سيدي الكريم..
يخيّر الإنسان، أحياناً، بين السعادة والشقاء فيختار السعادة، حتماً، عندما يكون في كامل قواه العقلية. ويخيّر، كذلك بين الخير والشر فيختار الخير، ويخير بين الحياة والموت، فيختار الحياة. ولكن.. ما حيلة الذي يخيّر بين الموت والموت، وليس في استطاعته ألا يختار؟!
على كل حال، سأوجز قصتي ليتضح ما أقصد إليه:
أنا فتاة من هذا الوطن، أبلغ العشرين من عمري، وأعمل معلمة في مدرسة قريتي الوحيدة، وقريتي مرمية، مثل كثير من القرى، على أطراف البادية. تعلمت في دار المعلمين بإحدى المدن الكبرى، وأقمت في القسم الداخلي. كان التحاقي لمتابعة تعليمي بعد شهادة الكفاءة أشبه بمعجزة لن أخوض في تفصيلاتها. عرفت في هذه السنوات القليلة عن الحياة والمجتمع والناس ما يحتاج إلى قرون لمعرفته لو بقيت في القرية. والدي ووالدتي على قيد الحياة. لي أخت متزوجة وإخوة صغار أكبرهم في العاشرة. وكنت انتظر الغد، وأنا مسكونة بالآمال والأحلام وبما نفثته الكتبُ في أعماق روحي.
وتشاء الأقدار أن توقع والدي في «شباك الخطيئة» مع فتاة في القرية، الله وحده يعلم أين كان يلتقيها، وأين حصل الذي حصل، وقريتنا مبسوطة كالكفّ في وجه السماء. وفاتح والدي والدتي بالأمر، وأخبرها أنه عازم على خطبة الفتاة، درءاً للفضيحة، من أهلها الذين لا يعلمون عن الأمر شيئاً. وهم قوم قساة، غلاظ، لا يحلّون مشكلاتهم، غالباً، إلاّ بالدّم. ولم تجد والدتي ملاذاً سوى الرضوخ وتسليم أمرها لصاحب الأمر، الذي لا يرد له أمر. ولاذت بأحضاني تشكو بدموع لم تجد سبيلاً إليها في حضن آخر.
وتقدّم والدي إلى أصحاب الشأن طالباً التشرّف بالقرب منهم، بمصاهرتهم وفق ما يقتضيه الشرع. فوافقوا دون تردد، بشرط وحيد بسيط: أن يوافق والدي على تزويجي أنا من أخ للفتاة. وهو شاب متزوج، له أولاد، أُمّي، سكّير، عاطل عن العمل، لا يمكن أن يخطر في بالي أن يُغلق عليّ وعليه باب.
هنا وقعت أنا في الشرك. كنت أشفق على أمي، وأرثي لحال أبي، فصرت أشفق على نفسي وأرثي لحالي. كنت أبكي لمصيرها، فصرت أبكي لمصيري. لم أجد من حولي من أعوّل عليه في حلّ مشكلتي، فهداني تفكيري، أخيراً، إليك، وأنت القادر على مد يد العون لانتشالي مما أنا فيه، لهذا جئت أحمل قلقي وعطشي إلى جواب، إلى أية إشارة ترشدني.
أأرضى بهذا الإنسان، وبما ضُمّ عليه من خلائق، فأقتل نفسي في الحياة، وأقتل أمي مرتين مرّة من أجلها ومرّة من أجلي، أم ارفض فتكبر الفضيحة، فأقتل أبي وشريكته؟!
أأهرب وأدع أبي يواجه مصيره وحده، أم أتقدم وأصرخ فيهم: خذوني.. هاأنذا «الضحية» فاذبحوني؟!
أي الموتين أختار؟ أوليس من حلّ يجنبّني أحد الموتين؟!
سيدي..! أنا في انتظار كلمة منك تهديني سواء السبيل.. تضيء، ولو شمعة في ظلام أوقاتي، أمامي أيام معدودات لأختار، فلا تدع رسالتي تنتظر.
المعذبة م.ع.
قرية...
ملاحظة: أرجو ألا تذكر اسم القرية في جوابك إليّ
قرأتُ الرسالة مرّات ومرات، ذُهلت عن نفسي، وأخذني التعجب من وصولها إليّ بعد أن تركت هذا البرنامج الإذاعي منذ سنوات طويلة. وكيف لي أن أردّ على الرسالة، وليس عليها اسم محدد وعنوان؟ راودتني فكرة غريبة: أن أسافر إلى صاحبة الرسالة في قريتها ذات المدرسة الوحيدة لعليّ أقف إلى جانبها. ولكن هذه الفكرة الغريبة الجريئة سرعان ماتبددت حين انتبهت. فجأة انتبهت.. انتبهت إلى أن الرسالة مؤرخة في 25/10/1970 فدارت بي الدنيا، ولم تقعد حتى اللحظة.
إذاً.. فقد مرّت خمس وعشرون سنة على رسالة هذه المعذبة (م.ع)، ووصلت إلي اليوم. أين كانت؟ أين ضاعت كلَّ هاتيك السنين؟ وأي الدروب سلكت؟ وما الذي جرى لهذه المعذبة؟ أقبلتْ أن تكون «الضحية» وتزوجت من ذاك المتزوج الأمي الفظ السكير العاطل عن العمل، أم أن والدها لاقى وشريكته المصير المحتوم، أم أن حلاً آخر تدخل وغير المصائر؟!
أيتها المعذبة...! خمس وعشرون سنة مضت منذ أن جفّ حبر رسالتك. ولابد أن تكوني قد انتظرت، وانتظرت دون جدوى. ولابد أن تكوني قد اخترت. لم يعد ينفعك، الآن، رأيي، ولا رأي غيري.
لم أعد أستطيع أن أفعل شيئاً. وهاأنذا أنشر قصتك في الصحف، لعلك تقرئينها، بعد خمس وعشرين سنة. فإذا وقعت بين يديك، وارجو لها ذلك، فأخبريني. قولي لي ماالذي حدث؟ فأنا الآن، لاأنتِ، الذي ينتظر، ينتظر منك كلمة، إشارة لعليّ أعلم منك: كيف حلّ الزمان المشكلة، وأي موت من الموتين اختار؟!
أرجوك... أنا في الانتظار