العين المعدنية البيضاء

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : رياض خليل | المصدر : www.awu-dam.org

...

جلسنا على طاولة خشبية مستديرة، مواجهةً جلسنا، اخترنا الزاوية الجنوبية الغربية، واجهتها البلّورية تسمح لنا بإطلالة..على مدى واسع.‏

خيوط الشمس تلوّح مودّعة النهار المرهق.‏

قِلّةٌ من الروّاد تبعثروا حول عدد من الطاولات، كانت الردهة فسيحة، طاولات وكراسيّ كثيرة تنتظر بملل وصمت.‏

بين الفينة والأخرى تتصادم عيون الرواد... ولا يمكن الجزم.. إن كان هذا يحدث مصادفة، أو عن قصد.‏

الندل يتحركون كالدمى، بينما الطاولات والكراسي تظل ساكنة.. مسترخية.‏

أحدهم يصفق. نادل يفهم المعني. يسرع... يعطي أذنه للزبون. الزبون يصب في أذنه كلاماً. النادل يدون الطلبات على صفحة من دفتر صغير في يده. ثم ينتصب...يتراجع. يدور. يمضي. الزبون ليس وحده. معه رجل ذكر...وامرأة مستهلكة، إنهم ثلاثة. بينما نحن اثنان. أنا... وهي.‏

الثلاثة مجاورن لنا. لقد استقرت طلباتهم على سطح الطاولة. وأخذوا يغازلون الطعام وهم. يتحدثون ويبتسمون.‏

الرجل الذي صفق. كان يختلس النظرات إلينا، وبتحديدٍ أدقّ...إليها هي.. التي تجلس مواجهتي تماماً.‏

كانت تبادله النظرات.. والابتسامات المقنّعة، وكان الرجل ذا ملامح مذكّرة، والكرسي الذي يجلس عليه لا يبعد عن طاولتنا سوى بضع خطوات.. ثلاثة أمتار تقريباً.‏

هي لاحظت أنني ضبطتها.. حاولت التملص بالقول:‏

- كم هو وقح!!‏

ثم ابتسمتْ بشفتيها.. وعينيها معاً.‏

من جهتي تنكرت باللامبالاة.‏

منذ شهرين كنت أعتقد أنها تلائمني، وترضي ذوقي. كان إعجابي بها يذوب إثر كلّ لقاء.. وكانت صورتها تتغير... وتخسر ألوانها. هرب الرونق من وجهها.. فبدا جافاً...مستهلكاً..‏

هي تأففت. طقطقت بإبهامها وسبابتها، النادل فهم الإشارة هرع إليها. أمرته:‏

- غيّر هذه الموسيقى الميتة.‏

- تريدين أغنية محددة؟!‏

- أي شيء يرقّص‏

- أمرك‏

انزعجت. تذكرت الأشياء التي تحبها هي، والأشياء التي أحبها أنا. كنت أعدد لها فتشمئز، وكانت تعدّد لي فأغضب. لم يَرِدْ اسمي مرةً في لائحة ماتحب، وكان اسمها يمّحي في لائحة ماأحب.‏

كانت تتذمّر، وتنتقدني، إذا أهديت إليها وردة، أو شمعة، أو كتاباً، وتصخب فرحاً إذا قدمتُ لها فستاناً أوقطعة حليّ ثمينة...أو مبلغاً من المال.. أو إذا دعوتها إلى سهرة في مكان كالذي نحن فيه الآن.‏

كنا نتحدث طويلاً... وكان الحديث يتكرر...كما تتكرر هي...والآن يبدو لي أن الكلام قد تبدد، وفقد وظيفته.‏

سال المساء على صفحة الأفق، وطمس المدى الفسيح خلف الواجهة البلورية اللامعة.‏

على الطاولة... جارتنا، كان الرجل شبه المذكر يوجّه كلاماً للمرأة، المرأة تهزّ رأسها...تضحك...تلتفت إلينا.. بل إليها هي.. إلى التي تجلس قبالتي، الرجل الآخر على الطاولة نفسها بدا حيادياً.‏

المرأة ليست حيادية، إنها تثير اشمئزازي. بدينة، قصيرة، قصة شعرها تشبه قصة شعر الرجل. وعمرها حسب الظاهر في الخمسينات.‏

كثفت التجسس...لاكتشاف المؤامرة الجديدة..‏

هاهي (أقصد التي معي) تهرّب نظرة مستسلمة مصحوبة بابتسامة حذرة للرجل شبه المذكر...ثم تنقل نظرتها وابتسامتها نحوي...وتراوغني مغازلة؟‏

- حبيبي...‏

نهضتُ بذريعة التعب من الجلوس. تمطّيتُ. تنقَّلَتْ ساقاي في المكان الضيق حول الطاولة، تفحصت الأشياء والمواقع. ثم اتخذت مجلسي بشكل مغاير... صرت إلى جانبها. أعطيت ظهري لجارتنا: أقصد الطاولة المجاورة، التي يجلس حولها الرجلان والمرأة، وأعطيت وجهي وعينيَّ للبلّور...الذي فهم خطتي، وكتم السرّ.‏

ازداد المشهد وضوحاً، هي اطمأنت، فراحت عيناها تلعبان بحرية أوسع. تذكرت العبارة التي طالما تستفزني بها: "الطريق إلى قلب الأنثى عينها"..‏

ولكن عينها -(أقصد التي تجاورني)- كالبلّوعة!‏

البلّور يقدم تقريره بالصورة الصامتة ... و... بصدق.‏

داخل البلّور لم أجد لنفسي مكاناً، كان الرجل شبه المذكر يجلس في مكاني بالضبط. وجهه يكاد يلصق بوجهها، عيناها تعانقان عينيه!؟‏

كفي تعتصر شوكة طعام معدنية باردة بينما الحريق يلتهم مافي داخلي.‏

الآن! استوعبت كلام النادل... حين ادعيت الرغبة في قضاء حاجة. انتحيت بالنادل هناك...عند المراحيض. وضعت فمي في صيوان أذنه العميق، بعد أن كبست كفه بالمعلوم. قال:"هي أعطتني أكثر"... أعطيته المزيد. فتحرر لسانه. استطال أخذ يلعب...ويرسم القصة بمهارة...وموهبة:‏

"تعرفه. يلتقيان هنا. تدفع عنه الفاتورة"‏

هنا؟! وربما على الطاولة نفسها، والكرسي نفسه الذي أجلس عليه، النادل صادق. البلور صادق. إنه يجلس معها في مكاني تماماً، على الكرسي نفسه!‏

لقد فهمت الآن، لماذا لحقت بها المرأة الخمسينية ذات مرة.. إلى المراحيض، في هذا المكان نفسه..‏

الشهران يحتشدان في رأسي، بكل مافيهما، أستطيع الآن أن أفهم كل ماتقوله وتفعله.. (أقصد التي معي). الآن أعرف لماذا ومتى تبكي وتضحك، ولماذا عيناها تلعبان وتتأرجحان في كل اتجاه.‏

لقد احتملت...وصبرت طويلاً..لم يبق فيها سوى الأشواك والمرارة والرائحة النتنة...‏

يدي تضغط على الشوكة المعدنية الباردة، ذات الأسنان المدببة، عيناي تصوبان على بؤرة عينيها، اللتين زالت فيهما الألوان، سوى البياض المخيف.‏

والشكل المحدودب. بدتا كبيرتين جداً.‏

كالصدى تقرع في رأسي العبارة التالية:‏

عينها بلّوعة... بلوعة... بلوعة....‏

الحريق يستفحل في جسمي.. يدي تمسك الشوكة بثبات أسنان الشوكة تلتمع..عيناها تجحظان وتجمدان تماماً وعيناي تصوبان بدقة. يدي ترتفع.. ترتفع.. ثم تهوي بالشوكة الغاضبة على عينها اليمنى، ثم اليسرى...الشوكة ترتد كالنابض عن عينيها، الشوكة ترتجف كأنها تصطدم بكرتين فولاذيتين. أسنان الشوكة تلتوي، تئن ألماً... فيما عيناها ظلتا جامدتين.. سليمتين من أي خدش خفتُ.. ابتعدت هارباً.. وقبل الخروج نظرت ورائي.. لم أجد من يلاحقني، امتدت عيناي إليها.‏

كانت لا تزال تجلس.. إلى الطاولة.نفسها. لكنها لم تكن وحيدة... كانت تضحك بشهوانية، وكان الكرسي الذي كنت أجلس عليه قد استبدل بي الرجلَ شبه المذكر