الدرس

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : جمال جنيد | المصدر : www.awu-dam.org

أخيراً سأصبح معلمة أصيلة!.

قالت لينا لأمها، وهي تكاد تطير من الفرح..‏

قبلتها أمها... لم يكن لها في الدنيا غيرها. ثم رفعت الأم يديها إلى السماء تدعو لوحيدتها..‏

-حضّري الغداء يا أمي.. سأحضّر درساً لن يعطيه أحد قبلي ولن يعطيه أحد بعدي..‏

-الله يكون معك!..‏

تقف لينا أمام طالباتها. زهرات من كل لون، تؤدي الدرس بثقة وفرح. تصول وتجول على المنصة، تستشف نظرة رضىً في عيني موجه المادة.. و....‏

-مابك يا لينا!.... لِمَ لا تأكلين؟!.‏

تأكل بضع لقيمات، ثم تطير إلى غرفتها كالفراشة..‏

كتاب القراءة أمامها.. النص أمامها.. تتراقص الكلمات أمامها مثل شموع مضاءة في ليلة عيد الميلاد..‏

عصفور في قفص، هرم وهو محبوس، وفجأة قرر صاحب العصفور أن يمنحه حريته...‏

نظر العصفور إلى صاحبه وتساءل:‏

-" لماذا أعطيتني حريتي وأنا عجوز.. ومنعتها عني وأنا عصفور صغير قوي الجناحين أتنقل من شجرة إلى أخرى؟!.. تضع لينا أهداف الدرس..‏

تسطّر.. كل سطر بلون، ترسم. تكتب، تعتصر معلوماتها التربوية التي قرأتها والتي سمعتها...‏

كأنها تركب الآن صهوة جواد أبيض، يسبح بها في سهل فسيح، ينتظرها سمير وسط السهل مرحباً، ضاحكاً، يتلقفها بيديه القويتين، وتشم رائحته المميزة...‏

هذا الصيف موعد الزفاف..‏

-العرس، بعد أن أصبح معلمة أصيلة!.‏

ينظر سمير إليها. في نظرته عتب، وفي عينيه هيام..‏

-أمري لله!.‏

تدخل أمها..‏

لم تنتبه إليها إلا حين وضعت كأس الشاي أمامها..‏

-يكفيك سهراً يا لينا!.‏

-هذا الدرس هو حياتي يا أمي!.‏

حين تخرج أمها تغوص في حياة العصفور العجوز....‏

غداً، تخرج من القفص، يصبح لها كيان خاص، غداً.. تفتح باب القفص، فتطل الشمس، يطل سمير في بذلة عرسه ماداً لها يديه..‏

تفكر في كل كلمة تكتبها. تتمثل كلامها أمام تلميذاتها الصغيرات. ستتوقف في اللحظة المناسبة، وستسير حين يتوجب ذلك، ستضع لوحة أبرية هناك، وجيبية هنا، وقفصاً وصورة عصفور و....‏

تستقرئ في وجوه تلميذاتها الفهم والتجاوب..‏

تنظر إلى موجه المادة، ترى أباها يبتسم لها..‏

تتنهد..‏

مات أبوها وهي صغيرة، لم تعرف صورته إلا عبر غبار وغيوم..‏

دائماً، تراه ينظر إليها بصمت وحنان، في منامها، وفي يقظتها، أحياناً...‏

احتضنتها أمها.. ونذرت نفسها لها.. عملت خادمة في المنازل، وعملت في المعامل.. حتى كبرت ودخلت الوظيفة المؤقتة بعد الشهادة الثانوية..‏

صوت المنبه يعلن منتصف الليل..‏

تمسح غرفتها بنظرة سريعة.. الخزانة مغلقة!‏

ماذا ستلبس غداً؟!... أجمل ثوب عندها.. وحذاءَها الجديد.‏

لن تركب "الميكرو"، حتى لايدوس الناس على حذائها، ستأخذ سيارة أجرة، وتصل المدرسة في أبهى حلتها...‏

تسمع دقات قلبها، أهو الخوف أم الفرح؟!..‏

هكذا كان يدق قلبها قبل كل امتحان، وهكذا دق حين التقت سمير..‏

عادت إلى مكانها بعد أن حددت الثوب والحذاء.. أنصتت..‏

لابدَّ أن أمها الآن في سابع نومة...‏

طنين سكوت الليل جعل لينا تقف متأملة يومها وغدها..‏

راجعت مواد الدرس، والبطاقات الملونة، حاولت أن تزيد، لكن التعب غزا جسدها دفعة واحدة..‏

أخبرها المنبه أن الساعة هي الثانية صباحاً..‏

حينئذٍ، ربطت المنبه على السادسة صباحاً..‏

وما إن وضعت رأسها على الوسادة حتى غرقت في بئر النوم..‏

صباحاً..‏

قامت لينا بالخطوات نفسها التي رسمتها البارحة..‏

وصلت المدرسة، وكأنها تدخلها للمرة الأولى، الصف يرقص فرحاً، وجوه التلميذات ناضرة ناظرة..‏

تدخل، ترتب لينا أشياءها، وتنتظر بفارغ الصبر قرع الباب لتستقبل الموجه، وتعطي درساً ناجحاً مائة في المائة..‏

وفجأة..‏

يُقرع الباب، تسرع دقات قلبها، وهي تخف نحو الباب بكامل أناقتها..‏

تفتح الباب..‏

تقف المديرة بوجهها الصارم..‏

-أجّل الموجه حضوره!.‏

-لماذا؟!...‏

-لا أدري.. سيأتي في وقت آخر!..‏

وتختفي المديرة في الردهة..‏

تعود لينا، متراخية الأوصال.. تجلس على كرسيها منهكة، وتدخل قفص العصفور العجوز