البطر

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : وصال سمير | المصدر : www.awu-dam.org

الخريف العبق بألوانه، كان قد أرسل سحره الخفي فتسلل إلى روحي وقلبي، وإلى أمكنة النشوة في خلاياي.. فأحسست أنني خفيف ورشيق، وعدت بسنوات عمري أعواماً إلى الوراء.‏

جاء وكانت عقارب الساعة تقارب الثانية عشرة ظهراً.. وكنت قد بدأت عملي في الساعة الثامنة صباحاً.. ولم أنجز سوى جزء يسير منه.‏

وحيداً كنت مع نفسي، غارقاً في الحال التي صنعها هذا الفصل الرائع، الذي أدمنت عشقه.‏

وحين صافحني، لمحت اكفهرار وجهه.. وصدمتني هالات زرقاء قد أحاطت بعينيه..‏

للمرة الأولى، أراه على هذه الحال.. وتساءلت عما جاء به إلى مكتبي في هذه الساعة الحرجة.. فما زال أمامي عمل كبير يجب أن أنهيه قبل أن أمضي إلى بيتي..‏

ولما جلس صامتاً.. وقد عقد ساقيه.. وركز غليونه في الجانب الأيمن من فمه.. سألته عما به.. فتمهل قبل أن يقول لي.. تعيس.. تعيس.. وحزين.. بل غارق في الحزن.‏

وحين بدأ يشرح لي آلامه الجسيمة، غدت بشرته السمراء داكنة، وتعصفرت، وكأنها خلت من أي إشراق داخلي نابع عن الروح.‏

رأيت أمامي وجهاً لحمياً صامتاً، ممتلئاً بالشحوم.. وقد تدلّى جانبا خديه حتى كادا يصلان إلى منتصف عنقه.. فأدركت في تلك اللحظة بشاعة اللحم الذي لا يتخلله النور الذي نصنعه بأنفسنا حين تتصل قلوبنا مع السماء.. طالبين منها العون، ونحن نكد ونعمل طيلة النهار كي نجد خبز يومنا.‏

لا أدري من أين أتتني تلك القسوة؟ ومن أين تولدت تلك الساديّة وأنا أراه يبدل غليونه الذي احترق تبغه، بسيجار غليظ من ماركة مشهورة.. فتخيلت عدد الدولارات التي يحرقها كل يوم.. مقابل هذا التدخين.‏

بدا وجهه أمامي أكثر استدارة.. وقد عقد ما بين حاجبيه كمن يحيا مأساة رهيبة.. مما زاد عينيه ضيقا.. فلم أعد أرى أمامي سوى ثقبين ضيقين ممتلئين بما يشبه سواد العين، وانبريت أقول له:‏

-حدثني.. عما بك..؟ لا تطل انتظاري.. لقد أرعبتني.. أحدث شيء خطير لأحد أفراد عائلتك.. أم هل وقعت في محنة؟! ولكنه صعقني.. حين بدأ يحدثني.. شارحاً بإسهاب رتابة الحياة التي يحياها.. فقد ملّ من كل شيء.. وفكر بالانتحار.‏

-أأنت متضايق إلى هذه الدرجة؟؟ نطقت بهذا السؤال متعجباً.. وأجابني بإصرار:‏

-أكثر مما تظن.‏

كان التعب، قد أخذ مني كلَّ مأخذ، وكنت أنتظر انتهاء الدوام لكي أسرع إلى بيتي، أتناول لقمة.. ثم آوي إلى فراشي لكي أتابع عملي في مكتب آخر حتى العاشرة ليلا..‏

فمن أين جاءني هذا الصديق الشاكي ليحدثني عن رتابة الحياة.. وأنا لا يمكن لي أن أفسر هذه الرتابة لأن العمل يشغلني من ساعات الفجر الأولى وحتى آخر الليل..‏

لا أدري.. لم دبت بي حماسة لم أعهدها بي من قبل.. فانبريت أدافع عن الأيام وكأنها جزء مني وقلت بقسوة لم يكن يتوقعها:‏

-إنه البطر يا صاحبي.. نعم البطر" والبطر يعمي النظر". فأنت تملك كل شيء.. المال، والأولاد، والمرأة المطيعة.. والبيت الدافئ والمريح وتملك أيضاً كل ما ملكت يمينك من النساء.. ففي كل يوم لك غزوة جديدة.. فمن أين أتتك الرتابة؟..‏

حملق عينيه غير مصدق.. فقد عهدني دمثا أمضي معه إلى سهراته الليلية.. أسامره، وأحاوره، ونعلق معا على الفتيات اللواتي يجئن للترفيه عنه.. وأقبل أن يدفع الحساب في نهاية السهرة.. لذا قام من مكانه غاضباً وقال لي بألم مصطنع:‏

-حرام عليك.. لماذا تظلمني؟.. والله.. أنا وحيد أحيا في صحراء ليس بها أي واحة.. ولا ينزل بها أي مطر.. خذ كل أموالي.. وامنحني سعادتك.. واعطني هذه البسمة الدائمة التي ترتسم على شفتيك.‏

-أتحسدني على ابتسامتي النابعة من هموم قلبي.. يا لك من أناني.. ورغم كل ما فيك من صفات سيئة، أعترف أنني أحبك.. فصداقة الطفولة لا تمّحي أبداً.‏

وحين استقر من جديد.. عاد وأشعل قداحته الذهبية ليعيد الدفء إلى سيجاره الهافانا؟؟.. عادت إليّ حمى الهجوم وأنا ألمح ذلك الكسل مرتسماً في قاع عينيه.. واللامبالاة الصارخة في حركاته.. فتابعت نصائحي، وكأنني غدوت مربياً عادلاً أمام هذا الطفل الكبير.. الذي بدا كصبي شقي، لعب في الشارع في يوم ممطر.. فبلل ملابسه، وعفر وجهه.. بما لا يحب المربي ولا يرضى لذا قلت بإصرار غريب:‏

-أأعد لك أسماء النساء اللواتي عرفتهن خلال سنة واحدة.. اتق الله يا صديقي.. أغرقت في اللذة التفننية.. فعدت إلى القرون الوسطى، حيث كان ينظر إلى المرأة على أنها مجرد جسد.. فأنت.. ما أن ترى فتاة جديدة، حتى يسيل لعابك.. ويتلبسك الشيطان، فترسل ناظريك في لحمها.. وتنبت لك أنياب.. وتتطاول أظافرك لامتصاص دمائها.‏

-أهذه هي صورتي لديك؟ وهل جئت إليك لتجرحني بلسانك السليط؟‏

-لا هذا ولا ذاك.. ولكنني في الحقيقة أحتقر بطرك -وصديقك يا رفيقي من صدقك -فإن سحنتك أثارت حفيظتي في هذا الصباح الجميل.. انظر إلى الكون من حولك.. تره ما زال جميلاً.. وبألم شديد، وضعف أشد، سحب كلمات من فمه ليقول لي:‏

-لقد ظلمتني ظلماً شديداً.. وأنت حتى الآن لا تعرفني..‏

-قل ما تشاء.. فلن أحاسبك على أقوالك.. فالفراغ يكاد يقتلك.. وأنت تبدل سيارة بأخرى وامرأة بأخرى.. ابحث لك عن عمل يريح أعصابك- اتعب جسمك يسترح عقلك-‏

-أتعطيني دروساً في الحياة.. أهذه هي خاتمتي؟‏

-البطر.. ها أنذا أعود إلى المعضلة..‏

لم أرك مرة إلاّ حزينا، نلت شهادتك الجامعية، ولم تعمل بها، وحولت مزرعتك الواسعة إلى مكان للاجتماع بالنساء..‏

-ولكنك تشاركني معظم غزواتي..‏

-أنا لا أشاركك سوى جزء من حياتك البريئة.. فحبي لك يدفعني لمسايرتك.. أما نساؤك فهن لا يشغلنني أبداً.. فزوجتي في البيت تنتظرني دائماً.. وقد اخترتها حبيبة بملء ارادتي.. فابحث يا صديقي عن حب كبير يملأ فراغ حياتك.. ولتشرف على العمال الذين يشتغلون في حقلك.. عندئذ لن تشكو من رتابة الحياة.‏

ولما لاحظت الامتعاض والضيق قد نبتا في وجهه المسود، الذي تقلصت عضلاته.. أشحت بوجهي عنه خجلا.. وتوقفت عن الهجوم لإيماني الداخلي بأنه يحمل في صدره قلباً نقيا.. ولكنه الفراغ.. يملأ قلبه حسرة. هذا الفراغ الذي يحاول أن يملأه بالنساء وعالم النساء..‏

وهذا الدواء لا يشفي عليلا.. ( )آلمني منه.. إصراره على إغواء المحصنات من النساء..فما أن يجد فتحة في سور بيت ما حتى يخترقها وينفذ إلى حدائقها مستخدماً كل ما يملك من وسائل.. يحيا- مع تلك المخدوعة بلسانه العذب- يوما أو ربما يومين ثم يمضي إلى أخرى.‏

-أنت معقد يا صديقي.. فأنت تغار مني.. لأنني أملك كل شيء، وأنت لا تملك شيئاً.. الآن فهمتك.. وفهمت غضبك كلما رأيتني مع نساء جديدات..‏

-فلتقل ما تشاء.. ولتصفح عما تشاء.. والآن لقد شغلتني عن عملي.. وها أنذا أطوي أوراقي لأذهب إلى بيتي، فليلعنك الله.. لأنك عكرت صباحي الجميل..‏

بأن الغضب الشديد على وجهه.. فازداد سواده وغدا قاتماً كليلة معتمة وقال بتحد ونزق:‏

-أمن أجل تلك الإهانات جئت إليك؟.. أتشتمني في مكتبك؟ أتنسى صداقتي لأنني شكوت إليك حالي؟‏

-إن كنت قد فهمت هذا من أقوالي.. فلتذهب إلى الجحيم..‏

كاد ينفجر من الغضب.. حمل كيس تبغه.. ووضعه في حقيبة جلدية فاخرة.. ثم رتب سجائره "الهافانا" ببطء شديد.‏

ثم نهض من مقعده بعنف.. وغادر المكتب قبل أن يودعني، وقد أدار ظهره لي.. ثم خرج، وصفق الباب وراءه صفقة شديدة.. أحسست بنور يتسلل إلى قلبي.. وبراحة شديدة.. نابعة من ضميري.. وهتفت بنشوة:‏

أخيراً.. قلت كلمتي دون أن أخشى غضب صديقي..‏