تكريم

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : ابراهيم خريط | المصدر : www.awu-dam.org

استقبل نبأ تكريمه بدمعة فرح، فاختلجت جوارحه، وتأججت عواطفه، وتلجلج لسانه قائلاً لزوجته بسعادة طفل:

-ألم أقل لك إن بلدي لا ينسى أبناءه أبداً. وأنا لم أخطئ، منذ ثلاث سنوات، عندما اتخذت قراراً بالعودة إلى مدينتي... كنت تقولين، بعد أن نلت شهرتي في الغربة، وبعد أن ترجمت مؤلفاتي، وكرّمتني جهات عدة: لا كرامة لنبي في بلده، فلماذا نعود؟!‏

صحيح أن التكريم تأخر عقوداً من الزمن، وصحيح أن أحداً لم يطرق بابي. ولم يسأل عني إنسان، منذ عودتي.. إلا أن هذا لا يعني أن بلدي وضعني على الرف وأهملني.‏

في يوم التكريم.. جاء يحمل على كاهله أعباء سبعين عاماً وسبعين كتاباً في الشعر والدراسة والنقد.. استقبلته لجنة التكريم، وقادته إلى الصالة الكبيرة.‏

كانت المقاعد الأمامية فارغة، ومع هذا قال له رئيس اللجنة: عندما همّ بالجلوس في الصف الأول:‏

-عفواً.. هذا للمسؤولين.‏

-لكنه فارغ..‏

أجاب مبتسماً: يأتون متأخرين، عادة.‏

انتقل إلى الصف الثاني. فسارع إلى القول:‏

-هذا محجوز أيضاً.. لرؤساء الأقسام.‏

سأله عن الثالث قبل أن يجلس، فأجابه:‏

-وهذا للمنظمات ولجنة التنظيم والإشراف. اجلس في الرابع.. هو والصفوف الأخرى للجمهور. خذ مكاناً قبل أن تمتلئ المقاعد.‏

قال له ذلك، وهرع إلى الباب لاستقبال ذوي المناصب، حينما أعلنت أبواق الدراجات النارية عن وصولهم.‏

بعد نصف ساعة من التأخير، رحّب عريف الحفل بالضيوف الذين شرّفوا الاحتفال بحضورهم... ذكر مناقبهم وصفاتهم، وعدد إنجازاتهم وشكرهم على تكرّمهم بالمجيء، مضحّين بوقتهم الثمين وراحتهم.‏

ثم أ شار بكلمة مختصرة -نظراً لضيق الوقت- إلى الكاتب الكبير الذي كان مهملاً حتى هذه اللحظة. فنظرت العيون في أرجاء الصالة باحثةً عنه دون أن تهتدي إليه.‏

في نهاية الحفل، وزعت الهدايا التذكارية.. فضية وبرونزية للمسؤولين الذين أقيم التكريم برعايتهم، ومالية لأعضاء اللجنة، شهادة تقدير ووردة ملفوفة بورق شفاف وشريط أحمر للكاتب الكبير.‏

ثم شكرهم عريف الحفل مرة أخرى، ودعاهم إلى قاعة الاستقبال، حيث تناولوا الحلوى والفواكه والمرطبات.‏

قبل أن يغادروا، سأل أحدهم:‏

-أين الكاتب الكبير؟ لا أراه بيننا.‏

-قال آخر: يبدو أنه خرج مع الجمهور.‏

أضاف ثالث: لقد نسيناه تماماً... كيف حصل هذا؟.‏

لم يبحث عنه ولم يتبعه أحد. بل اكتفوا بإعلان أسفهم لغيابه واحتفائهم بالضيوف الكبار.‏

في تلك الساعة.. كان الكاتب يقف على رصيف الشارع، يلف جسمه النحيل بمعطفه، اتقاء البرد والمطر... في حلقه غصّة، وفي ذهنه سؤال: هل كانوا يكرمونني حقاً؟! سبعون عاماً وسبعون كتاباً، وهذه الشهادة الورقية والوردة فقط!!.‏

لم يمتلك بيتاً أو سيارة، يعيش على راتبه التقاعدي، ويشدّ الحزام على بطنه الضامرة.‏

طوى الشهادة ودسّها في جيب معطفه... نزع الشريط الأحمر والورق الشفاف عن الوردة.. قرّبها من أنفه.. لا رائحة لها أبداً، فقد كانت وردة صناعية