مشكلته الكبرى هي النسيان.. هذا الداء الذي أصيب به منذ أن اعتلى الكرسي الدوّار، وصار في مكتبه الجديد جهاز تكييف، وتلفزيون ملون. وعلى بابه حاجب لا يسمح لأحد بالدخول إلا بموعد مسبق. ينسى الوعود التي قطعها للأصدقاء القدامى، وينسى رفاق الطفولة، وأبناء العمومة والجيران، وزملاء الدراسة، وينسى المواعيد التي يحددها لمقابلة ذوي الحاجة وبسطاء الناس.. وينسى تلبية دعوات المحاضرات والأمسيات الأدبية.. وإذا ما سمع كلمة عتب لطيفة، ينفخ صدره ويكرر قائلاً: -وقتي ليس ملكي.. مهماتي صعبة، وأعبائي كبيرة. لا أنام من الليل سوى ساعة أو ساعتين. ويشير بيده إلى عينيه الناعستين المحمرتين، ويضيف: هذا من طول السهر. وحقيقة الأمر أنه يسهر كثيراً.. ولا ينام قبل طلوع الفجر أما أين يسهر وكيف، ومع من، فهذا لا يجوز السؤال عنه. وهو يتباهى بنسيانه.. فقد قرأ مرّة أن الرجال العظام ينسون الأمور الصغيرة لانشغالهم بما هو أهم وأعظم.. لذلك كان ينسى أو يتناسى قاصداً، فهذه أصول اللعبة التي تناسب منصبه الجديد. ذات يوم.. زاره صديق قديم، باعدت بينهما الأيام، فقد اختار كل منهما طريقه.. تردد مرات عديدة قبل أن يقف على بابه. تذكر ما قاله له يوماً.. أنت خيالي، مثالي أكثر مما يجب، التنظير شيء والممارسة شيء آخر.. سوف تحتاجني وتطرق بابي يوماً ما. عرض عليه قضيته.. فدوّن بعض الملاحظات، وقال له: -مع ذلك.. لا تنسَ أن تذكّرني. وقبل أن يخرج الصديق من مكتبه، قال: -بهذه المناسبة، واحتفاء بمنصبكم الجديد.. أنت مدعو عندي في البيت.. حدد الموعد متى أردت. قلّب أوراق دفتر المواعيد، وقال: -أقبل الدعوة.. ولكن ليس قبل عشرة أيام. -دونها لئلا تنسى. -لا.. لن أنسى. في اليوم العاشر، كان يدق الباب، ويقول له مبتسماً: -جئت في الموعد. لم أنس.. وعلى المائدة العامرة بأصناف الطعام والشراب، سأل الصديق ضيفه بتردد وخجل: -ماذا صار بقضيتي؟ فغر فمه وسأل: أية قضية؟! -التي قصدتك من أجلها.. ألا تذكر؟! ضرب بيده على جبينه وقال: - يا عزيزي أنا آسف. لقد نسيتها تماماً.. لماذا لم تذكرني بها؟! -ذكّرتك بها مراراً.. كل يوم. -عجيب.. حتى هذه نسيتها. ألم أقل لك إنني صرت أنسى؟!
مشكلته الكبرى هي النسيان.. هذا الداء الذي أصيب به منذ أن اعتلى الكرسي الدوّار، وصار في مكتبه الجديد جهاز تكييف، وتلفزيون ملون. وعلى بابه حاجب لا يسمح لأحد بالدخول إلا بموعد مسبق.
ينسى الوعود التي قطعها للأصدقاء القدامى، وينسى رفاق الطفولة، وأبناء العمومة والجيران، وزملاء الدراسة، وينسى المواعيد التي يحددها لمقابلة ذوي الحاجة وبسطاء الناس.. وينسى تلبية دعوات المحاضرات والأمسيات الأدبية.. وإذا ما سمع كلمة عتب لطيفة، ينفخ صدره ويكرر قائلاً:
-وقتي ليس ملكي.. مهماتي صعبة، وأعبائي كبيرة. لا أنام من الليل سوى ساعة أو ساعتين.
ويشير بيده إلى عينيه الناعستين المحمرتين، ويضيف: هذا من طول السهر.
وحقيقة الأمر أنه يسهر كثيراً.. ولا ينام قبل طلوع الفجر أما أين يسهر وكيف، ومع من، فهذا لا يجوز السؤال عنه.
وهو يتباهى بنسيانه.. فقد قرأ مرّة أن الرجال العظام ينسون الأمور الصغيرة لانشغالهم بما هو أهم وأعظم.. لذلك كان ينسى أو يتناسى قاصداً، فهذه أصول اللعبة التي تناسب منصبه الجديد.
ذات يوم.. زاره صديق قديم، باعدت بينهما الأيام، فقد اختار كل منهما طريقه.. تردد مرات عديدة قبل أن يقف على بابه. تذكر ما قاله له يوماً.. أنت خيالي، مثالي أكثر مما يجب، التنظير شيء والممارسة شيء آخر.. سوف تحتاجني وتطرق بابي يوماً ما.
عرض عليه قضيته.. فدوّن بعض الملاحظات، وقال له:
-مع ذلك.. لا تنسَ أن تذكّرني.
وقبل أن يخرج الصديق من مكتبه، قال:
-بهذه المناسبة، واحتفاء بمنصبكم الجديد.. أنت مدعو عندي في البيت.. حدد الموعد متى أردت.
قلّب أوراق دفتر المواعيد، وقال:
-أقبل الدعوة.. ولكن ليس قبل عشرة أيام.
-دونها لئلا تنسى.
-لا.. لن أنسى.
في اليوم العاشر، كان يدق الباب، ويقول له مبتسماً:
-جئت في الموعد. لم أنس..
وعلى المائدة العامرة بأصناف الطعام والشراب، سأل الصديق ضيفه بتردد وخجل:
-ماذا صار بقضيتي؟
فغر فمه وسأل: أية قضية؟!
-التي قصدتك من أجلها.. ألا تذكر؟!
ضرب بيده على جبينه وقال:
- يا عزيزي أنا آسف. لقد نسيتها تماماً.. لماذا لم تذكرني بها؟!
-ذكّرتك بها مراراً.. كل يوم.
-عجيب.. حتى هذه نسيتها. ألم أقل لك إنني صرت أنسى؟!