باب في مؤسسة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : جمانة أمين طه | المصدر : www.awu-dam.org

 

ترى لو أعطي لي حق الكلام، ماذا أقول؟!‏

كم أنا ساذج! متى كان الحق يعطى؟!... وكيف أُعطى حقاً حرم منه كثيرون من عباد الله؟! ومن الذي سيتجرأ ويمنح هذا الحق لباب؟!...‏

حق الكلام لباب؟! نعم، لم لا؟!.. أليس الباب ظل الإنسان؟!‏

لن أتكل على أحد في نيل حق الكلام. سآخذه لنفسي بنفسي، ومهما كلفني هذا من عناء.‏

***‏

دائماً كنت صامتاً، أهزُّ رأسي، مستسلماً لسلبيتي وأكتفي بمصافحة الوجوه التي تنعكس على مرآتي. وها أنا أفيق من سباتي الطويل، أندِّي كلماتي التي طال احتراقها على شفتيَّ. وأصوغ منها حكاية. قد لا تروق هذه الحكاية في تفاصيلها لأحد، إنما تبقى لها نكهتها وخصوصيتها، أو لنقل إنني أراها هكذا.‏

عندما فارقت دكان صانع الأبواب، كنت حزيناً لأني تركت فيه أمي وبعض أخوتي. وكانت أمي من خلال دموعها توصيني أن أكون مهذباً وأتكيف مع المكان الجديد. وكان أخوتي يلوحون لي مودعين، إلى أن غابت الشاحنة التي تقلني مع أبواب آخرين.‏

شجرة نسبي أوروبية، لكني لا أعرف تماماً في أي بلد ولدت، فأبي كان دائم الترحال. اشتهيت أن أكون باباً مصنوعاً من خشب زان عريق.‏

يلائم البيئة الشرقية، لا باباً مصنوعاً من معدن مستورد فرضته التقنية الحديثة، على كلٍ، لا حيلة لي فيما أنا عليه، جاءت ولادتي على هذه الصورة ورضيتُ بها.‏

***‏

أنا هنا في مؤسسة عدد الموظفين فيها قليل، يتوزعون على غرف متناثرة على طرفي ممر طويل. أبواب الغرف متشابهة في الشكل. مختلفة في الصوت متباينة في الهدف. بعضها مشرع وبعضها موارب وبعضها مغلق مغلق، فضاء من النور والصفاء أنا. آمنت بالنقاء، فمنحت عمري لمن يقتنيني، أحنَّ إلى الصدق والصادقين. حتى الآن لم أجد من يطفئ هذا الحنين!‏

صفحتي البلورية دفاتر لا تمتلئ من حكايات مشغولة بالهمِّ والحلم والخيبة والوجع. زمني يتكسر على نغم فتح القفل وإغلاقه، وهذه الحركة المستمرة تتعبني، أتمنى أن أتمدد على سرير وأنام.‏

أنتصب بقامتي الأنيقة أمام غرفة فسيحة، جدرانها ملفوفة بورق ملون، وأرضها مفروشة ببساط صوفي لونه بيج يسمونه (موكيت).‏

كم من عابر مرَّ بي، وفضول ينتابه ليعرف ماذا خلف عوارضي. ولو أنه سألني، لرجوته أن يتابع سيره ولا يبدد فضوله بخيبة أمل!‏

لست راغباً في أن أركب موجة النميمة وأسمعكم هذراً لا طائل منه، لكنَّ الذي يجلس وراء أسواري يضطرني لركوبها.‏

***‏

بدأ الأمر مع عزيز هكذا، استيقظ ذات يوم فوجد نفسه معاون مدير، ولم يخطر بباله أنَّ الخط سيمنحه منصباً أعلى من كفاءته وأنقى من سريرته، لكنَّ الله إذا أعطى أدهش!‏

حين تسلَّم عزيز عمله، جمع الموظفين التابعين له وأسمعهم تراتيل من سفر الضمير المهني؛ عن الالتزام بمواعيد الدوام والتفاني في العمل لرفع سويته وأقوالاً عن العدل والمساواة وبأنّ أقربهم إليه أكثرهم عملاً وإنتاجاً.‏

تفاءل الموظفون بكلامه واستراحت قلوبهم المتعبة من عنجهية بعض المدراء وتسلط معاونيهم، إنما الأيام تكشفت عن رجل مختلف، وجاءتهم بما لا يجيبون. فقد انساق عزيز وراء ضوء السلطة، وخصَّ نفسه بميزات كان قد أنكرها على من سبقه. ووضع المؤسسة في تنور من الحق والكراهية، حين اصطنع لخدمة مآربة بعض المنافقين من الموظفين، وجعلهم عيناً له على زملائهم. بالمختصر شغل الجميع بقراراته الكيدية، وانشغل هو بمشاهدة برامج الفضائيات.‏

بين قلقي عليه وعجبي منه، كنت أنصحه بالتخلي عن صلفه. فيمسك به كبرياؤه الكاذب، ويقول له: اللطف والتواضع ليس لأصحاب المناصب العالية.‏

وكنت أرجوه أن يكون عادلاً نبيلاً، فيقول له حقده.: النبل والعدل ليس لأمثالك.‏

كم أنا حزين! تخلى عزيز عن إنسانيته وتناساها في غمار الترهات وصغائر الأشياء.‏

سأقول لكم سراً إني مع عدم اقتناعي بوجودي أمام غرفة عزيز، أعترف أني، إلى حد ما، أكثر حظاً من بعض الأبواب في هذه المؤسسة.‏

فباب غرفة (روز)، مصاب بصداع دائم من جراء مكائدها وافتراءاتها على زميلاتها، وأنا بالسليقة أدرك أنَّ كل ماتلفقه ينتهي بالفشل، لكنها لا تفقد أبداً اهتمامها في هذاالمجال؛ فمثل هذه المكائد تشعرها بوجودها.‏

وباب غرفة (فتنة) مصاب بصرع من شدة قسوتها عليه، ولحالة العبث والإهمال التي يستبيح فيه أوراقها.‏

وباب قاعة الاجتماعات، مصاب بداء المفاصل، فقد نشفت غضاريفه من ندرة فتحه وإغلاقه.‏

ألستم معي بأنَّ الاكتواء بنار عزيز أرحم من الجلوس مع امرأة مفترية مثل روز ومن العمل مع امرأة خرقاء مثل فتنة؟!..‏

عذراً لهذا التداخل. فأنا في هذه اللحظات أعيش فوضى في حواسي، وتشابكاً في لغتي ومواقفي.‏

***‏

البارحة، دخل الموظف رياض على معاون المدير عزيز، استقبله... ببرود وعدم مبالاة، وسأله: خير؟؟!‏

تردد رياض، قبل أن يضع على المكتب ورقة سجل فيها طلبه، تصفحها عزيز بعينين مزمومتين، ومن غير أن ينظر إليه قال:‏

اللوائح لا تسمح بمنحك تعويضاً مالياً عن عملك الإضافي.‏

- كيف، أعني لماذا؟!‏

- لا كيف، ولا لماذا، هكذا!‏

- التعويض من حقي، إنه تعبي.‏

يتجاهل عزيز كلام رياض، ويتلهى عنه بالضغط على أزرار جهاز التحكم لتغيير القناة التلفزيونية التي كان يشاهدها، يمدُّ رياض يده، يسحب الطلب وجلده ينضح عرقاً وحنقاً، أحسست بأنفاسه تحرق صفحة وجهي، وهو يدير مقبضي ليخرج من الغرفة الجحيم.‏

لا تسألوني عن تفاعلاتي في تلك اللحظة، فأنا لا أحفظ كلمات كثيرة أستطيع بها أن أترجم مايدور في داخلي. للمرة الأولى في حياتي أرى رجلاً بعينين دامعتين!‏

أكثر من مرة تساءلت، لماذا يعمل عزيز على إتعاس زملائه؟! وماهي الدوافع الكامنة وراء المشاعر السلبية التي يحملها في نفسه تجاههم، لدرجة أنه يتمنى أن لا يحصل أحد منهم على علاوة أو ترفيع. وحاولت أن أتقصى مصدر هذه المشاعر فلم أوفق. اليوم، سمعت حديثاً دار بين اثنين من المترددين على زيارة المؤسسة:‏

- ياله من معقد! قال ماهر.‏

- بل قل، ياله من مسكين، أجابه سعيد.‏

- مسكين؟! لقد شوى اللؤم أعماقه فما عادت تنبت لاحُبَّاً ولا حَبَّاً.‏

- أجل إنه مسكين! عاش طفولة قاسية وشباباً ملوثاً.‏

- لا أفهم ماتعني.‏

- عانى من الفقر في طفولته، و...‏

- كلنا عانينا مثله. قال ماهر.‏

- ربَّما! لكن، ماحدث له فيما بعد يختلف، لقد تعرض لامتهان رجولته، مما قلب حياته رأساً على عقب؛ وترك في أعماقه ندبة لا تمحى.‏

هذا هو عزيز إذن!‏

يغلفني انقباض من بشاعة ماسمعت، أرسُّ رأسي تحت وسادتي مستجدياً النوم بغتة أشم رائحة عطر أنثوي، أبعد الوسادة وأنزلق من فراشي مسرعاً؛ فأرى جسد صبية ينهمر على فضائي البلوري، يغلي دمي، يتواثب حمماً في كياني، وعبثاً أحاول تحريك يديّ لأضمَّ الفتاة وأحضنها. لسوء طالعي، كانت يداي مثبتتين إلى طرفي الحائط.‏

كأني بكم تقولون: باب مصنوع من معادن الألمنيوم، وعنده كل هذه الأحاسيس؟! نعم!؟ إنَّ بين جنبيَّ قلباً دافئاً محباً، وأنا عندما أرى امرأة، أجزم أنَّ شيئاً ما ينقصني. أرشدوني ماذا أفعل؟!‏

النادل يدنو مني وفي يده صينية، فوقها أكواب من الشاي وصحن من الحلوى فكرت أن اختلس بعضها لأسكت جوعي، تذكرت أنهم قد يشنّعِون عليَّ قائلين: حاميها حراميها، فتراجعت.‏

***‏

أشعر باختناق، ولا أدري هل الاختناق في الجو أم في صدري؟!‏

الساعة تجاوزت دقاتها الثانية ظهراً. غادر الموظفون المؤسسة، وبقي عزيز في غرفته يرتب بعض أوراقه، ويستعيد ماجرى في يومه من خلافات ومشاحنات. وأنا أحاول أن أنفض عن جسدي غبار الأحداث التي سمعتها وشاهدتها، وأؤنب نفسي على اقتناص حق الكلام، الذي لم أجن منه غير التعب والقلق.‏

لا الليل ولا الهدوء ولا النسيم المتسلل من الشقوق مداعباً ثوبي، تحررني من الندم. قررت أن أقوم بعمل أعزل بموجبه نفسي من موقعي. نزعت المفصل من طرفي الأيمن، ثم كورت قبضتي،وبكل قوتي سددتها إلى صدري فتناثرت قطع الزجاج، ومعها تناثرت مشاعر اللوم والندم