صديقي هشام:
ستة أشهر قد مضت على رحيلك، وعويل الطائرة التي حملتك إلى بقايا الوطن مازال يهدر في تجاويف الريح، وصورتها وهي تغيب في الزرقة البعيدة تختلج في أعماق الرأس المشعشع بالألم... أحقاً يستطيع الهواء الرقيق أن يحمل كلّ هذه الأثقال من المعادن والبشر والأشياء؟!
جاءني صوتك صافياً كما يجيءُ دائماً حين تعطش الروح إلى جواب...
- لقد تواءمَ جسد الطائرة مع قوانين الطبيعة فارتفعت
- ونحن.. متى سنرتفع؟
- عندما نعرف حقاً قوانين الحياة
سألتك بخوف وأنت تجلس في المطار صامتاً قرب حقيبتك الوحيدة
- هل نويت الرحيل؟
- لقد تعبت هنا
- قد يقبضون عليك هناك
- الروح سجينةٌ منذ أمدٍ فماذا يضير إذا قبضوا على الجسد؟
- إبق معنا
- أنتم غرباء في هذه الأرض
- لكنّها جزء من الوطن العربي
نظرت إليَّ.. لمحت السخرية في عينيّ فدمعت عيناك
لقد اجتمع رفاق الغربة كما سميتهم عاصم /سلمان/ مصطفى بعد أسبوعين من رحيلك في المقهى، سألوني عنك وحين هممتُ بالجواب رأيتهم مشغولين بتوزيع أوراق اللعب فيما بينهم.. نظرت إلى البحر وهم يلعبون. تصايحوا تشاجروا واتّهموا بعضهم بالغشّ والخداع ثم هدؤوا فجأة حين لمحوا عامل القهوة يتقدّم بالشاي والقهوة والنراجيل.. وبعد أن عبُّوا وارتشفوا وشهقوا وزفروا تساءلوا سؤال العارف عن أسعار الدولار والدرهم والريال والدينار والسيّارات ... ثم سأل أحدهم أخيراً عن الوطن فساح رصاص الصمت فوقَ الأفواه.. واكتشفوا أخيراً أن الشمس قد غابت وراءَ البحر.. قال عاصم:
- لقد سُلخ من عمرنا نهارٌ آخر
قال مصطفى الذي بدأ يصبغ شعره بلون كستنائي غامق بلهجة شاكية كاذبة:
- ليتهم يأخذون كلّ ماجمعتُه ويعيدون إليّ شبابي
قال عاصم وهو يمسّد ركبتيه التي يومض فيها ألم الروماتزم:
- مازال الوقت مبكراً على العودة إلى الوطن
بعد شهر من رحيلك اشتقت إلى معرض الطيور الذي كنّا نزوره معاً بين الحين والآخر، وكثيراً ما سألت نفسي مالذي يغرينا بمنظر الطيور في أقفاصها؟ أهو حقاً الاستمتاع بجمالها؟ أم الظفر بشيء كان بعيد المنال؟ أم هو فرحُ السجين دائماً بتكاثر السجناء؟
اتجهتُ بسيارتي إلى المعرض كانَ لعابُ جهنم يسيل دبقاً فوق المدينة على الرغم من أنَّ الساعة لم تتجاوز الحادية عشرة، أدرت مكيف الهواء وارتشفت باستمتاع علبة مياه غازية
(ما أجمل الحياة في هذا البلد.. طعام.. شراب.. وكلِّ ما يهوى الجسد) رمقتني خائفاً من الصدق في كلامي
- ولكنْ ستبقى الروح ظمأى
- أعطِ الروح إجازة
- للروح الحزينة إجازة واحدة هي الموت
وصلتُ معرض الطيور وحشرت السيارة بين قطيع السيارات الممتدة على طول الشارع ثم سرت نحو باب المعرض أدفعه فأحاطتني البرودة تدغدغ أعصابي وانتثرت عيوني هنا وهناك تتأمل الطيور في أقفاصها.. سألتك؟
- هل نسيت هذه الكائنات رائحة الغصن وماء الينبوع ورحب الفضاء؟
- حين يحرمونك من كلّ شيء تُقبِّل ممتناً الأيدي التي تلقي إليك بفتات العيش.
اتجهت إلى القفص الكبير الذي كنا نقف قربه طويلاً أتأمل الطيور وهي تستمتع بوطن مصطنع، لقد خُدعتْ بفضاء مسيّج وصخور ملونة وشجيرات يابسة وبركة يدور فيها الماء مجترّاً نفسه وأعشاشٍ من البلاستيك وطعام مجلوب.. كانت تطير واهمة بالحرية من جدار إلى جدار تقبضُ مخالبها الهشة على أسياخ الحديد ثم تصدر أصواتاً لاتدري أتغريد، أم بكاء؟ قال أحد عمال المعرض وهو يضع لها الطعام الممزوج بمسحوق الإخصاب:
- هنا تتزاوج بشكل أفضل وتعطي فراخاً ننقلها إلى الأقفاص الصغيرة.
دعانا سلمان الفلسطيني منذ أيام إلى وليمة غداء احتفالاً بقدوم المولود الثامن، وبعد امتلاء البطون إلى حدَّ الخدر وارتشاف القهوة المنعشة قال عاصم بعد أن دعا للمولود وأثنى على الطعام والقهوة:
- (سأعود إلى الوطن بعد أن أجمع ثمن البيت ثم أردف والحانوت ثم أردف وهو يتجشأ والسيارة)
أتذكر الكنار الأبيض بجناحيه الأسودين وتاجه الأصفر لقد نقلوه من القفص الكبير ووضعوه وحيداً في أحد الأقفاص الصغيرة.. كان مذعوراً قلقاً كعادته يطير من جانب إلى جانب ومن الأعلى إلى الأسفل ثم يتشبث بجدار القفص وهو ينظر بخوف إلى ماحوله وقلبه يرتعش تحت ريشه الأبيض.. سألت صاحب المعرض عن أمره فقال:
- هذا الطائر لم يعتد العيش في قفص أبداً
- ومتى سيهدأ؟
- إلى أن يموت
- ولماذا لا تطلقون سراحه؟
- مَنْ يستمتع بأسر الطيور يصعب عليه إطلاق سراحها
سمعنا فجأة صوت سيارة تعوي معلنة عن قدوم شخص هام.. ثم توقفت على باب المعرض واندفع منها أربعة رجال بملابسهم العسكرية، صرخ رئيس الأربعة فينا أن نتجمد فتجمدنا، أن نصمت فصمتنا، ثم صرخ معلناً:
- الأمير قادم!
ترددت كلمة أمير.. أمير.. أمير.. على الشفاه الشاحبة والقلوب الواجفة والتقت عيون الكائنات في المعرض تنظر إلى الباب مترقبة قدوم الأمير وصلت سيارة سوداء تنزلق الظلال والأنوار عليها، توقفت، هبط منها الأمير مع حراسه.. دخل المعرض مع حراسه. كان طوله لايتجاوز المتر الواحد، وخيّل إليّ أنه من الذين غضب الله عليهم فمسخهم لذنوبهم ولكن حين خلع العباءة الأميرية ظهر تحتها طفل لايتجاوز السابعة من عمره، راح يركض فرحاً بين الأقفاص.. تبعه الحارس قلقاً على سيده. تابع الطفل جريه بين الأقفاص يكتشف مافيها.. يصرخ ويضحك ويقلّد الطيور الفزعة في أصواتها وحركاتها.. لكنه فجأة توقف صامتاً أمام الكنار الأبيض تأمله برهة ثم مدّ يده نحوه فهرب الطائر إلى أعلى القفص.. لاحقته يد الطفل بعناد فخفق بجناحيه في الفضاء المقيد وحين ألحّ الطفل بمضايقته نقره بقوة في يده، تراجع الطفل دهشاً من جرأة لم يعتد عليها فهرول الحراس والعمال وصاحب المعرض لنجدة الطفل الذي أمر بغضب أن يُخرج الطائر من القفص وسرعان ما امتدت يد صاحب المعرض الخبيرة وقبضت على الطائر المذعور ثمّ سلمته ليد الأمير فأمسكه بخوف رغم التشجيع والتهليل والتكبير لكنّ الطائر تململ من اليد المرتعشة فزقزق وهاجم اليد بنقرات سريعة مجبراً إياها على تركه واندفع كالسهم في فضاء المعرض فانطلق خلفه الحراس والعمال وصاحب المعرض يدعمهم بعض الزبائن الغاضبين لشرف الأمير، حوّم الكنار الأبيض بمهارة هنا وهناك ينخفض حيناً ويرتفع حيناً يلاحقه بحماس قطيع المطاردة ثم اندفع نحو الضوء الخادع القادم من باب المعرض فارتطم بالزجاج وهوى على الأرض وسرعان ما ظفرت به الأيدي وقدّمته أسيراً إلى الطفل العابس، لكنه لم يجرؤ على الإمساك به بل أمر فريق المطاردة أن يطلقوا سراح الطائر في الشارع ففعلوا.. طارالكنار قليلاً بشكل منخفض ثم غاب بعيداً بين السيارات.... تابع الطفل أوامره الحازمة فطلب من الحراس أن يفتحوا باب المعرض على مصراعيه ففعلوا.. ثم أخذ يأتي بالأقفاص ويطلق الطيور في فضاء المدينة المحموم.. كانت تحلّق برهة هنا وهناك ثم تحط بأجنحتها الكليلة فوق الأرصفة والإسفلت وظهور السيارات.. كما كان بعضها يعود برعب نحو باب المعرض باحثاً عن قفصه.. الجميع صامت.. الطفل الأمير هو الحرّ الوحيد بيننا.. لا أحد يجرؤ على اعتراضه. خلت الأقفاص أو كادت من سكانها، انطفأ نشاط الطفل ورغب بالمغادرة أعادوا عليه عباءته المذهبة فعاد أميراً كما كان. همس كبير الحراس في إذن صاحب المعرض يطمئنه فابتسم راضياً.
خرج الأمير فخرجوا.. غادر فغادروا.. وما كاد الموكب يغيب حتى اندفع صاحب المعرض وعماله والمتطوعون من الزبائن والمارة للقبض على الطيور ومطاردتها بلا هوادة.. فحاولت الهرب ولكن أجنحتها التي فقدت ذاكرة الطيران خذلتها على التحليق عالياً وبعيداً.. وسرعان ماعادت معظم الطيور إلى الأقفاص سالمة من الحريّة. لم ألمح الكنار الأبيض بينها أحسست بفرح خفي وقلت في نفسي ربما استطاع الطيران بعيداً فجناحاه مازالا حديثي العهد بالأسر ولكن حين ركبت السيارة وسرت بها قليلاً رأيت جسد الكنار الأبيض ملتصقاً بقسوة على إسفلت الشارع وقد تناثرت حوله بضع ريشات بيض تذروها رياح السيارات..
لم أكن أود يا صديقي أن أخبرك عن النهاية الحزينة لهذا الطائر الذي أحببناه معاً إذ لابد أن يسخر الناس منّا حين يعلمون بأننا مازلنا نتأثر حتى الآن بموت طائر جميل أحبّ الحريّة.
صديقك
ملاحظة ليست في الرسالة:
الرسالة مازالت في جيبي.. تجعّد غلافها.. تمزّقت بعض أطرافها كتبت عنواني بشكل مفصّل واضح على وجهها ولكنني مازلت أنتظر بفارغ الصبر -الذي لا أملك غيره- أن يرسل لي صديقي هشام عنوانه -إذا كان حياً- من أرض هذا الوطن