بخطا رتيبة نمضي

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : وصال سمير | المصدر : www.awu-dam.org

 

ولكن.. هل سأخدع مرة أخرى؟...‏

أعاد تلك العبارة، واجترها بلذة كبيرة.. وقد ارتسم صدى معناها على قسمات وجهه.. زمّ شفتيه وبدا الإصرار واضحاً على سحنته.. ظهر عليه التردد والانفعال، فتضرج وجهه بلون قرمزي.. وهو يقطع المسافة الصغيرة عشرات المرات.. تلك المسافة التي تفصله عن مكان اللقاء.‏

لم يكن مجبراً على هذا الموعد.. بل اختاره بملء ارادته.. وكأنه يمارس هواية خفية، يعذب بها نفسه، يذيبها، وهو يمارس تجارب فاشلة مكرورة.‏

أيذهب إليها الآن.. أم يرجع إلى بيته؟‏

هي.. تنتظره منذ عشر دقائق.. ولكن.. هل عشر دقائق طويلة.. فليجعلها أطول، ليدرك مدى حرصها على لقائه.‏

تابع طريقه بخطا مضطربة، فتارة يسرع في خطواته، وتارة أخرى يتئد، ويعود إلى حركات رتيبة.‏

مرات ومرات، قاس الطريق، وهو يتأمل واجهات المخازن المصطفة بعناية على جانبي الشارع، تضيئها مصابيح ملونة تتبادل بينها الأدوار، فحين يطفأ عدد منها تحل مكانها مصابيح أخرى.‏

تأمل الرصيف الرمادي، وغرز نظراته في أحجاره المربعة.. محاولاً عدّها.. اقترب أكثر من مرة من المطعم الصغير القابع في زاوية منعزلة من الشارع العريض. وقد اختاره من بين مئات المطاعم الموزعة على أنحاء المدينة.‏

مدينة سياحية.. همس في سره. ولماذا لا تكون كذلك؟ والسياحة مصدر كبير للرزق.‏

ولكن.. من يستفيد من تلك الأموال؟.. علق السؤال في طرف حلقه، وأحس أنه ممجوج.. بلعه.. ولكنه شرق بريقه.. فأصابته نوبة من السعال..‏

أراد أن يشرب ماء.. ولكنه لم يجد أمامه سوى بائع العصير.‏

-حسن إذن.. سآخذ كوباً من عصير البرتقال، لأطلب كأساً من الماء.. ولكن كوب الماء أولاً..‏

وحين ناوله النادل الماء المتلألئ في الكوب اللامع.. دلقه في حلقه.. وهو يتنفس الصعداء.‏

أحس بالراحة، وهو ينتظر كأس العصير وحين صارت في قبضته العريضة، بدأ يرتشف ما فيها قطرة إثر قطرة.‏

أعجبته وقفته، وهو يسند ذراعه اليمنى على طرف المصطبة الرخامية النظيفة.. التي يفوح منها ضوع مواد التعقيم.‏

نسي الموعد، وهو يتأمل وجوه كل هؤلاء، الذين جاؤوا ليشفوا ظمأهم في هذا المكان الصغير..‏

بدأ ينقل نظراته الملتهبة، بين صفوف الفاكهة المعروضة بإتقان في أرجاء الدكان والمرصوفة على الرفوف العريضة المحيطة بثلاثة جوانب من هذه الزاوية الضيقة.‏

أحس بالندم، لأنه لم يتناول كأساً من "المانجو" قال بحسرة:‏

-المانجو ألذّ من البرتقال.‏

عاد من جديد، ليقيس الرصيف المؤدي إلى المطعم، لم يتراجع في هذه المرة.‏

بل تقدم بخطوات بطيئة من السلم المؤدي إلى الطابق الأول من البناء الشاهق والعريض، الذي يضم مئات المكاتب التجارية، ومئات مخازن البيع.‏

من خلال النافذة العريضة، لمحها تجلس في مقعدها، وقد ارتسم القلق على وجهها الطفلي الجميل. فصارت تنقل نظراتها بين محتويات الطاولة الصغيرة.. وبين فتحة الباب العريض.. المؤدي إلى المطعم..‏

وكلما تقدم إنسان، أحست أنه هو..‏

ظل يراقب حركاتها، ويختلس النظر إلى تعابير وجهها، وكأنه يستعذب عذابها وانتظارها.‏

لم لا تمضي إلى بيتها؟.. وقد مضت ساعة كاملة على موعد مجيئه..‏

ألا تشعر بكرامتها؟‏

بل هي خنزيرة لعينة، مثلها مثل الكثيرات من الفتيات.‏

هبط الدرجات بسرعة عجيبة.. سار قليلاً.. ثم ما لبث أن عاد، إلى حيث يراها دون أن تراه.. لماذا لا يعذبها؟ لماذا لا يتلذذ بسحر نظراتها الموجَعَة؟‏

في قلبه، سكنت عيناها الخضروان البديعتان..‏

ماذا تفيدني العيون الحلوة؟ تباً لها.. إنها سبب عذابي..‏

هذا الوجه الصافي كنور الصباح.. إنه ليأسرني.. ولكن.. لن أترك شيئاً يأسرني.‏

راقبها باهتمام وهي تهمس للنادل ببضع كلمات.. ثم تروح في شرود طويل.. وكأنها تأكدت من أنه لن يأتي.‏

شربت كوباً من الماء.. ثم أخذت قطعة من "التوست" ودهنتها بالزبدة المستوردة.. وبدأت تأكلها ببطء شديد. أيفاجئها بدخوله.. بعد طول انتظار؟ أم يظل يراقبها، ويملأ عينيه من سحرها دون أن تراه..‏

أعجبته تلك الفكرة.. فتسمر في مكانه، يتابع حركاتها وهي ساهمة في ظنونها وحيرتها.‏

نظرت إلى الساعة الكبيرة ذات العقارب الملونة.. المعلقة على الجدار العريض.. الموشى بالرسوم.. والتحف الفنية.. ثم انتقلت بنظراتها إلى ساعة يدها الذهبية.. التهمت الوجبة المختصرة بسرعة.‏

قطّبت جبينها الناصع والعريض.. رفعت خصلات شعرها بأصابعها البيضاء النحيلة.‏

تدفقت الدماء إلى وجنتيها، التمعت عيناها..‏

دفعت الحساب تاركة "البقشيش" في قائمة الطعام المطوية أمامها.. وحين همت بالمغادرة، اختفى في مدخل البناء.. لقد انتصرتُ.. -هاجمته موجة من الكبرياء-‏

هذه هي المرة الأولى، التي انتصر فيها على نفسي.. فهذه الفتاة لن تختلف عن الأخريات اللواتي عرفتهن في السنوات الماضية.‏

خمساً وثلاثين سنة، قضيتها على هذه البسيطة لم أحقق فيها شيئاً من النجاح.‏

لم أستفد من شهادة الهندسة.. ولم أربح من تفوقي الدراسي.‏

ماذا تفعل الهندسة؟ وماذا تفيد الشهادة؟ لا أملك بيتاً.. لا أملك غرفة واحدة، أتقاسمها مع أي فتاة في هذا العالم.‏

كل واحدة منهن، كانت تتركني دون استئذان حين تدرك بغريزتها أنني لا أستطيع الاقتران بها ولا تكتفي بتركي.. بل تصمني بكلمة "خائن".‏

أقسم.. بأنني لست خائناً، وأقسم بربي أنني لا أحب الخيانة..‏

ولكن.. ماذا أفعل؟‏

أنا عاجز.. عاجز لدرجة القهر..‏

أأبكي كما تبكي النسوة؟ إنه لأمر يحيرني.. أبي عاجز أيضاً، لا يستطيع مساعدتي.. وأمي أيضاً.. كل يوم، ألمح نظرات الأسى، ترتسم في عينيها حين أودعها في الصباح، وحين أرجع مساء إلى البيت.. نادتني أمي ذات يوم قائلة: متى ستتزوج يا بنيّ؟ فالعنوسة ليست وقفاً على المرأة.. الرجل يصبح عانساً أيضاً.. حين تظهر التقطيبة على سحنته.. إنك لا تكاد تلقي علينا التحية.‏

لم تسمع أمي الجواب.. ولن تسمعه أبداً.. سيظل أشواكاً في حلقي.. ولكن نظراتي أفصحت عما في نفسي وكأنني أعاتبها قائلاً لها:‏

أأنت أيضاً يا أمي.. ألا تدركين معاناتي؟..‏

والآن انتصرت..‏

لن أخدع بعد اليوم أحداً..‏

رأيت فتاتي، وهي تسير على الرصيف بخطوات واسعة.. تابعت حركاتها، ودمائي تغلي في عروقي.‏

لو شاركتها جلستها، وتقاسمت معها طاولة واحدة، ماذا أستطيع أن أتحدث معها؟ ليس هناك أي حديث مشترك.. لا أحلام لدينا، لا آمال، ولا وعود. سرت في الاتجاه المعاكس.. الدموع ملأت عيني وقلبي.. واليأس كاد يقتلني.‏

وحين وصلت إلى منزلنا الضيق، المختفي في ذلك الزقاق المظلم، فتحت نافذة غرفتي الملتصقة ببيت الجيران..‏

لمحت فتاة لطيفة، تقف أمامي في النافذة المقابلة.. تسمرت لحظات، ثم ما لبثت أن غادرت النافذة، وأغلقت رتاجها، اختفيت في زاوية الغرفة، وأغلقت الباب من الداخل..‏

كنت أغلي.. كنت أفور كبركان هائج.. أو كثور مجنون..‏

ركزت المسدس على صدغي الأيمن.. وحين حاولت ضغط الزناد، سمعت صوت أمي يناديني، ويهتف بلهجة حنون..‏

تعال يا بنيّ!! نحن ننتظرك على العشاء