كانوا ثلاثة رجال من هذا الوطن... سألتهم الأرض حين عادوا إليها قبل الأوان...
- لماذا عدتم إلى رحم التراب؟
قال الأول:
- الوطن صقيع يا أماه والشمس سجينة
قال الثاني:
- قتلتني أفعى مازالت تزحف بين الجلد والروح
قال الثالث:
- أوقفت القتل فأغمد كلّ الخصيان خناجرهم في جسدي
قالت الأرض: هاتوا حكاياتكم
(حكاية موت الأول)
كان الصباح ندياً وكنت أسير لألتقط فتات الرزق في مدينة الغبار والخوف والسعال، ودّعت صغاري وسمعت عصفوراً يقول لرفيقته:( أسرعي نلتقط طعام الفراخ قبل أن تصحو الأفاعي والهررة.) ثم طارا نحو شجرة تمتد أغصانها فوق مقبرة. فمشيت أخترق دروب المدينة الملتوية أسمع همساً يتردّد في كلَّ مكان... المدينة مصيدة... المدينة مصيدة... وحين أصبحت في زقاق رطب زكمت أنفي رائحة العفن المتشابك بين الجدران وقفز قاتلي من زاوية مترعة بالبول، شهر مسدسه وصرخ بصوت يقطر صديداً
- ستموت الآن!
- ماذا تنفعك دمائي؟
- ستدخلني الجنة
قفز القلب إلى أقصى زاوية في الصدر حاول أن يوغل... أن يوغل، لكن خانته الأضلاع وفرّت هاربة، ثم ومض الموت وانطلق رصاص يمخر صدري يلهب ريح الآلام... لم أتألم لكني خفت على طفلي ألا يهنأ أبداً بالنوم بعد الآن...
جسدي ملقى... ينساب دمي فوق بلاط الشارع يتفرّع ثم ينعقد شباكاً من نار... جسدي ملقى ويدي مازالت تمتد حيث توارى القاتل مختبئاً بين الباكين
(حكاية موت الثاني)
قالت أمي: لقد أصبحت كثير الشرود يابنيّ منذ أصاب الشلل طفلتك الصغيرة، حاذر أن تغفو في بحر الحزن ستلتصق قدماك يوماً بإسفلت الشارع وسيعبرون على جسدك... لكني لم أدر لماذا نسيت وصية أمي.
في ذلك اليوم كنت أنتظر مع جموع الناس انحسار سيل السيارات المتدفقة، نبّهني جاري حين انحسر الموج الفولاذي وقال: اعبر نحو الشاطئ الآخر فمشيت وتماوجت الأوجاع أمامي... توقفتُ جاءتني صورة طفلتي المشلولة تمدّ يدها نحوي تسألني أن أحملها نحو النافذة كي ترى الناس والأشجار والطيور والسماء... توقفتُ وارتفعت أمامي سدود من دمع متماوج... خطاي مسمّرة تلتفّ عليهما ذراعا ابنتي المشلولة... وتهاوى جسدي حين ارتطمت به سيارة مسرعة... لم يقو الطين على دفع الفولاذ... تهاويت، عيناي كرّات من رعب بلوري تحدّق إلى إطارات السيارات وهي تمخر جسدي.. عبرت جسدي.. سحقتني ثم توقفت السيارة على بعد أمتار من كومة لحمي وعظامي... خرج من السيارة شاب أنيق مكتنز الوجه نظر إلى أشلائي أحسّ بغثيان وانقبضت معدته المملوءة بالويسكي... ارتبك قليلاً وتجمع حشد جذبته دمائي، جاء رجال الشرطة تثاءب أحدهم حين أحاط جسدي بدائرة بيضاء واقتربت امرأة تشبه أمي فكّت غطاء رأسها، لم تخجل حين رأى الجميع شعرها الأشيب... غطت جسدي وتوارت تبكي...
قال الشرطي بلطف للشاب:
- سيارة مَنْ هذه؟
- إنها سيارة بابا
- إذن أنت ابن...
- نعم
- الأمر بسيط لاتقلق
- الحقّ عليه لايعرف كيف يسير
انسلّ الجمع بهدوء وفي ظهورهم شرخ الخوف ثم جاءت سيارة الإسعاف ولملمت جسدي ونستْ كفي ملقاة فوق بلاط الشارع تشير إلى توارى القاتل في الأحياء النظيفة...
(حكاية موت الثالث)
تركوني على الرابية وحدي... خلفي بيروت يأكلها طاعون القصف وبيتي تهدّم... قلبي يعرش كالياسمين شمالاً حيث رحل أطفالي وزوجتي... رفاقي قليلون توزعتهم الطرقات والمنعطفات... لا أدري من سقط شهيداً منهم ومَنْ بقي يقاتل... وأنا مازلت على الرابية أنتظر أفعى الفولاذ الإسرائيلية القادمة... سألتني الأرض المرتعشة تحت جسدي..
- هل سترحل؟
- سأرحل إليكِ
- اليهود قادمون
- سأنتظرهم
- أين أهلك؟
- تبدّدوا زبداً وعواء
اهتزّ تراب الأرض وارتجفت قربي زهرات عطشى... لقد اقتربوا هاهي أنياب الدبابات المصنوعة بالنفط العربي تنهش لحم الأرض العربية وتطعمه ليهوذا... عيناي اشتعلت من فقر وقهر تتأمل كيف تتلوى الأفعى السوداء أمامي... نادتني الأرض كأمّ بيعت من جوع:
- لا تتركني... لقد اقتربوا...
يتسلل رأس الأفعى السوداء يقترب... يقترب. القاذف فوق كتفي، صفحته الملساء تلامس خدي وعنقي... فمه محشو بقطعة موت مخروطية، رأس الأفعى يتسلل نحوي ويمدّ لساناً من لهب ودخان فشددت على الزناد بكلّ الأحقاد الكامنة بصدري وانطلق شهاب القاذف كطائر من نار نحو الكتلة الفولاذية فالتهبت وتهاوى جبل الفولاذ طعاماً للنار، سمعت صراخ جنود يهوذا... أطعمت القاذف قطعة موت أخرى وانتظرت... تراجعت الأفعى وانكمشت. ابتلعت الأرض دموع الخوف وقالت:
- سيعودون
- لن أتركك
- رحل الجميع
- تعبت من الرحيل
ضمتني الأرض إليها... ضممتها... أوغلت الرحيل في كبد التراب وسمعت الجذور والينابيع النخيل وعرفت لماذا أصاب العقم أشجار النخيل ولم يطل الانتظار هاهم يحوّمون فوقي بطائراتهم يجوبون السماء المفضوحة يترصدون دبيب الحياة على التراب ويبصقون شتى أنواع الموت في آخر القرن العشرين... وانهمر جحيم الفولاذ وانشطر على الأرض سكاكين تذبح التراب والصخر وأعناق الطير والشجر، اختبأت الأرض في صدري تبكي... تبكي... تبكي... لقد آن الرحيل إليها... رفعت بصري إلى السماء لم أر الشمس كان الكون لهيباً وغباراً ودخاناً ورياحاً مسمومة... انفجرت قربي قنبلة شطرت لحمي كالومض وتناثر جسدي في كلّ الجهات وتمزق شرخ في كرة الموت المنعقدة فوقي ورأيت شعاع الشمس وطارت أصابعي كسهام من نار تمضي نحو المدن العربية المتقيّحة فتنكأ جراحها وتسيل الدماء في الشوارع فوق الأبنية والجدران والنوافذ وفي الشعاب وفوق الرمال، تغطي وجه الأرض وتصل إلى حيث ينام بهدوء كلّ القتلة