اربطوا الأحزمة... رجاء

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د. محمود موعد | المصدر : www.awu-dam.org

1)‏

سأعترف أني قتلتُ، أنا الذي لم أؤذ، في حياتي، نملة على عمد. أنا الذي ما كنت أتصور أني قادر على قتل ذبابة.‏

كنت يومها أنهب الطريق في اتجاه السويداء، لألتقي الربيع المبكر الذي طال انتظاري لقدومه، بفرح اختزنته مع كل مطرة من أمطار الشتاء الراحل. كنت أطوي الطريق لألتقي أزهار شقائق النعمان وقد طرّزها آذار حمراء، بيضاء، بنفسجية. وأعديت أطفالي بلهفتي فصاروا هم أيضاً يتلهفون، ويرجون أن يُطوى الطريق في غمضة عين. فجأة... فوجئت برف عصافير ينفلت من أمام السيارة باحثاُ عن النجاة في هبّة واحدة. لكن عصفوراً واحداً قصّرت به همتّه عن اللحاق بأترابه، فضرب بزجاج السيارة، وتهاوى غير بعيد على إسفلت الشارع. وصرّت المكابح بضغطة مفاجئة قوّية توقفت السيارة على أثرها. عدوتُ إليه وحملته. كان خيط دم رفيع، لا يكاد يُرى، ينسرب من منقاره الصغير. فتح عينيه، ونظر إليّ في عتب، ثم أغمضهما إلى الأبد.‏

يومها لم تمض الرحلة كما كانت رحلاتنا تمضي. بقي شبح العصفور الهامد، وهو ينتقل من يد ليد، يخيّم على حركاتنا، وكلماتنا وحتى على ألوان شقائق النعمان التي زهدنا في قطفها.‏

من يومها، تأخذني الحيطة والحذر، فأتخيل في طريقي، وفي كل منعطف، رفاً من العصافير، يهمّ بالطيران نحو الفضاء الأزرق، وأبقى في يقظة حتى لا تداهم سيارتي عصفوراً قصّرت به همته عن اللحاق بأترابه.‏

ستقولون لي: تكتب عن عصفور صغير نفق بغير قصد، وتنسى آلاف الأطفال يموتون جوعاً ومرضاً وبرداً وصبراً، وتنسى دماء الضحايا تسيل هنا وهناك في المجازر والأوبئة والأحقاد؟ أقول لكم: لا.. لا أنسى، ولكنه الشجى يبعث الشجى، وطعم الموت واحد في كل الأحوال..‏

(2)‏

لقد كان الشاب، ذو النعمة والجاه، على عجل من أمره. وكان لا يريد أن يفوته الموعد الأخضر مع فتاته على باب الحديقة في الحي الراقي، فترك العنان لسيارته الحمراء الأنيقة تنهب ما تبقى له من شوارع تفصله عن مكان اللقاء. لم يكن آبهاً بالمارين يهربون كالفئران من أمام سيارته الأنيقة، ولا سلاح لديهم سوى خطواتهم المذعورة، وبعض الشتائم التي لاتصل إلى أبعد من أفواههم. ولم يكن عابئاً بإشارات المرور الحمراء، ولا بصفارات الشرطة الغاضبة.‏

ومن أحد الأزقّة الفرعية خرجت عبير الصغيرة ذات الأعوام الأربعة، راكضة. لم تكن تريد اجتياز الشارع العريض، لكنها أرادت أن تتوقف على طرفه تنادى أباها الذي يجتازه بهمة.‏

كانت تريده أن يعود إليها، لتهمس في أذنه ألا ينسى هدية عيد ميلادها إذا عاد هذا المساء. لا تذكر عبير هل نادت: با...با، أو أنها كانت ما تزال تحاول إحاطة فمها الصغير بكفيّها الصغيرين ليكون صوتها مسموعاً؟ فالسيارة الحمراء الأنيقة، ذات الشاب المستفزّ إلى موعده الأخضر، طرحتها بعيداً على الرصيف، وخيط رفيع من دم يسيل من أنفها الصغير.‏

لم يتأخر الشاب المستفزّ إلى موعده عن فتاته ولم يقدّر له أن يرى عبير الصغيرة ملقاة على رصيف الشارع، أو يقرأ ملامح والدها المذعور، وهو يلقي بنفسه عليها. ولعله لم يدر، حتى اليوم، أن عبير الصغيرة، التي كادت أن تؤخره عن موعده، قد غدت مشلولة، قعيدة البيت، ولم يعد فيها سوى عينين برّاقتين تنظران، ولسان ضعيف يتردد، وساقين ماتت فيهما الحركة، ويدين تلوحان بما تريد.‏

وما يزال البحث جارياً عن سيارة حمراء أنيقة شاردة!‏

(3)‏

أما ازدهار، الصبية الرقيقة الرائعة، ذات العشرين فصلاً من الورد، المستحمة في نهر الشعر المقدس، فقد كانت على موعد مع البحر في شهر العسل الموعود. كانت تسابق « البولمان» الطائر نحو الساحل، لتغسل عينيها وروحها بزرقة البحر اللانهائية. وكانت يدها الصغيرة تنام مطمئنة في يدي «جلال» وكأنه كان يخاف أن يفلتها، فتفرّ منه بلا رجعة. وسمع ركاب « البولمان» الخمسون جميعاً العجوز وهي تتوسل إلى السائق:« ارحمنا يابني... على مهلك». وكأنما استفزته هذه الكلمات، فاستفزت في داخله شهوة السرعة الطاغية، فضغط دوّاسة البنزين، وطار « البولمان» لا يلوي على شيء وطارت قلوب الركاب الخمسين.‏

حين وقع الحادث، ودخل «البولمان» في الشاحنة التي خرجت فجأة من طريق جانبي، لم يعد أحد من الركاب الخمسين يتذكر الذي حدث بالضبط. لم تتطابق شهادة مع شهادة أخرى من شهادات هؤلاء الذين قدّر لهم أن يبقوا على قيد الحياة.‏

طارت روح ازدهار، وحلقت بعيداً فوق الزرقة الأبدية وما تزال يدها الصغيرة التي بردت في يدي جلال، الذي دخل في غيبوبة، لم يصح منها حتى إعداد هذه السطور.‏

رحلت ازدهار ورحل معها الزهر والشعر والحبُّ والأحلام، إذ كانت على موعدٍ آخر، دون أن تدري، مع الموت.‏

(4)‏

هاأنذا، والعام يوشك على الرحيل، أجيئكم راجياً أن تقودوا سياراتكم على ريث، على نبض قلوبكم، ولا تتعجلوا الوصول، حتى لا تضيع، تحت عجلاتكم، طفلة كعبير، أو عروس كازدهار، أو عصفور صغير، وحتى لا يُكتب عليكم أنكم أصبحتم في قائمة الذين أطفؤوا حياة بريئة.‏

أرجوكم ألا تنسوا كلماتي، حتى لا تضيع في زحمة الكلام الذي تسمعونه أو تقرؤونه، وتبتلعها مشواغل الحياة التي لا تنتهي. اقرؤوها إذا استطعتم، على هؤلاء الذين لا يقرؤون، فلعلكم تساهمون في حفظ حياة إنسان واحد فحسب... وكل عام وأنتم بخير‍‍‍!‏