كئيباً كان هذا اليوم في الصباح...
قال:
- مامن نسمة ندية تدخل في الصدر.. ورمى منامته جانباً، رمق ماحوله، الزهور التي شتلها لصق النافذة، لفحته بنظرة عتاب، نظرة.. نفذت إلى سويداء قلبه، تقوست السماء، تقاربت الجدران، تهشمت بعض الأواني الزجاجية المفضلة عنده، اندفع إلى حلقه غبار جاف، باختناق هرول إلى فوق سطح الدار وهو يصيح:
- "أمل" إنهم يقتلونني...
حدق إلى السطح المقابل مرات ومرات.. لكن صوته كان يتوزع في الجهات ويضيع...؟! مامن أحد، حتى ولا نأمة، ثمة أثواب معلقة بحبل الغسيل، جفت، وتيبست فبدت جثثاً منتصبة.
غامت البلدة، في عينيه، ترنحت أعمدة الكهرباء، انثنى وهوى على الأرض...
"2"
الوهج:
ضامة يدها على قيثاره وسنابله كانت في ضوعها الربيع، وفي فسحة عينيها شموخ الجبال، من أعطافها تورق الأرض، وتعلوا فوق شفاه الرعاة عافية وأغانٍ دافئة. وهي الآن هاربة ومرتعدة، يطاردها كلب رمادي كبير الرأس، يطاردها بأنيابه الحادة، يضع قدميه بخفة على الأرض، وينثر بالخلفيتين كوماً من التراب، يتحفر ظهره، ينطبق جسمه، يقفز مزمجراً، طاوياً في جريه مسافة عظيمة، تنمحي المسافة بينها وبينه، يقترب منها، يدور حولها، يشم عطرها، يهز رأسها الكبير، ويقتحمها، تنعطف، يعض طرف ثوبها الواسع ويشدها، تقاوم، يعلق مزق من فستانها بين أسنانه، يعلكها ويسقطها، يهجم من جديد، تتراجع، يلتف عليها الثوب، يشدها من كتفيها، تنحني تقع، تتكوم بذعر، تكمش بقايا الثوب والسنابل والقيثار، يغزوها رجفان قوي، يهبط قلبها ولا يصعد... ينبح نباحاً طويلاً، يهبط برأسه الكبير، يطوق عنقها بفكه، يحجز بينهما، يدفع الكلب إلى الوراء وهو يصيح:
- كفى ياصديقي.. كفى.. إنك تقتل أجمل مافي حياتي..؟!
اتجه الكلب نحوه.. اتجه الكلب إليه، وضع قائمتيه الأماميتين فوق صدره، رفع يمناهما وأنشب أظافره في عنقه، شدها إلى الأسفل بقسوة، تراجع الجلد إلى الكتف، تأوه، بان اللحم مزرقاً، دون أن تسيل نقطة دم واحدة...؟!
كظم ألمه، ضغط بأسنانه على شفتيه وتذكر لحظتها... كيف ربَّاه صغيراً، ثم راح يرعاه ويرقبه، وهو ينمو من جروٍ صغيرٍ إلى كلبٍ كبيرٍ بالغٍ، كيف كان يطعمه بيديه، يمسد له عنقه المكسوة بشعر قصير، ينقي جسمه من البراغيث، ويداعبه بين فخذيه، يسرق الحليب لأجله من أمه، ويقاتل الذين يبغون إيذائه.. ثم تذكر "بكر" راعي الغنم من القرية المجاورة، وإذ قال له وهو يهز العصا:
- الجرو سآخذه، يلزمني لحماية القطيع...
وكان جاداً وعندما منعته، انهال عليك بالعصا ايه... بكر... كنت تضربني بقسوة، تضربني كالرجال وأنا طفل غض، فتحت شقين في رأسي وورمت لي جسمي، وأخذت الجرو وسرحت بالقطيع غرباً، ووقت عدت إلى البيت، مجروحاً، مورماً، صرخ بي أبي:
- ماهذا ياولد..من ضربك.
أجبت:
- بكر أخذ جروي وعندما منعته.. ها أنت ترى مافعل بي
قال أبي:
- لكنك قاومته..."عفارم عليك"...
سيعود جروك إليك..وعدت ياصديقي عدت..؟! كيف..؟! عدت...وتذكر..؟!
كيف كان يشرد به بعيداً إلى سهول القرية وهضابها إلى مجرى نهر "عفرين" والبوجاق، المكتظ بالطرفة والدفلى والريحان العبق وخوار الأبقار وثغاء الأغنام وهي تتجه إلى القرية قبل المغيب، كيف كان يناجيه بأنه سميره الوفي الوحيد في رحاب هذا العالم الزائف..
وضغط بأسنانه على شفتيه، رده بعيداً عنه عوى الكلب وتحفز، التفت هو إلى حلمه وقال:
- "أمل" أعطني يدك...
كان كل شيء من حوله هشاً ومتحولاً، الأشجار الموزعة على جانبي الطريق، اكتست وجوه حوذيين متجلدين، أحجار الرصيف سالت ثم تكلست مغاور مرعبة، تلفظ بين الآونة والأخرى عناكب بعيون جاحظة، وذباباً كبير الحجم حائل اللون، يطن لحظات ويغيب، يعود بطنينه المنفر، يصدح به، ينادي الكلب ليقرض القيثارات والأزاهير وخوابي القمح، ويقتلهما، هو وهي فيصرخ ثانية:
- "أمل" أعطني يدك..
ويزمجر الكلب متحفزاً، يدفع بقدمه الأمامية كوماً آخر من التراب شاداً رأسه إلى الأمام..
- أمل اركض معي.. لا تخافي.. لقد تحطم القيثار...لننقذ الزهور...
تحركت (أمل)، حاولت أن تقوم بثقل جسمها لكنه وقبل أن يدعها تخطو خطوة واحدة، هاجمها الكلب صديق عمره من جديد، لطمها، أخذ يعضها ويشد بأنيابه، تسقط أرضاً، يدور حولها، ينط، يقفز، يكف عن القفز لحظة ثم يعاود...
ووقت طفح دوراناً راح يرقب "أمل" فرد شعرها، شمها، لحس تحت المحجرين ثم أغلق عينيها بيديه وأنَّ أنيناً طويلاً ومتقطعاً ثم همد...حتى الموت.. همد...مامن حركة.. مامن نأمة.. يد رقيقة حانية تمسح وجهه هامسة:
- "لقد عاودته الحالة"...
"3"
فتح عينيه، مسح الزبد الكثيف عن فمه، حدق حوله، لا تزال البلدة في مكانها والأعمدة.. مامن "أمل" ومامن "كلب" مامن صديق.. بل دوي يابسٌ ميتٌ وعميم...