هاهم ينبتون من مرآة الكأس باسمين، يحملون في أياديهم باقات من الزهر، ومن خصورهم تتدلى زواداتهم المضغوطة في مناديل صوفية، صفراء.. يسمرون، ترتفع قهقهاتهم، يرفع "أوسيب" يده ويدفع "أوصمان" البدين، يخلع "بكر" حذاءه، يضع الفردتين فوق بعضهما، ويريح رأسه، ثم يحدق في الأفق المفتوح على جبال مكسوة بالسنديان والقطلب والبلوط، أما "مزيات" فهاهي تنحني وتلتقط بعض حبات الفطر، مبعدة بين لحظة وأخرى خصلات من شعرها الفاحم، بينما راح الأب "جمشيد" يطلق شتائمه الكبيرة، يفجر أكثرها في وجه زوجته "كنيكا" ويصفع بالباقي وجوه أطفاله وهو مقطب الجبين، طويل اللحية. - أنتِ وأولادكِ... لا تحبذون غير الأمور التي لاطعم لها...أين الماعز..؟ أين البغلان...ماذا سيأكلان...هل أطعمتم الكلاب.. ثم استدار وهدأ فجأة، وأخذت خطواته ترتفع وتهبط، قاطعة الدرب المتعرج إلى القرية المسورة بأشجار الكرمة واللوز، الغائبة تماماً في دخان المداخن التي مازالت تطلب المزيد من الوقيد... وبنظرة واحدة من الأم انتظم الجميع في الدرب، عائدين إلى البيت، تلفهم عباءة صمت جليل.. فكر "جمشيد"... لقد تعب كثيراً حتى استطاع أن يزحزح الصخور، وكثيراً تجرحت يداه، وسال الدم من أصابعه، حتى استطاع أن يضع في كل شق عوداً من أعواد الكرمة، فاشتعلت العيدان واخضوضرت، وتمددت على المنحدر، واسترخت فتاة غضة عذبة الريق، تمنح أغانيها ودمها للفلاحين المتعبين، غبَّ أوبتهم من الكدح قبيل الغروب، فأخذ "جمشيد" يجمع عناقيدها الذهبية المتكتمة على آلاف الحكايا والسير في جرة فخارية حتى تخمرت، فاعتصرت، ثم قطَّر العصير بود.. فكانت هذه الخمرة الحكيمة الرائعة، التي تنقل مشاهد الأحداث والصور... أهل الجبل قالوا: - جمشيد ماهذه الدمعة... "آكوب" الميكانيكي الأرمني قال: - في "آرارات" لم أذق مثل هذه الخمره يايسوع. "الخضر الواعدي" معلم المدرسة، والذي رفض أن يأكل على حساب القرية..؟ نعم رفض...؟! ولم العجب... رفض البيض والجبن والعسل والزبيب والجوز واللوز، والذي كان يصرح في كل مناسبة بأن المعلم صاحب رسالة، ترك رسالته خلف ظهره، ومشى إلى "جمشيد" سائلاً: - قرفة" ياصديقي.. "قَرفَة" لا أطلب أكثر.. أنا مهموم... الحاضر مجدب، والزمن هذا.. زمن خيبات وانكسارات، وحكمة خمرتك تغسل القلب، تجلب غنى السلف إلى الخلف... "قرفة" من حكمتك وخمرتك ياصديقي فقط "أبا جميل" رئيس المخفر، داهم دار جمشيد مرتين باحثاً ومفتشاً عن شيء خطير وضد الحكومة كما يقول... وفي المرتين ملأ جوفه وعروقه من خمرة "جمشيد" وهو يعلن: - أنت مواطن صالح.. الناس تكذب... أنت ماتتعامل بالممنوعات... ويطرق "جمشيد" ها.. ها.. الممنوعات... هذا الوطن الذي يتمدد من المحيط إلى المحيط، ماهي المسموحات فيه يا "أبا جميل"... الأمور حقيقة مختلطة...؟ ويرى... جموعاً تتحرك، وسهاماً تطلق، وتقفل السماء، بجدران سميكة من الغبار، وسيوفاً تبرق وحداء يعلو، وخيولاً تصهل، و"طرفة بن العبد" يحتضن "عبيد الله بن قيس الرقيات" وأبي جلدة اليشكري والجواهري"، والكل يضرب... يضرب.. والدماء تسيل وتسيل... ايه.. اشرب.. اشرب "ياالخضر" ودع الأمور على الله. أردف (الخضر): - أنت طيب ياصديقي، لكن كيف هي أحوال أسرتك..؟ حدق "جمشيد" في كأسه ثم قال: "أوسيب" يذهب إلى المدرسة، يجتهد، يتفوق، يغطي جدران البيت بأوراق يقول عنها أنها ثناءات، أنا لا أعرف ماهي هذه "الثناءات"، ينبطح نهاراً كاملاً أمام كتاب، يلتهم حروفها، يتقلب، يمسح جبينه بيده ثم يزفر بنزق.. - أنا جائع.. تصرخ أمه: - "ناقصنا آغوات في هذا البيت"... لكن صدقاً، والصدق يجب أن يقال.. عندما ذهب إلى المدرسة الكبيرة في المدينة، راحت أمه، تجمع ماهب ودب، وتحمله زوجها ليوصلها إلى ابنهما وهي تقول: - حتى يدرس جيداً يجب أن يشبع... أليس كذلك..؟! وحين عاد "أوسيب" من مدرسته الكبيرة، هرعت للقياه، زغردت، عانقته في باب البيت، جمعت الصبايا حولها، وبعثت إلى "احميد" عازف المزمار و"داموش" قارع الطبل العظيم، وعقدت حلقة الدبكة وسط القرية، وأخذت تغني وترقص، تشب كمهرة، تتلو رقصاتها من جديد، تلهب صدور الفلاحين بالأغاني، توقد ذكرياتهم وذاكرتهم التي أكلها الهم وثلوج الشتاء الفائت، فراحوا يتمايلون، تتشابك خطواتهم وتعنف، تكتظ خواطرهم بما لذَّ من أمسيات مرقت... "سليمان والملقب بـ سلو"، يتذكر خطيبته التي هرعت وغابت في أحراش البلوط مع من تحب ويتحسر قائلاً: - "لماذا أنا يارب... لماذا معي أنا ياربي" "عفدال" الراعي يحتضن "خديجة" يدور بها حول بيدر العدس.. يدور بها.. يدور ثم يغيبان... "داموش" قارع الطبل، راح يقوي القرع في يوم عرسه، لم ينم، ظل يقرع الطبل ويقرع حتى نفرت إلى عرسه كل القرى المجاورة "نسرين" الطويلة مثل نخلة، انتصبت شلالاً من لحن عذب وعوداً من خضرة القصب، تمسح عن النبع عكره، وعن الأمسيات ترهلها.. "الشيخ حكيم"، خلع الجبة، حصرها بين رجليه، أخذ يردد الغناء، ويتثنى، وقد صبغت الحمرة خديه، نظراته مضطربة، ترف رموشه، رفات متتالية فيطرق... يوم مختلف... جبل مختلف... بشر مختلفون، كل يوغل في حلمه الخاص، كل يرقص، يغني، وينذبح، لملهاته أو مأساته.. الأم في غمرة حماستها سألته بحماس: - أوسيب أين الشهادة...؟! حينها كانت الهواجس تزكو قائلة: - "هذا ابني.. ابني.. هاهو يحمل شهادة كبيرة.. الحكومة حتى... تقول عنه أنه مؤهل وفهيم... أنا التي ربيته.... وهل تصدقون... قذاراته لم تزل تحت أظافري...). قام (أوسيب)، فتح حقيبته، دسَّ يده بين الكتب السميكة، أخرج الشهادة الجامعية، أخرجها من الظرف الأسمر، تأملها لحظة تأملها وكأنه يعيش ماعاناه ثانية في سبيلها، القرية.. الدرب الموحل المتجمد... لسعات عصا الملا بركات، المدرسة، "الخضر" ذلك الأستاذ الحقيقي، المدينة، الوحدة، فرح الجامعة ومعاناتها، الأصدقاء الذين ماتوا ورحلوا، وخلفوا لنا صورة حلوة أو مرة، وها.. القرية ثانية. الشهادة لا تزال في يده، بزهو قدمها لأمه، أمه، لم تصدق.. في عينيها دهشة وخيبات، وفي فمها ألف سؤال حائر...؟! أبداً.. لا يمكن أن تصدق، فصاحت: - كل هذا التعب والمصروف، السهر والسم الزعاف، العمر الذي مضى ولن يعود.. كل هذا من أجل هذه الورقة. وراحت تستعيد في مخيلتها صورة الشهادة كما كانت تراها... فمرةً.. رأتها بساطاً كبيراً واسعاً من شعر الماعز، نبت في منتصفها زخرف يمثل أسطورة شعبية، جميل ودافئ، يمكن أن يمد في أرض الدار، من الجدار إلى الجدار، ومرة رأتها بغلاً ميكانيكياً ضخماً يمكن أن يريح زوجها من عناء التنقل والفلاحة، وثالثة.. تنوراً واسعاً يفيض بالأرغفة أو سهلاً يطفح بالخيرات، يطفح بالقمح والعدس والشعير والبطيخ، جبلاً يدلق الزيتون والجوز واللوز والزبيب والماعز الذي يمنح الحليب واللبن والدفء.. للأطفال.. لكنها...لم تكن تتصور أن الشهادة قطعة تافهة من الورق في أسفله ختم...؟! فراحت بعد كل فرحها تنشج... قحَّ "جمشيد" ثم أردف: - ايه يا "الخضر".. ياأخي... "أو صمان" اختصر الهم وطلب: - أعطوني عشر دجاجات وسترون... ايه يا أخي، كان ينام مع الدجاجات، يطعمها صباحاً ومساءً، يرسل يده في كيس الشعير، ينثر فضتها فوق مائدة حبيباته ويغمغم... لم يكن مفهوماً ماذا يقول.. حتى الأبالسة لا تقدر على فك طلاسم "أوصمان"...؟! وبإصرار يرفض أن يبيع بيضة لأحد، ينتقي أفضل الدجاجات وأقوى الديوك، يؤشر على البيض إشارة خاصة، صلبان، خطوط مستقيمة، مثلثات، مستطيلات، دوائر، خرائط يعجز العلماء عن قراءتها.. أما (أوصمان) فيفك رموزها بلمح البصر، يضع أعداداً من كل زمرة تحت دجاجة وينتظر.. يتمتم... وينتظر...، يفقس البيض، تمد الصيصان برؤوسها من الفتحات المنقوفة، فيهرع، يتناولهن برفق، يحملهن على كفه، يحدق إلى عيونهن ثم يهزج بسعادة: - أصيلة.... والله العظيم أصيلة... وأصبح يمتلك عدداً كبيراً من الديوك والدجاج.... ولماذا لا يمتلك...؟! - الدجاج يحمي هكذا يعلن ضاحكاً، وغامزاً... الدجاج ضروري لبطون الشرطة والموظفين رضا الحكومة من رضا الله.. الملك لله هذا صحيح، لكن الدجاج يرفع الرأس، ويبيض الوجه، عادة لا ينصرف (أبا جميل) إلا بعد أن يأكل دجاجة كاملة، يشترطها أن تكون مشوية، وقبل أن يوتد الفرس... نعم ياصديقي... يا الخضر... صار عنده ديوك مثل النسور، يعلمها العراك، صباحاً يجلب لها العروق من عند القصاب، يحمضها بالسماق، ينثر فوقها شيئاً من الفلفل الأحمر، يطعمها، يحملها إلى البيادر، لتقاتل ديكاً قيل عنه أنه مصارع شرس، مصارع قوي.. وبنقرة... نقرتين.. في الوجه أو العينين...(هوب).. يهوي الخصم.. ينتشي..(أوصمان)، يقهقه، يذبح الديك المهزوم بمطواته الحادة، يحتضن ديكه المنتصر إلى البيت بسرور... ذاع صيته، أخذت الناس تقول: - ديك جيد.. لكن ليس مثل ديكة (أوصمان). ومن قريب وبعيد، أصبحت الناس تأتيه، تشتري ديوكاً للعراك، وتمضي.. نعم وتمضي.. وأوصمان... سعيد، يبدأ عالمه من البيضة التي فقست، إلى ديك يسمل عين خصمه، لم يحب إلا دجاجاته المخلصات، هو عاشقهن وهن عشيقاته المقدسات، يتبادلون المسرات والانكسارات دون تأفف.. دون هزيمة..؟! هذا هو "أوصمان"، جيوب ملأى بالنقود ودجاج على مد النظر.. ملك الديكة هو... وعاشق الدجاج الأبدي... تنحنح "جمشيد" ثم أكمل: أما (بكر) فمنذ نعومة أظفاره، بدأ اللعب بالدحل، يربح، يخسر، يملأ جرابات طويلة بها، يسرق جرابات أمه، ثم يصب الدحل فيها، يبيع قسماً منها لأقرانه، يحتكر الباقي، أعجبته اللعبة، أخذ يفرض السعر الذي يريد يعود ثانية، يعاود اللعب مع المشترين ويربح منهم قائلاً: - اذهبوا... اذهبوا... تعلموا اللعب قبل أن تتورطوا مع (بكر).. وكلما شب، ضمَّ لعبة جديدة إلى لعبة، مامن لعبة من لعب الورق إلا وتفوق فيها، من "الباصرة"، إلى "الطرنيب" إلى "التريكس" إلى "البوكر" إلى "البيدو"... امتدت السهرات حتى الصبح وكثرت، كثر الربح، يأتي إليه المقامرون من مختلف أنحاء الجبل، يخسرون أموالهم ويعودون، يذهبون إلى أحلامهم المبددة مع "بكر" ويذهب مالهم إلى جيبه. ايه.. "بكر"...؟! لم تعد القرى تكفيك، تهبط المدينة تدمن مقاهيها وبيوتاتها المعتمة، المبالغ تكبر، ويبدو ماكنت تربحه في الجبل، تافهاً، ضئيلاً... وبين طيات صدره يرد "بكر"... - (المدينة أنثى غضة ورطبة، فم تفوح منه روائح اللبن والشبع، ريحان هي، أعناق من الشهد المقطر... فقط أن تمتلك النقود، الدراهم رب المدن) أحد أصدقائه قال له: - "الدراهم مراهم"... وبكر، أثرى، ابتاع بيتاً، سيارة، ثم أتبع ذلك بالمضاربة وشراء العملات الصعبة، والاتجار بها، أصبح عنده الكثير من الأصدقاء، أخذ يلعب في مجالس خاصة، فتح حساباً في البنك، وخوفاً على نفسه، استأجر شابين، يرافقانه أينما حل وحيثما وطئ.. وعندما زار القرية مرة، تجمع كل أهل القرية حوله، راحوا يرقبونه بفرح وحسد، يراقبون سيارته التي لم تر القرية مثلها، بدهشة واستغراب ويتمتون: - ايه الله كريم... الله كريم....؟! أمه ركضت، ووسمت زجاج السيارة بقطعة من العجين، علقت في داخله هيكل سلحفاة صغيرة، وحبات ناعمة من خرز أزرق، قبلته، قبلته، كأنها تراه لأول مرة، لآخر مرَّة، "أوصمان" ركض إلى الديك وذبحه، "مزيات" مدت على الفراش بساطين زاهيين محبوكين من شعر الماعز...، أما "بكر" فتمتم: - طيبون أنتم يا أطفال.. طيبون ودس في جيب أمه بكتلة من الأوراق النقدية، قبل يدها، ركب السيارة، أدار محركها، زمر، وانطلق...لم ينتظر الديك الذي ذبحه تكريماً له "أوصمان"...حتى... وَ " مزيات" عينان كأصبعي لوز، وجه مدور مؤطر بشعر طويل فاحم، ينث دفئاً هادئاً ورزيناً، كانت تجمع نايها، توقظ الفلاحين والغجر، فيستسلم نسيم الجبل لأصابعها، وزهوره لأنسامها، تتحول الصخور الضخمة والدروب الوعرة المسيجة بأشجار البلوط والقطلب إلى سلالم موسيقية، تشع حبوراً وبهجة، فتتمايل رفوف البط وتتعرج، ترتفع، تهبط، يخلع المساء عباءته المدربة، ويرشق القمر الكائنات بفرح جليل، عندها تبدأ "مزيات" حياكة البسط بنشاط... كل قصص الحب، تحولت إلى لوحات، نبتت في وسط البسط وشعت، الرعاة وقصص ارتحالهم إلى المراعي البعيدة على السفوح الشمالية الغربية للجبل، عذاباتهم، أحاديثهم مع الينابيع والصخور، العصابات التي تعترضهم، تذبح، تسرق ثم تفر، البواشق، الذئبان، وحبيبها الذي خطبها عدة مرات ولم يعطه أبوها وعداً... وعندما بكت، اهتزت لحيته النامية وهو يطيب خاطرها: - قولي إنك تحبينه.. بلا خجل قولي... فقير لايملك إلا بقرتين... لكن أنت حرة...؟! أمسِ... ركع خطيبها أمام البقرتين..؟! قام إلى العنبر، زاد كمية العلف، زاد الحبوب، الحبوب التي أخذ ينثرها فوق التبن، رش التبن بقليل من الماء، خلطها جيداً في المزود، شملته البقرتان بنظرة حانية، ثم راحت تجرش وجبتها، تقدم الخطيب منهما، وأخذ ينظف جسميهما مما علق بهما، يمسدهما بكثير من الحنان، هاهو يمرر بيده فوق جبين الأولى، وحول العينين يفرك جيداً، ثم يصعد بأصابعه الثخينة إلى العنق بحذر، وكأنه يمسد عنق "مزيات" ثم ينتقل إلى الوسط وحوله منطقة الوركين يحاذر ثانية من أصابعه، يمرر بها حول الحوض بهدوء شديد... كان هناك تكور ما... ضحك، ابتسم...، أهو عجل... ابتسم ثانية وبخفوت، هو لا يود أن يذيع سراً، الفرح كبير، صدره صغير لا يتسع لفرح بهذا الحجم.. لذا انطلق خارجاً، التف مع الدرب، ركض، حتى وصل إلى دارها، كان يلهث...منشرحاً... - (مزيات) ستكون عندنا بقرة ثالثة، وكطفل بريء، هشت بيدها قرب رأسه، فهرول غائباً وهي تراقب حركاته، وتحيك على مهلٍ لوحة البقرة القادمة... صاح "الخضر": - أيه "جمشيد" هيت لك.. حكمتك في الكأس... والكأس طافحة بالخمر والحكايا، المجهول يتكشف لك، يفتح قلبه ويريل أوجاعه قدامك... لكن... أيه "مزيات" ... هيت لك، إنك تشعلين الوجع والفرح بشعر الماعز وترقصين ملوك الجبل والتاريخ بسحرك... لكن... فم "جمشيد" ينفتح وينطبق، يد "مزيات" يرتفع بالحياكة وينخفض، وبغمضة عين، يسقط الأب وراء محراثه هاهي تراه، ترى فردة حذائه التي سقطت، أمها تجن، شعرها متكوم فوق رأسها، ثيابها رثه، وعلى جانبي فمها زبد، تركض إلى الحرش، تصرخ... ترفع يدها بالدعاء: - أولاد الحرام.. اقتلهم يارب... تركض من جديد، تنحجب، تنمحي، تبحث كل القرية عنها دون جدوى.. تصرخ "مزيات": - "رماد على رأسي يا أبي... رماد على رأسي يا أمي.. لتتحول جذورهم إلى بصل وثوم"... "أوسيب"... هاهو، شهاداته ملتصقة بصدره، وفوق ظهره، خيطت الثناءات الكثيرة، يحمل كتبه الضخمة، يضعها في كيس من القنب، يعلق الكيس في رقبته، يقف فوق السطوح ويزعق: "الساعة آتية لا ريب فيها.. كفاكم غواية... نذالة وقبحاً... نفاقاً وكذباً... سرقة وقتلاً... كفا...".. ويرفع يده، فوق القلب يضعه، تتلطخ اليد بالدم، يبقُ من ثلاث فتحات صغيرة، دمٌ كثير... يصبح أصغر، ينكمش، يتجعد، الرأس على الحجر تماماً، القدمان تقفزان ثم تهمدان، ينفتح فمه وينطبق، تزعق "مزيات" رماد على رأس أخي... رماد".. وتستمر في الحياكة تنقل المشهد بدقة... "أوصمان"، ملك الديكة يستلقي، دجاجاته نافقاتٌ، جانب من وجهه أخضر، والكهولة تلبسه... "بكر" ...آه... يابكر... كنت تجفف حبات الحصرم تجهز منها قلادة، تقدمها إلى عنقي قائلاً: - مبروك عليك... تعب أخوك... هاهو قرب الطاولة هاهو، أمامه كومة نقود،يتقدم منه أحد المقامرين، أنيقٌ، من ثيابه، يهيل عطر ساحرٌ، وعلى وجههُ مشروع ابتسامة، بحركة باردة، يستل سكيناً ويدفع نصله في ظهره، ينهض الآخرون، ينصرفون بهدوء، أما هو فتقدم قليلاً إلى الأمام، مال رأسه عن عنقه، سقط فوق النقود التي غمرته،بينما بقيت شفته منفرجة عن أسنانه، وكأنها تود أن تفعل وتقول الكثير.... بينما كانت "مزيات" تكمل آخر درزة في اللوحة،' التي سيشتريها أحدهم، أحد الأثرياء الذين لا تعرفهم كي يعلقها على جدار غرفته، ويمتدح ذوقها، ومهارتها، ارتفع صوتٌ هائلٌ، اهتزت الجبال، سقطت بعض الحجارة عن الدور، أصبح الصوت فوق البيوت، تمزقت الأفئدة، دمعت العيون، سالت روائح كريهة، وتقطعت الأنفاس..؟! نهض "جمشيد" قبض على خنجره، ثم ترك الكأس التي كان يحدق فيها، ومد يده الأخرى إلى عنقه، وسقط، تدحرجت الكأس وابتلعت الأرض ماكان في جوفها.. الأم لم تتحرك من مكانها، كانت تنقي العدس، فجأة تجمدت، ركض "أوسيب" صوب الباب ولم يجتز العتبة، أوصمان فرك عينيه وصاح: - ياناس.. لا أرى شيئاً..؟! بكر صرخ: - أشهد أن لا إله .....ولم يكمل الشهادة..؟! " الخضر الواعدي" غيبه الجبل..؟! وأنا التي أدعى "مزيات" فقد لفتني ألحان الناي والحكايات والحياكة، ورمتني على حدود بعيدة، لأبقى حية وأكمل حياكة الأسطورة وترديد الأغاني الحزينة..؟! امتصت الأرض آخر نقطة من كأس "جمشيد"، ارتفع ضبابٌ خفيف، وعلقت اللوحة في متحف الذكريات لتنضم إلى أخواتها الأخريات... أليست اللوحة جميلة...؟! أرجو ذلك.... (1)في الأساطير الشرقية، أنه للحكيم الحاكم "جمشيد" كاساً إذا ملئت خمرة ظهر فيها كل ماسيحدث ويحدث في العالم.
هاهم ينبتون من مرآة الكأس باسمين، يحملون في أياديهم باقات من الزهر، ومن خصورهم تتدلى زواداتهم المضغوطة في مناديل صوفية، صفراء.. يسمرون، ترتفع قهقهاتهم، يرفع "أوسيب" يده ويدفع "أوصمان" البدين، يخلع "بكر" حذاءه، يضع الفردتين فوق بعضهما، ويريح رأسه، ثم يحدق في الأفق المفتوح على جبال مكسوة بالسنديان والقطلب والبلوط، أما "مزيات" فهاهي تنحني وتلتقط بعض حبات الفطر، مبعدة بين لحظة وأخرى خصلات من شعرها الفاحم، بينما راح الأب "جمشيد" يطلق شتائمه الكبيرة، يفجر أكثرها في وجه زوجته "كنيكا" ويصفع بالباقي وجوه أطفاله وهو مقطب الجبين، طويل اللحية.
- أنتِ وأولادكِ... لا تحبذون غير الأمور التي لاطعم لها...أين الماعز..؟ أين البغلان...ماذا سيأكلان...هل أطعمتم الكلاب.. ثم استدار وهدأ فجأة، وأخذت خطواته ترتفع وتهبط، قاطعة الدرب المتعرج إلى القرية المسورة بأشجار الكرمة واللوز، الغائبة تماماً في دخان المداخن التي مازالت تطلب المزيد من الوقيد... وبنظرة واحدة من الأم انتظم الجميع في الدرب، عائدين إلى البيت، تلفهم عباءة صمت جليل.. فكر "جمشيد"...
لقد تعب كثيراً حتى استطاع أن يزحزح الصخور، وكثيراً تجرحت يداه، وسال الدم من أصابعه، حتى استطاع أن يضع في كل شق عوداً من أعواد الكرمة، فاشتعلت العيدان واخضوضرت، وتمددت على المنحدر، واسترخت فتاة غضة عذبة الريق، تمنح أغانيها ودمها للفلاحين المتعبين، غبَّ أوبتهم من الكدح قبيل الغروب، فأخذ "جمشيد" يجمع عناقيدها الذهبية المتكتمة على آلاف الحكايا والسير في جرة فخارية حتى تخمرت، فاعتصرت، ثم قطَّر العصير بود.. فكانت هذه الخمرة الحكيمة الرائعة، التي تنقل مشاهد الأحداث والصور...
أهل الجبل قالوا:
- جمشيد ماهذه الدمعة...
"آكوب" الميكانيكي الأرمني قال:
- في "آرارات" لم أذق مثل هذه الخمره يايسوع. "الخضر الواعدي" معلم المدرسة، والذي رفض أن يأكل على حساب القرية..؟ نعم رفض...؟! ولم العجب... رفض البيض والجبن والعسل والزبيب والجوز واللوز، والذي كان يصرح في كل مناسبة بأن المعلم صاحب رسالة، ترك رسالته خلف ظهره، ومشى إلى "جمشيد" سائلاً:
- قرفة" ياصديقي.. "قَرفَة" لا أطلب أكثر.. أنا مهموم... الحاضر مجدب، والزمن هذا.. زمن خيبات وانكسارات، وحكمة خمرتك تغسل القلب، تجلب غنى السلف إلى الخلف...
"قرفة" من حكمتك وخمرتك ياصديقي فقط "أبا جميل" رئيس المخفر، داهم دار جمشيد مرتين باحثاً ومفتشاً عن شيء خطير وضد الحكومة كما يقول... وفي المرتين ملأ جوفه وعروقه من خمرة "جمشيد" وهو يعلن:
- أنت مواطن صالح.. الناس تكذب... أنت ماتتعامل بالممنوعات...
ويطرق "جمشيد"
ها.. ها.. الممنوعات... هذا الوطن الذي يتمدد من المحيط إلى المحيط، ماهي المسموحات فيه يا "أبا جميل"... الأمور حقيقة مختلطة...؟ ويرى...
جموعاً تتحرك، وسهاماً تطلق، وتقفل السماء، بجدران سميكة من الغبار، وسيوفاً تبرق وحداء يعلو، وخيولاً تصهل، و"طرفة بن العبد" يحتضن "عبيد الله بن قيس الرقيات" وأبي جلدة اليشكري والجواهري"، والكل يضرب... يضرب.. والدماء تسيل وتسيل... ايه.. اشرب.. اشرب "ياالخضر" ودع الأمور على الله.
أردف (الخضر):
- أنت طيب ياصديقي، لكن كيف هي أحوال أسرتك..؟
حدق "جمشيد" في كأسه ثم قال:
"أوسيب" يذهب إلى المدرسة، يجتهد، يتفوق، يغطي جدران البيت بأوراق يقول عنها أنها ثناءات، أنا لا أعرف ماهي هذه "الثناءات"، ينبطح نهاراً كاملاً أمام كتاب، يلتهم حروفها، يتقلب، يمسح جبينه بيده ثم يزفر بنزق..
- أنا جائع..
تصرخ أمه:
- "ناقصنا آغوات في هذا البيت"...
لكن صدقاً، والصدق يجب أن يقال.. عندما ذهب إلى المدرسة الكبيرة في المدينة، راحت أمه، تجمع ماهب ودب، وتحمله زوجها ليوصلها إلى ابنهما وهي تقول:
- حتى يدرس جيداً يجب أن يشبع... أليس كذلك..؟!
وحين عاد "أوسيب" من مدرسته الكبيرة، هرعت للقياه، زغردت، عانقته في باب البيت، جمعت الصبايا حولها، وبعثت إلى "احميد" عازف المزمار و"داموش" قارع الطبل العظيم، وعقدت حلقة الدبكة وسط القرية، وأخذت تغني وترقص، تشب كمهرة، تتلو رقصاتها من جديد، تلهب صدور الفلاحين بالأغاني، توقد ذكرياتهم وذاكرتهم التي أكلها الهم وثلوج الشتاء الفائت، فراحوا يتمايلون، تتشابك خطواتهم وتعنف، تكتظ خواطرهم بما لذَّ من أمسيات مرقت...
"سليمان والملقب بـ سلو"، يتذكر خطيبته التي هرعت وغابت في أحراش البلوط مع من تحب ويتحسر قائلاً:
- "لماذا أنا يارب... لماذا معي أنا ياربي" "عفدال" الراعي يحتضن "خديجة" يدور بها حول بيدر العدس.. يدور بها.. يدور ثم يغيبان...
"داموش" قارع الطبل، راح يقوي القرع في يوم عرسه، لم ينم، ظل يقرع الطبل ويقرع حتى نفرت إلى عرسه كل القرى المجاورة "نسرين" الطويلة مثل نخلة، انتصبت شلالاً من لحن عذب وعوداً من خضرة القصب، تمسح عن النبع عكره، وعن الأمسيات ترهلها.. "الشيخ حكيم"، خلع الجبة، حصرها بين رجليه، أخذ يردد الغناء، ويتثنى، وقد صبغت الحمرة خديه، نظراته مضطربة، ترف رموشه، رفات متتالية فيطرق... يوم مختلف... جبل مختلف... بشر مختلفون، كل يوغل في حلمه الخاص، كل يرقص، يغني، وينذبح، لملهاته أو مأساته..
الأم في غمرة حماستها سألته بحماس:
- أوسيب أين الشهادة...؟!
حينها كانت الهواجس تزكو قائلة:
- "هذا ابني.. ابني.. هاهو يحمل شهادة كبيرة.. الحكومة حتى... تقول عنه أنه مؤهل وفهيم... أنا التي ربيته.... وهل تصدقون... قذاراته لم تزل تحت أظافري...).
قام (أوسيب)، فتح حقيبته، دسَّ يده بين الكتب السميكة، أخرج الشهادة الجامعية، أخرجها من الظرف الأسمر، تأملها لحظة تأملها وكأنه يعيش ماعاناه ثانية في سبيلها، القرية.. الدرب الموحل المتجمد... لسعات عصا الملا بركات، المدرسة، "الخضر" ذلك الأستاذ الحقيقي، المدينة، الوحدة، فرح الجامعة ومعاناتها، الأصدقاء الذين ماتوا ورحلوا، وخلفوا لنا صورة حلوة أو مرة، وها.. القرية ثانية.
الشهادة لا تزال في يده، بزهو قدمها لأمه، أمه، لم تصدق.. في عينيها دهشة وخيبات، وفي فمها ألف سؤال حائر...؟!
أبداً.. لا يمكن أن تصدق، فصاحت:
- كل هذا التعب والمصروف، السهر والسم الزعاف، العمر الذي مضى ولن يعود.. كل هذا من أجل هذه الورقة.
وراحت تستعيد في مخيلتها صورة الشهادة كما كانت تراها...
فمرةً.. رأتها بساطاً كبيراً واسعاً من شعر الماعز، نبت في منتصفها زخرف يمثل أسطورة شعبية، جميل ودافئ، يمكن أن يمد في أرض الدار، من الجدار إلى الجدار، ومرة رأتها بغلاً ميكانيكياً ضخماً يمكن أن يريح زوجها من عناء التنقل والفلاحة، وثالثة.. تنوراً واسعاً يفيض بالأرغفة أو سهلاً يطفح بالخيرات، يطفح بالقمح والعدس والشعير والبطيخ، جبلاً يدلق الزيتون والجوز واللوز والزبيب والماعز الذي يمنح الحليب واللبن والدفء.. للأطفال.. لكنها...لم تكن تتصور أن الشهادة قطعة تافهة من الورق في أسفله ختم...؟!
فراحت بعد كل فرحها تنشج...
قحَّ "جمشيد" ثم أردف:
- ايه يا "الخضر".. ياأخي... "أو صمان" اختصر الهم وطلب:
- أعطوني عشر دجاجات وسترون... ايه يا أخي، كان ينام مع الدجاجات، يطعمها صباحاً ومساءً، يرسل يده في كيس الشعير، ينثر فضتها فوق مائدة حبيباته ويغمغم... لم يكن مفهوماً ماذا يقول.. حتى الأبالسة لا تقدر على فك طلاسم "أوصمان"...؟!
وبإصرار يرفض أن يبيع بيضة لأحد، ينتقي أفضل الدجاجات وأقوى الديوك، يؤشر على البيض إشارة خاصة، صلبان، خطوط مستقيمة، مثلثات، مستطيلات، دوائر، خرائط يعجز العلماء عن قراءتها.. أما (أوصمان) فيفك رموزها بلمح البصر، يضع أعداداً من كل زمرة تحت دجاجة وينتظر.. يتمتم... وينتظر...، يفقس البيض، تمد الصيصان برؤوسها من الفتحات المنقوفة، فيهرع، يتناولهن برفق، يحملهن على كفه، يحدق إلى عيونهن ثم يهزج بسعادة:
- أصيلة.... والله العظيم أصيلة...
وأصبح يمتلك عدداً كبيراً من الديوك والدجاج.... ولماذا لا يمتلك...؟!
- الدجاج يحمي هكذا يعلن ضاحكاً، وغامزاً... الدجاج ضروري لبطون الشرطة والموظفين رضا الحكومة من رضا الله.. الملك لله هذا صحيح، لكن الدجاج يرفع الرأس، ويبيض الوجه، عادة لا ينصرف (أبا جميل) إلا بعد أن يأكل دجاجة كاملة، يشترطها أن تكون مشوية، وقبل أن يوتد الفرس... نعم ياصديقي... يا الخضر...
صار عنده ديوك مثل النسور، يعلمها العراك، صباحاً يجلب لها العروق من عند القصاب، يحمضها بالسماق، ينثر فوقها شيئاً من الفلفل الأحمر، يطعمها، يحملها إلى البيادر، لتقاتل ديكاً قيل عنه أنه مصارع شرس، مصارع قوي.. وبنقرة... نقرتين.. في الوجه أو العينين...(هوب).. يهوي الخصم.. ينتشي..(أوصمان)، يقهقه، يذبح الديك المهزوم بمطواته الحادة، يحتضن ديكه المنتصر إلى البيت بسرور...
ذاع صيته، أخذت الناس تقول:
- ديك جيد.. لكن ليس مثل ديكة (أوصمان). ومن قريب وبعيد، أصبحت الناس تأتيه، تشتري ديوكاً للعراك، وتمضي.. نعم وتمضي.. وأوصمان... سعيد، يبدأ عالمه من البيضة التي فقست، إلى ديك يسمل عين خصمه، لم يحب إلا دجاجاته المخلصات، هو عاشقهن وهن عشيقاته المقدسات، يتبادلون المسرات والانكسارات دون تأفف.. دون هزيمة..؟! هذا هو "أوصمان"، جيوب ملأى بالنقود ودجاج على مد النظر.. ملك الديكة هو... وعاشق الدجاج الأبدي...
تنحنح "جمشيد" ثم أكمل:
أما (بكر) فمنذ نعومة أظفاره، بدأ اللعب بالدحل، يربح، يخسر، يملأ جرابات طويلة بها، يسرق جرابات أمه، ثم يصب الدحل فيها، يبيع قسماً منها لأقرانه، يحتكر الباقي، أعجبته اللعبة، أخذ يفرض السعر الذي يريد يعود ثانية، يعاود اللعب مع المشترين ويربح منهم قائلاً:
- اذهبوا... اذهبوا... تعلموا اللعب قبل أن تتورطوا مع (بكر)..
وكلما شب، ضمَّ لعبة جديدة إلى لعبة، مامن لعبة من لعب الورق إلا وتفوق فيها، من "الباصرة"، إلى "الطرنيب" إلى "التريكس" إلى "البوكر" إلى "البيدو"... امتدت السهرات حتى الصبح وكثرت، كثر الربح، يأتي إليه المقامرون من مختلف أنحاء الجبل، يخسرون أموالهم ويعودون، يذهبون إلى أحلامهم المبددة مع "بكر" ويذهب مالهم إلى جيبه.
ايه.. "بكر"...؟! لم تعد القرى تكفيك، تهبط المدينة تدمن مقاهيها وبيوتاتها المعتمة، المبالغ تكبر، ويبدو ماكنت تربحه في الجبل، تافهاً، ضئيلاً... وبين طيات صدره يرد "بكر"...
- (المدينة أنثى غضة ورطبة، فم تفوح منه روائح اللبن والشبع، ريحان هي، أعناق من الشهد المقطر... فقط أن تمتلك النقود، الدراهم رب المدن)
أحد أصدقائه قال له:
- "الدراهم مراهم"...
وبكر، أثرى، ابتاع بيتاً، سيارة، ثم أتبع ذلك بالمضاربة وشراء العملات الصعبة، والاتجار بها، أصبح عنده الكثير من الأصدقاء، أخذ يلعب في مجالس خاصة، فتح حساباً في البنك، وخوفاً على نفسه، استأجر شابين، يرافقانه أينما حل وحيثما وطئ.. وعندما زار القرية مرة، تجمع كل أهل القرية حوله، راحوا يرقبونه بفرح وحسد، يراقبون سيارته التي لم تر القرية مثلها، بدهشة واستغراب ويتمتون:
- ايه الله كريم... الله كريم....؟!
أمه ركضت، ووسمت زجاج السيارة بقطعة من العجين، علقت في داخله هيكل سلحفاة صغيرة، وحبات ناعمة من خرز أزرق، قبلته، قبلته، كأنها تراه لأول مرة، لآخر مرَّة، "أوصمان" ركض إلى الديك وذبحه، "مزيات" مدت على الفراش بساطين زاهيين محبوكين من شعر الماعز...، أما "بكر" فتمتم:
- طيبون أنتم يا أطفال.. طيبون ودس في جيب أمه بكتلة من الأوراق النقدية، قبل يدها، ركب السيارة، أدار محركها، زمر، وانطلق...لم ينتظر الديك الذي ذبحه تكريماً له "أوصمان"...حتى...
وَ " مزيات"
عينان كأصبعي لوز، وجه مدور مؤطر بشعر طويل فاحم، ينث دفئاً هادئاً ورزيناً، كانت تجمع نايها، توقظ الفلاحين والغجر، فيستسلم نسيم الجبل لأصابعها، وزهوره لأنسامها، تتحول الصخور الضخمة والدروب الوعرة المسيجة بأشجار البلوط والقطلب إلى سلالم موسيقية، تشع حبوراً وبهجة، فتتمايل رفوف البط وتتعرج، ترتفع، تهبط، يخلع المساء عباءته المدربة، ويرشق القمر الكائنات بفرح جليل، عندها تبدأ "مزيات" حياكة البسط بنشاط...
كل قصص الحب، تحولت إلى لوحات، نبتت في وسط البسط وشعت، الرعاة وقصص ارتحالهم إلى المراعي البعيدة على السفوح الشمالية الغربية للجبل، عذاباتهم، أحاديثهم مع الينابيع والصخور، العصابات التي تعترضهم، تذبح، تسرق ثم تفر، البواشق، الذئبان، وحبيبها الذي خطبها عدة مرات ولم يعطه أبوها وعداً... وعندما بكت، اهتزت لحيته النامية وهو يطيب خاطرها:
- قولي إنك تحبينه.. بلا خجل قولي... فقير لايملك إلا بقرتين... لكن أنت حرة...؟! أمسِ...
ركع خطيبها أمام البقرتين..؟! قام إلى العنبر، زاد كمية العلف، زاد الحبوب، الحبوب التي أخذ ينثرها فوق التبن، رش التبن بقليل من الماء، خلطها جيداً في المزود، شملته البقرتان بنظرة حانية، ثم راحت تجرش وجبتها، تقدم الخطيب منهما، وأخذ ينظف جسميهما مما علق بهما، يمسدهما بكثير من الحنان، هاهو يمرر بيده فوق جبين الأولى، وحول العينين يفرك جيداً، ثم يصعد بأصابعه الثخينة إلى العنق بحذر، وكأنه يمسد عنق "مزيات" ثم ينتقل إلى الوسط وحوله منطقة الوركين يحاذر ثانية من أصابعه، يمرر بها حول الحوض بهدوء شديد... كان هناك تكور ما... ضحك، ابتسم...، أهو عجل... ابتسم ثانية وبخفوت، هو لا يود أن يذيع سراً، الفرح كبير، صدره صغير لا يتسع لفرح بهذا الحجم.. لذا انطلق خارجاً، التف مع الدرب، ركض، حتى وصل إلى دارها، كان يلهث...منشرحاً...
- (مزيات) ستكون عندنا بقرة ثالثة، وكطفل بريء، هشت بيدها قرب رأسه، فهرول غائباً وهي تراقب حركاته، وتحيك على مهلٍ لوحة البقرة القادمة...
صاح "الخضر":
- أيه "جمشيد" هيت لك.. حكمتك في الكأس... والكأس طافحة بالخمر والحكايا، المجهول يتكشف لك، يفتح قلبه ويريل أوجاعه قدامك... لكن...
أيه "مزيات" ... هيت لك، إنك تشعلين الوجع والفرح بشعر الماعز وترقصين ملوك الجبل والتاريخ بسحرك... لكن...
فم "جمشيد" ينفتح وينطبق، يد "مزيات" يرتفع بالحياكة وينخفض، وبغمضة عين، يسقط الأب وراء محراثه هاهي تراه، ترى فردة حذائه التي سقطت، أمها تجن، شعرها متكوم فوق رأسها، ثيابها رثه، وعلى جانبي فمها زبد، تركض إلى الحرش، تصرخ... ترفع يدها بالدعاء:
- أولاد الحرام.. اقتلهم يارب...
تركض من جديد، تنحجب، تنمحي، تبحث كل القرية عنها دون جدوى.. تصرخ "مزيات":
- "رماد على رأسي يا أبي... رماد على رأسي يا أمي.. لتتحول جذورهم إلى بصل وثوم"...
"أوسيب"... هاهو، شهاداته ملتصقة بصدره، وفوق ظهره، خيطت الثناءات الكثيرة، يحمل كتبه الضخمة، يضعها في كيس من القنب، يعلق الكيس في رقبته، يقف فوق السطوح ويزعق:
"الساعة آتية لا ريب فيها.. كفاكم غواية... نذالة وقبحاً... نفاقاً وكذباً... سرقة وقتلاً... كفا..."..
ويرفع يده، فوق القلب يضعه، تتلطخ اليد بالدم، يبقُ من ثلاث فتحات صغيرة، دمٌ كثير... يصبح أصغر، ينكمش، يتجعد، الرأس على الحجر تماماً، القدمان تقفزان ثم تهمدان، ينفتح فمه وينطبق، تزعق "مزيات" رماد على رأس أخي... رماد"..
وتستمر في الحياكة تنقل المشهد بدقة... "أوصمان"، ملك الديكة يستلقي، دجاجاته نافقاتٌ، جانب من وجهه أخضر، والكهولة تلبسه... "بكر" ...آه... يابكر... كنت تجفف حبات الحصرم تجهز منها قلادة، تقدمها إلى عنقي قائلاً:
- مبروك عليك... تعب أخوك...
هاهو قرب الطاولة هاهو، أمامه كومة نقود،يتقدم منه أحد المقامرين، أنيقٌ، من ثيابه، يهيل عطر ساحرٌ، وعلى وجههُ مشروع ابتسامة، بحركة باردة، يستل سكيناً ويدفع نصله في ظهره، ينهض الآخرون، ينصرفون بهدوء، أما هو فتقدم قليلاً إلى الأمام، مال رأسه عن عنقه، سقط فوق النقود التي غمرته،بينما بقيت شفته منفرجة عن أسنانه، وكأنها تود أن تفعل وتقول الكثير.... بينما كانت "مزيات" تكمل آخر درزة في اللوحة،' التي سيشتريها أحدهم، أحد الأثرياء الذين لا تعرفهم كي يعلقها على جدار غرفته، ويمتدح ذوقها، ومهارتها، ارتفع صوتٌ هائلٌ، اهتزت الجبال، سقطت بعض الحجارة عن الدور، أصبح الصوت فوق البيوت، تمزقت الأفئدة، دمعت العيون، سالت روائح كريهة، وتقطعت الأنفاس..؟!
نهض "جمشيد" قبض على خنجره، ثم ترك الكأس التي كان يحدق فيها، ومد يده الأخرى إلى عنقه، وسقط، تدحرجت الكأس وابتلعت الأرض ماكان في جوفها.. الأم لم تتحرك من مكانها، كانت تنقي العدس، فجأة تجمدت، ركض "أوسيب" صوب الباب ولم يجتز العتبة، أوصمان فرك عينيه وصاح:
- ياناس.. لا أرى شيئاً..؟!
بكر صرخ:
- أشهد أن لا إله .....ولم يكمل الشهادة..؟!
" الخضر الواعدي" غيبه الجبل..؟! وأنا التي أدعى "مزيات" فقد لفتني ألحان الناي والحكايات والحياكة، ورمتني على حدود بعيدة، لأبقى حية وأكمل حياكة الأسطورة وترديد الأغاني الحزينة..؟!
امتصت الأرض آخر نقطة من كأس "جمشيد"، ارتفع ضبابٌ خفيف، وعلقت اللوحة في متحف الذكريات لتنضم إلى أخواتها الأخريات...
أليست اللوحة جميلة...؟! أرجو ذلك....
(1)في الأساطير الشرقية، أنه للحكيم الحاكم "جمشيد" كاساً إذا ملئت خمرة ظهر فيها كل ماسيحدث ويحدث في العالم.