باب شقة عصرية

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : جمانة أمين طه | المصدر : www.awu-dam.org

أنا يا سادتي باب آخر. أشعر بالغيرة من أخي الأكبر. وقلت بيني وبين نفسي، لا أحد أحسن من أحد. وقررت أن أخوض غمار هذه التجربة. لكني تحيّرت عن أي شيء أتكلم. هل أسرد ما سمعته عن العلاقة بين المتزوجين، وخلافاتهم؟ أم أحكي عن خصومات الحموات والكنات؟ أم أستعيد مواقف الآباء من الأبناء، والمشادات التي تقوم بينهم؟ أم أفشي أسرار الصفقات التي تتلاعب بأقوات المواطنين، وتبيع خيرات الوطن؟.

فكرت، فوجدت أنّه ليس لي مصلحة في كسب عداوة الناس. فأنا غريب، وعلى الغريب أن يكون أديبا.‏

لذا، سأكتفي بالحديث عن صديقي فارس، وعن أسرته. عن أحلامه وحبه.‏

خشبي مستورد من كندا. نجَّروني، لمّعوني وعلّقوا على خاصرتي مقبضاً ذهبياً، ثم أتوا بي إلى هذه الشقة التي تعيش فيها أسرة لا أعرف عنها غير ما التقطته أذناي من أحاديث متفرقة عن ذكرياتهم، يتداولونها بين الفترة والأخرى. انتقلت الأسرة إلى هذه الشقة منذ عامين، بعد أن استملكت أمانة العاصمة بيتهم وبيوت جيرانهم وأدخلتها في منطقة تنظيم المدينة.‏

وجودي على مدخل غرفة فارس التي تتوسط الشقة، يتيح لي أن أتابع ما يجري حولي وأسمع كل حديث يقال. لكن المدهش والممتع في هذه الشقة قليل. والأيام فيها كئيبة رتيبة، رتابة الدوام في المؤسسات الرسمية لا تجديد فيه ولا تلوين.‏

في الصباح، يخرج الجميع إلى العمل، وفي المساء يعودون. والد فارس رجل في منتصف العمر. وإذا أردتم أن تعرفوا عنه أكثر، فهو طويل القد، هادئ الطبع، ويرأس الدائرة القانونية في مؤسسة اقتصادية. يحب رياضة المشي وقراءة كتب التاريخ. ووالدة فارس تختلف عن زوجها شكلا ومضمونا. في قدها قصر وبدانة، ولا تهوى غير مشاهدة التلفاز. أمّا زهرة البيت الوحيدة فارس، فقد ورث طول القامة عن والده وجمال الوجه عن أمه. هو في الثالثة والعشرين من عمره، مجاز في علوم الجيولوجيا ويعمل في شركة تصنع المنظفات المنزلية.‏

غرفة فارس، بسيطة الأثاث مثل بقية غرف الدار. من سقفها تتدلى ثريا صغيرة محلية الصنع، ترش نورها الأصفر على سرير مفرد، ومقعدين من الجلد الأسود، وجهازي راديو وتسجيل، وهما أغلى ما يملك. بواسطتهما يستمع إلى أغاني فيروز. ويعرف ما يدور حوله. فارس مشغوف بالسياسة، يقلقه ما يجري في هذا الكون المجنون، ويتعسه موت الناس بلا ثمن. البارحة طاش حجره لاعتقال بعض الشباب في الأرض المحتلة، ولموت أطفال العراق لنقص الأدوية والغذاء، بينما العالم يقف متفرجا بلا حراك. متعبة أفكار فارس وأحلامه، لكن وجود أروى في حياته يضيف إليها نكهة ومتعة.‏

أو ل مرة رأى فيها أروى جارتهم في الشقة المجاورة. وجدها أصغر سناً من أن تلفت نظره. لكنه بعد عدة أشهر وجدها قد كبرت فجأة ووجد نفسه قد أحبها.‏

البارحة كان ينتظر حضورها لتعيد له كتاباً استعارته. كان يبدو عليه التوتر، عيناه مثل آلة تنظر إلى الساعة لحظة وإلى الباب لحظة أخرى.‏

عندما انفرج الباب الخارجي عن قامة أروى، صار فارس طفلاً لا يعرف كيف يهدأ ولا كيف يجعل أصابعه تستقر في راحة كفه. نأو لته الكتاب وقدمت له باقة نحيلة من ورود أرجوانية صغيرة ذات قلب أسود. كاد يصرخ ملء الدار، أحبك، أحبك. خجله أسر الصوت في حنجرته. أجلسها بعد إلحاح في غرفة الزوار، وأجلس جسده على مقعد قريب منها. كانت روحه تحوم حولها، تلتقط ذرات تنفسها. وكانت عيناها تبتلع منظر يديه المضطربتين وتشرب تفاصيل وجهه الوضيء.‏

لفته هزة من رأسه حتى أخمصه. وضع يديه خلف رأسه، خوفاً من أن تتحركا وتلمساها، حرصا عليها من أن تتجرح، فهي نورانية مثل ملاك، شفافة مثل بلور نقي.‏

في ذلك المساء امتطى فارس صهوة أحلامه وانطلق بها بعيداً، وكعادتي انطلقت معه. وأنا مفتوح الأجفان، إلى أن ترجل فارس عن صهوته ونام.‏

* * *‏

وفد النهار على فارس مبكراً، والشمس ما تزال وراء الأفق. بدا مهموماً. جلس فوق سريره يحملق في الفراغ، ويفكر في أروى، وفي مستقبله معها.‏

يشعر بالضياع. الأرض رجراجة تحت قدميه. يحدث نفسه: ما جدوى العلم وما نفع الطموح، والمال هو الذي يقرر مصائر الناس؟ رفضني أهل أروى لأني لا أملك مالاً ولا شقة، متناسين كل ميزاتي الأخرى!. لا مناص من السفر إلى دبي للعمل، وجمع مهر أروى. لكن كيف السبيل إلى إقناع والديه؟‏

* * *‏

أطفأ فارس ضوء الثريا، واتكأ إلى حافة النافذة الباردة، ساهراً يقاوم بعينيه الظلام. طالت رحلته في صدره، أتعبه الدوران في فلك المستقبل. أتعبه التفكير في أبويه وفي ردود فعلهما، عندما يعلمان بعزمه على السفر.‏

مشاعر صعبة تموج في دواخل فارس. إنه يتخبط على مفرق طرق. لا يعرف ماذا يختار ولا أين يتجه؟ أيسافر ويحقق لنفسه كسباً مالياً يمكِّنه من الفوز بأروى؟ أم ينساق مع عواطف أبويه ويبقى مراوحاً في مكانه؟‏

يشعر فارس وهو يزرع خطواته في أرض الغرفة، بالأشياء تنزرع في رأسه، وتدفعه إلى تلمس مستقبل جديد في دبي.‏

* * *‏

عقارب ساعة الحائط الكبيرة التي ورثتها أم فارس عن والدها. تدق معلنة انتصاف الليل. نوَّاسها النحاسي يدق على باب عقلي، يصفع وجهي كي استيقظ من حزن قلبي. فارس سيغادر بعد ساعات، وأنا سأبقى وحيداً. ابتلع الضجر إلى أن يعود. فبعد اليوم لن يكون هناك موسيقى تؤنسني، ولا همسات عشاق تسعدني، ولا صهوة أحلام أمتطيها. لكني، لن أنسى أن أقول لكم: أنني سأبقى دوماً بانتظار فارس، وفاتحاً ذراعي لاستقباله