجفف أو حب زيت السمك، ونتناول غداءنا المتقشف في المطعم الذي ارتجلوه لنا، وله، على الدوام، رائحة زنخة خاصة لا تغادر أنفي. ويطلّ عليّ من وراء السنين وجه أم صالح الحنون، بنقابها الأسود الذي لا يتغير، وقد علمت أنها ماتت قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وجه أم فهمي المشرق الجميل الضاحك وصوتها المغرد، وقد أخبرني ابنها، الذي غدا، كهلاً، وكنت التقيه، أن أمه ماتت قبل عشر سنوات عن سبعة وستين عاماً، وجه امرأة أخرى بدينة بنقابها الأبيض كانت تلثغ بحرف الراء، وقد نسيت اسمها. وكنا نعالج، بوسائلنا المحدودة، ورم أصابع أيدينا وأقدامنا من شدة برد الصباح. ونرتجل ـ بدورنا ـ ألعابنا التي لا تكلفنا قرشاً واحداً. كنا نصنع من الخرق كرة صغيرة أو كبيرة نتخاطفها بأيدينا أو نسوقها بأقدامنا أو نضربها بالعصا.
وحين تضمّني الأزقة العتيقة وحيداً، أو يغرقني الفراش، بعد أن ينام أخي الأصغر، ويجافيني النوم، كنت أرى منظراً عجباً، ينفتح عليه خيالي. أرى نفسي في ساحة واسعة منبسطة. وفجأة تمطر السماء الزرقاء فوقي كراتٍ، ذات ألوان رائعة، لامعة، ساحرة الملمس، كرات من كل الأحجام والأشكال، كرات لا أستطيع لها عدّاً، تتقافز من أمامي وورائي ومن حولي. كرات تتبعها كرات، تبهرني، تغمر قلبي بفيض من البهجة لا ينتهي، فأقفز معها، أرتطم بالأرض بخفة، أرتفع بين هذا الحشد الهائل منها. أرتفع، أرتفع، لا أرجع مثلها إلى الأرض، فأطير، وأطير، وأبقى معلقاً بين السماء والأرض وقلبي ينتفض بشدة. أذكر أن أحداً من أقربائي قدّم لي في طفولتي كرة جميلة ملونة كهذه الكرات، ما لبثت أن أضعتها، فنامت في مخيلتي طويلاً.. طويلاً حتى انهمرت عليّ من السماء طوفاناّ من الكرات السحرية العجيبة.
ولقد احتجنا إلى وقت حتى نغادر مثل هذه الأحلام، دون أن يغادرنا سحرها وإغراؤها، إلى أحلام جديدة، نلبس فيها ثوب البطولة، وطاقية الإخفاء، لنتسلّل إلى الوطن المحتّل، نعانق القرى والبيوت، ونحقّق انتصارات عجز عنها الكبار!.
وثمّ حلم ما يزال ماثلاً في مخيلتي. وهو حلم رأيته في النوم، وليس من أحلام اليقظة. رأيت نفسي أمام بيتنا القديم شرق القرية تماماً في المكان، الذي كنّا نسمر فيه، في ليالي الربيع، أو الصيف، المقمرة، قرب اللوح الواسع لحصادة القمح، ذات الشفرات الحادة. لم يكن الوقت ليلاً بل نهاية الضحى على الأغلب؛ فالجو لم يكن ينبئ بالوقت.
كنتُ مستلقياً على الأرض المعشبة، ورأسي على حجر أمي، وكانت تلبس ثوبها الأزرق، المنقط بالأبيض وتلفّ رأسها بنقابها الأبيض كالعادة. كان النور واضحاً في تدرّجاته، ولكن المشهد كلّه ملفّع بضباب شفيف، يوحي ببعده عنك، على الرغم من كونك داخلاً فيه، وبأنك غير قادر على الإمساك به، وكأنه مشهد وهمي.
كل تداعيات القرية وصورها وألوانها تكثّفت في الحلم، تقطّرت في إحساسي بالأشياء من حولي. كانت أميّ تداعب شعري بأصابعها الرقيقة، وقلبها الحاني. نظراتها غائمة، شاردة، دموعها تنساب على خديها، وتصدر آههٌ عميقة بين الحين والآخر. هزّتني دموعها، وحانت منيّ التفاتة إلى بيتنا، كان هيكلاً خرباً، اختفت أبوابه ونوافذه، وبقي مكانها فراغ معتم مثل سؤال غامضٍ معلّق في الفضاء.
وكانت عائشة الصغيرة، عائشة الطفولة، ذات الجديلتين، عينين تنظران دون أن ترى. هي في مكان ما، لا أستطيع أن أحدّده. ولكنها كانت هناك، دون ريب، تطلّ عليّ. تطلّ على المشهد من وراء الطفولة، من وراء شقائق النعمان والنرجس. تطلّ من وراء الموت؛ لأن عائشة احترفت الموت على دروب المخيمات، وذابت في ضباب الذكريات. مالذي بعثها في هذا الحلم؟!.
كل هذا المشهد قذف قلبي بفيضٍ من الحنين الموجع إلى المكان الذي أنا فيه، وكأني بعيد عنه مسافات شاسعة. حين إلى زمان الطفولة، وإلى أميّ، وإلى عائشة، وإلى البيت الواقع في فم الفضاء الوهمي. حنين أخذ بمجامع قلبي، وعصره بيدين صخريتين حتى بعد استيقاظي من النوم، حيث رحت في حالة غريبة، وكأن الحلم مستمرّ في اليقظة. بماذا كانت تفكر أمي؟ لم كانت ساهمة شاردة؟ إلام كانت تنظر عيناها؟ وما الذي يبكيها؟ وما السؤال الغامض المعلقّ على الفراغ المعتم لأبواب البيت ونوافذه؟.
كلمّا تذكرت هذا الحلم تكثف فيّ إحساس بأمكنة، وأزمنة، وأشخاص أحباء، وحوادث عمرها عمر منفانا، تتأرجح بين الحضور والغياب.
وحين امتد بنا الزمن وكبرنا، ولمستنا لعنة حزيران بشيء من الوعي الشقي، وأوغلنا في الغربة، حتى أصبحت أعماقنا مرتعاً لها، وأوغلت فينا المجازر وخيانات الذات، دخلتْ أحلامي مرحلة جديدة: كوابيس في الليل، كوابيس في النهار، يقودك الواقع إلى كابوس، ويخرجك الكابوس إلى الواقع.
وأخيراً، أود البوح بالحلم الذي غدا وسواساً لي، بعد مرور هذا الزمن الطويل، بعد الخيبات، والانكسارات، ما قد مضى منها، وما قد يجيء: أرى نفسي في حلم فردوسي أخضر، أشجار، حشائش، أزهار من كل الألوان، ترنيمات سماوية، فرح، فرح لاحدود له، يمنحني اليقين والرضا، يهمس لي، وأنا مطلّ، عبر هذا الحلم الفردوسي، على قريتي، فتشرب خلاياي الظمأى هذا الهمس المطمئن: أنتَ، من جديد، في فلسطين! وأغفو على هذا الحلم الكبير!