مثل صخر حطّه السيل من علٍ، كانت سيارة (الزيل) تنحدر مقعقعة على الطريق الوعرة، تثير التراب وتنثره في الجو وتدفعه إلى أنف عزمي وأنوف المتطوعين من الشبان المحشورين في صندوقها الخشبي. وكان عزمي يراقب كيف تلتحم أجساد رفاقه وتتباعد مع كل انعطافة من انعطافات السيارة وارتجاج عجلاتها. ويفكر، بالبيت الذي غادره بعد أن أمضى فيه عشرين عاماً. ويفكر بحب أمه وتضاريس وجهها الحزين، بهدوء أبيه وتفهمه، وبدموع أخوته المنسالة على خدودهم الوردية. في حياة عزمي، يوم له تاريخ لا ينسى، يوم بوغت فيه سكان بيروت باجتياح إسرائيل لمدينتهم حتى ماعادوا يعرفون ماذا يفعلون، أيهربون من المدينة أم يختبئون؟! كان عزمي في التاسعة من عمره، ولم يسبق له أن رأى مايراه اليوم من تدفق القوة ومن خوف الناس وحزنهم، وتشردهم على الطرقات وفي الزواريب، ومع أنه بكى كطفل، إلاّ أنه صمم على الانتقام حين يصبح قادراً على ذلك. وشبَّ عزمي عن الطوق، وشبَّ معه حلمه وتصميمه، رغبته في أن يلتحق بإحدى منظمات المقاومة المسلحة كانت قراراً ناجزاً، فهو لم يسمح لمشاعره، طيلة تلك السنوات، أن تتلاطم بين رحم الوطن ورحم الذات، ولم يستطع أن يعيش حياة طبيعية، وهو يحمل في نفسه عار الاجتياح وذل الاحتلال. حين أعلم عزمي أهله بقراره، تهاوت أمه على كرسي وهي تنتحب وطلبت منه أن يترك الخبز لخبازه، فهناك من هم أقدر منه على القتال وحمل السلاح. وغلى الدم في قلب أبيه ووجهه، إلاّ أنه صابر وكابر وقال له: لن أزيد الكلام، فأنت الآن غير مستعد للاستماع. وعندما تصبح مستعداً، يكون كل شيء قد انتهى. وابتلعت حبيبته رشا، الدهشة التي انتابتها وجميع حواسها تستمع إليه وهو يقول: قد يكون يسيراً أن نصف الحب بمفهومه الواسع، بالجميل والآسر والشاعري والشفاف. لكن، حين يلتصق الحب بالوطن، تصبح له صفة القدسية والتضحية، ويصير له لون الدم... لا أرى لحياتي جدوى في مكان تنمو فيه الحرية وتتحطم فيه الكبرياء. أنا ذاهب إلى حيث يجب أن أكون إلى الأرض التي أنتمي إليها ولا أعرفها. سأعود إليها لأضع بدمي القهر واليتم في شرفات منازل أعدائنا. مثلما وضعوه في حياتنا وقلوبنا. سأعود لأقوض أمنهم وراحتهم، وأذكرهم بطفولة قلقة خائفة توازعتها أزقة ومسارب مخيم منزرع في الشقاء. التداعيات تؤلم عزمي، يصرفها عن ذهنه، ويراقب الطريق التي لم تكن كلها وعرة كما كان يظن. بل مستوية مسفلته حيناً، ومعشبة رطبة في بعض الأحيان. وفي كل الأحوال بدت الرحلة لعزمي نضرة كأحلامه، مع أنه يعرف يقيناً أن حياة كان تعوَّدها قد رحلت إلى غير رجعة. *** وصل عزمي إلى معسكر باحته مساحة جرداء إلاّ من أسوار الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة، وشباب أشداء يملؤون جنباته بأكتاف تتصدى لثقل البنادق، وبأيدٍ ماهرة تحفر الخنادق، وترصُّ المتاريس. المعسكر مدينة تختلف عن مدينة أخرى، مدينة تعرف العناق ولا تمارسه. تمور بالحنين ولا تعبر عنه، تتلفع بالشوق وتطمره تحت قناع من خشونة الرجولة. والشعور بالصداقة هنا خيط غير مرئي، قوي لا يفصمه غير الموت. *** لم يقترب عزمي من رفاقه، ولم يتعرف على عوالمهم، ليس لأنها عوالم معقدة؛ بل لأنه لم يحاول، فنهاراته تتلاشى في التدريب، ولياليه تتفتت بين السهر ليقينه أن العدو ساهر لا ينام. وبين حلمه بأن يكلف بعملية فدائية في الأرض المحتلة. *** ياله من نهار! هذا المطر الذي يلتهم كل شبر من الأرض. وهؤلاء الشباب الذي يحولون الوقت إلى زمن له معنى. ومكبر الصوت الذي ينادي على عزمي، يدعوه إلى غرفة القيادة. هرع إلى هناك، أدى التحية ووقف واثقاً مطمئناً أشار له قائده بالجلوس، وقال له: اختارتك القيادة لمهمة على غاية من الأهمية والسرية وذلك لثقتها بمهارتك في التسديد. يرفرف قلب عزمي مسرة، ويهمس له: "لقد أزف وقت القطاف". وبصوت طافح بالاندفاع، يقول عزمي: أنا رهن أشارتكم سيدي، ولو أنَّ لي أكثر من حياة لقدمتها فداء للوطن. - مطلوب منك أن تخلّص القيادة من شخصية تسيء بمواقفها وتصريحاتها إلى المنظمة وسير عملها. دارت الغرفة بعزمي، واحتاج إلى لحظات ليستعيد توازنه. - ماذا قلتم، سيدي؟! وبتأمل، ينظر القائد وهو يخرج سيكارة من بين شفتيه، إلى عزمي الذي تيبست نظراته، وكأنَّ عينيه قدتا من صوان. - ماسمعته ياعزمي! مرة أخرى، لم يصدق عزمي سمعه، أو لم يرغب أن يصدقه. - سيدي. أعرف أنَّ الاعتراض على الأوامر ممنوع، لكني لا أستطيع تنفيذ المهمة. أتوسل إليكم ياسيدي أن تمنحوني فرصة أحقق فيها حلمي، الذي جئت من أجله. يكفهر وجه القائد غضباً، وتتحرك يداه بعصبية، يطرق قليلاً، ثم يرفع رأسه وبهدوء مصطنع، يقول: كله نضال من أجل الوطن، ولا فرق بين عدو خارجي وعدو محلي، غداً يتم نقلك إلى قاعدة أخرى لتتدرب على خطة - العمل ومراحل تنفيذها. تكثفت صدمة عزمي، بدرجة طغت على كل حواسه، وجعلته لائقاً، لا يدري ماذا يفعل ولا كيف يفكر. *** لافائدة! هذه الليلة أقصر من أن يستعرض فيها كلَّ مامرَّ به ومافات عليه. يعاوده وجه أمه الباكي، يتمنى أن يضمه ويقبل العينين الذابلتين. يعاوده وجه أبيه الصابر المكابر، وبمرارة يردد ماسمعه منه قبل أن يغادر البيت: "عندما تكون مستعداً للاستماع، يكون كل شيء قد انتهى.). يعاوده وجه رشا الذي لم يفارقه، ولون الدموع في عينيها، يتذكر أيامهما في الجامعة، وجلساتهما تحت شجرة السرو الكبيرة. يشعر بالخجل من خذلانه لها! لو أنَّ الزمن يعود إلى الوراء، لكان الآن بين أهله وأحبابه، محامياً ناجحاً وزوجاً محباً وأباً شفوق. يستنكر عزمي ضعفه، ويزجر وسواس تمنياته. *** الليل ينزاح تدريجياً على صدر الكون، وعينا عزمي تتابعان بلا يأس. فلول النجوم المقاومة، قلقه يزداد مع تلاشي الثواني التي تفصله عن الموعد، الذي أوشك أن يصبح صفراً. لا أمل بالانتظار. هاقد حانت لحظة امتحانه لمبادئه وإنسانيته. يجب أن يحزم أمره ويحسم موقفه. يأخذ عزمي ورقة، يكتب فيها: (آه ياوطني! يانجمة صبح شددت إلى نورها عمري وحلمي. اغفر لي جبني -لقد تساوت عندي المسافة بين الموت والحياة، فلا الموت يخيفني ولا الحياة بالشروط المفروضة تفرحني. أفضل أن ألوذ بالفرار). يطوي عزمي الورقة ويضعها فوق الطاولة. في الصباح، أفاق الرفاق وجدوا جثة عزمي هامدة، وبقربها حلم لائب يبحث عن نجمة صبح!
مثل صخر حطّه السيل من علٍ، كانت سيارة (الزيل) تنحدر مقعقعة على الطريق الوعرة، تثير التراب وتنثره في الجو وتدفعه إلى أنف عزمي وأنوف المتطوعين من الشبان المحشورين في صندوقها الخشبي.
وكان عزمي يراقب كيف تلتحم أجساد رفاقه وتتباعد مع كل انعطافة من انعطافات السيارة وارتجاج عجلاتها. ويفكر، بالبيت الذي غادره بعد أن أمضى فيه عشرين عاماً. ويفكر بحب أمه وتضاريس وجهها الحزين، بهدوء أبيه وتفهمه، وبدموع أخوته المنسالة على خدودهم الوردية.
في حياة عزمي، يوم له تاريخ لا ينسى، يوم بوغت فيه سكان بيروت باجتياح إسرائيل لمدينتهم حتى ماعادوا يعرفون ماذا يفعلون، أيهربون من المدينة أم يختبئون؟!
كان عزمي في التاسعة من عمره، ولم يسبق له أن رأى مايراه اليوم من تدفق القوة ومن خوف الناس وحزنهم، وتشردهم على الطرقات وفي الزواريب، ومع أنه بكى كطفل، إلاّ أنه صمم على الانتقام حين يصبح قادراً على ذلك.
وشبَّ عزمي عن الطوق، وشبَّ معه حلمه وتصميمه، رغبته في أن يلتحق بإحدى منظمات المقاومة المسلحة كانت قراراً ناجزاً، فهو لم يسمح لمشاعره، طيلة تلك السنوات، أن تتلاطم بين رحم الوطن ورحم الذات، ولم يستطع أن يعيش حياة طبيعية، وهو يحمل في نفسه عار الاجتياح وذل الاحتلال.
حين أعلم عزمي أهله بقراره، تهاوت أمه على كرسي وهي تنتحب وطلبت منه أن يترك الخبز لخبازه، فهناك من هم أقدر منه على القتال وحمل السلاح.
وغلى الدم في قلب أبيه ووجهه، إلاّ أنه صابر وكابر وقال له: لن أزيد الكلام، فأنت الآن غير مستعد للاستماع. وعندما تصبح مستعداً، يكون كل شيء قد انتهى.
وابتلعت حبيبته رشا، الدهشة التي انتابتها وجميع حواسها تستمع إليه وهو يقول:
قد يكون يسيراً أن نصف الحب بمفهومه الواسع، بالجميل والآسر والشاعري والشفاف. لكن، حين يلتصق الحب بالوطن، تصبح له صفة القدسية والتضحية، ويصير له لون الدم... لا أرى لحياتي جدوى في مكان تنمو فيه الحرية وتتحطم فيه الكبرياء. أنا ذاهب إلى حيث يجب أن أكون إلى الأرض التي أنتمي إليها ولا أعرفها. سأعود إليها لأضع بدمي القهر واليتم في شرفات منازل أعدائنا. مثلما وضعوه في حياتنا وقلوبنا. سأعود لأقوض أمنهم وراحتهم، وأذكرهم بطفولة قلقة خائفة توازعتها أزقة ومسارب مخيم منزرع في الشقاء.
التداعيات تؤلم عزمي، يصرفها عن ذهنه، ويراقب الطريق التي لم تكن كلها وعرة كما كان يظن. بل مستوية مسفلته حيناً، ومعشبة رطبة في بعض الأحيان.
وفي كل الأحوال بدت الرحلة لعزمي نضرة كأحلامه، مع أنه يعرف يقيناً أن حياة كان تعوَّدها قد رحلت إلى غير رجعة.
***
وصل عزمي إلى معسكر باحته مساحة جرداء إلاّ من أسوار الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة، وشباب أشداء يملؤون جنباته بأكتاف تتصدى لثقل البنادق، وبأيدٍ ماهرة تحفر الخنادق، وترصُّ المتاريس.
المعسكر مدينة تختلف عن مدينة أخرى، مدينة تعرف العناق ولا تمارسه. تمور بالحنين ولا تعبر عنه، تتلفع بالشوق وتطمره تحت قناع من خشونة الرجولة. والشعور بالصداقة هنا خيط غير مرئي، قوي لا يفصمه غير الموت.
لم يقترب عزمي من رفاقه، ولم يتعرف على عوالمهم، ليس لأنها عوالم معقدة؛ بل لأنه لم يحاول، فنهاراته تتلاشى في التدريب، ولياليه تتفتت بين السهر ليقينه أن العدو ساهر لا ينام. وبين حلمه بأن يكلف بعملية فدائية في الأرض المحتلة.
ياله من نهار! هذا المطر الذي يلتهم كل شبر من الأرض. وهؤلاء الشباب الذي يحولون الوقت إلى زمن له معنى. ومكبر الصوت الذي ينادي على عزمي، يدعوه إلى غرفة القيادة.
هرع إلى هناك، أدى التحية ووقف واثقاً مطمئناً أشار له قائده بالجلوس، وقال له: اختارتك القيادة لمهمة على غاية من الأهمية والسرية وذلك لثقتها بمهارتك في التسديد.
يرفرف قلب عزمي مسرة، ويهمس له: "لقد أزف وقت القطاف".
وبصوت طافح بالاندفاع، يقول عزمي:
أنا رهن أشارتكم سيدي، ولو أنَّ لي أكثر من حياة لقدمتها فداء للوطن.
- مطلوب منك أن تخلّص القيادة من شخصية تسيء بمواقفها وتصريحاتها إلى المنظمة وسير عملها.
دارت الغرفة بعزمي، واحتاج إلى لحظات ليستعيد توازنه.
- ماذا قلتم، سيدي؟!
وبتأمل، ينظر القائد وهو يخرج سيكارة من بين شفتيه، إلى عزمي الذي تيبست نظراته، وكأنَّ عينيه قدتا من صوان.
- ماسمعته ياعزمي!
مرة أخرى، لم يصدق عزمي سمعه، أو لم يرغب أن يصدقه.
- سيدي. أعرف أنَّ الاعتراض على الأوامر ممنوع، لكني لا أستطيع تنفيذ المهمة. أتوسل إليكم ياسيدي أن تمنحوني فرصة أحقق فيها حلمي، الذي جئت من أجله.
يكفهر وجه القائد غضباً، وتتحرك يداه بعصبية، يطرق قليلاً، ثم يرفع رأسه وبهدوء مصطنع، يقول:
كله نضال من أجل الوطن، ولا فرق بين عدو خارجي وعدو محلي، غداً يتم نقلك إلى قاعدة أخرى لتتدرب على خطة - العمل ومراحل تنفيذها. تكثفت صدمة عزمي، بدرجة طغت على كل حواسه، وجعلته لائقاً، لا يدري ماذا يفعل ولا كيف يفكر.
لافائدة! هذه الليلة أقصر من أن يستعرض فيها كلَّ مامرَّ به ومافات عليه. يعاوده وجه أمه الباكي، يتمنى أن يضمه ويقبل العينين الذابلتين. يعاوده وجه أبيه الصابر المكابر، وبمرارة يردد ماسمعه منه قبل أن يغادر البيت: "عندما تكون مستعداً للاستماع، يكون كل شيء قد انتهى.).
يعاوده وجه رشا الذي لم يفارقه، ولون الدموع في عينيها، يتذكر أيامهما في الجامعة، وجلساتهما تحت شجرة السرو الكبيرة. يشعر بالخجل من خذلانه لها!
لو أنَّ الزمن يعود إلى الوراء، لكان الآن بين أهله وأحبابه، محامياً ناجحاً وزوجاً محباً وأباً شفوق.
يستنكر عزمي ضعفه، ويزجر وسواس تمنياته.
الليل ينزاح تدريجياً على صدر الكون، وعينا عزمي تتابعان بلا يأس. فلول النجوم المقاومة، قلقه يزداد مع تلاشي الثواني التي تفصله عن الموعد، الذي أوشك أن يصبح صفراً.
لا أمل بالانتظار. هاقد حانت لحظة امتحانه لمبادئه وإنسانيته. يجب أن يحزم أمره ويحسم موقفه.
يأخذ عزمي ورقة، يكتب فيها: (آه ياوطني! يانجمة صبح شددت إلى نورها عمري وحلمي. اغفر لي جبني -لقد تساوت عندي المسافة بين الموت والحياة، فلا الموت يخيفني ولا الحياة بالشروط المفروضة تفرحني. أفضل أن ألوذ بالفرار).
يطوي عزمي الورقة ويضعها فوق الطاولة. في الصباح، أفاق الرفاق وجدوا جثة عزمي هامدة، وبقربها حلم لائب يبحث عن نجمة صبح!