صفقوا الباب خلفه. دفعوه إلى الشارع المظلم. صفعت وجهه رياح تشرين الباردة، وزخّات المطر الموجعة. بجانب الباب المغلق أصلح هندامه. رفع رأسه وأماله بطريقة مسرحيّة. دسّ يده اليمنى في جيب بنطاله. أخرج " سيكارة" من علبة فخمة، وضعها في زاوية فمه، فأصبح ميلها متناسباً مع وضعيّة الرأس. رفع قدمه راسماً قفزة انتصار في الهواء.. صاح: - لقد غلبتهم.. لقد غلبتهم!. ركض تحت المطر دون أن يحتمي بشيء.. فقد نسي مظلّته في الداخل، ولم يجرؤ على العودة لأخذها. هرول غير عابئ بالوحل يلوّث ثيابه، وهذا الشعور جديد عليه.. فقضيّة الكياسة، وحسن المظهر تهّمانه وتشغلان باله... حيث يسعى على الدوام إلى بيوتات / البالة/، ينتقي منها ما هو مناسب... وعندما يسأل عن المحلاّت التي اشتراها منها يجيب باعتزاز: -" هذه البدلة من محلات ربييركا ردان/.. وهذا القميص من كريستيان ديور/.. أمّا ربطة العنق هذه، فقد أتتني هديّة من وزير الأناقة، بمناسبة عيد ميلادي." يبتسم الموظفون، يهّزون رؤوسهم عجباً، وهم يستمعون لتهيّؤات حمّود، مستخدم الشركة.. المختلف/ شكلاً و موضوعاً/.. ففي كلّ صباح ينتظرون حضوره، ويعدّون أنفسهم لسماع أخباره الوهميّة، حيث يدلف عليهم بصينيّة القهوة، فيتناوبون باستفساره: - مع من سهرت البارحة؟ - ايّة شخصيّة مهمّة قابلت؟ - كم مسؤولاً التقيت؟.. يشدّ حمّود قامته القصيرة. يسحب كرسياً ثم يجلس عليه. يطلب لنفسه/ سيكارة مالبورو/. يضع ساقاً فوق ساق، دافعاً بنصفه السفلي إلى الأمام، مرجعاً رأسه إلى الخلف، ثمّ يبدأ الحديث فيقول مثلاً: -" ليلة البارحة لم يرقد لي جفن.. هاتف قويّ أيقظني من عزّ نومي.. فقد أخبروني، أنّ الجماعة يريدونني لحلّ مشكلة مستعصية، تتعلّق بأمن البلد.." تقاطعه ماجدة، ضاربة الآلة الكاتبة: - وهل حللت المشكلة؟.. - ولو ياآنسة ماجدة.. سامحك الّله.. أنا شخص مهمّ، ولا يستطيعون الاستغناء عنيّ. ذات مرّة، سأله أحمد، محاسب الشركة: - وماذا بالنسبة لزواجك من الأميرة/ ديانا/؟.. فقد أخبرتنا أنّها أرسلت تطلب يدك. أجاب: - هذه المسألة بحاجة لتروّ وتفكير.. فأنا لاأتزوّج امرأة سبقني إليها واحد آخر.. مع العلم أنّ الأميرة قد صرّحت في أكثر من مقابلة إذاعيّة وتلفزيونيّة، بأنّها قد تخلّت عن الأمير، تشارلز/ من أجلي. تتعالى قهقهات الموجودين من عاملين ومراجعين، وهم يصغون إلى حمّود، مجمعين أنّ الرجل يعيش أوهاماً يصدّقها، ويخيّل إليه أنّها حقيقيّة. هذه الليلة بالنسبة إليه كانت مختلفة، انفجرت فيها قنبلة أجهزت على البقيّة الباقية من عقله. في أوّل الليل.. خرج من منزله، وفي ذهنه حشد هائل لأفكار وترتيبات متزاحمة. حمل مظلّته، منطلقاً باتّجاه الشارع الرئيسي في المدينة، يمارس عادته اليوميّة في السير. لم يكن المطر وقتها شديد الوقع، فقد بدا نزوله لطيفاً، يداعب النوافذ، والأسطحة، ومرايا الوجوه... بينما تشويشات حمّود تأخذه إلى البعيد البعيد، تشدّه من ياقة معطفه...إلى الأمام حيناً.. إلى الوراء حيناً.. وبين الجهتين يصنع محطّة فاصلة، يكلّم فيها نفسه بصوت مرتفع: -" أنا هتلر.. أنا نيرون.. أنا هارون الرشيد.. أنا.. أنا.. أنا..". عندما وقفت تلك السيّارة بجانبه، أجفله صوتها القويّ، فارتجف.... وعندما أمره صاحبها بالوقوف، ارتجف أكثر، وتبعثرت نظراته، فصار الشرق غرباً بالنسبة إليه، والغرب شرقاً. - أنت ... تعال إلى هنا. لم يتحرّك من مكانه.. شيء ما سمّره.. ثبّه. - قلت لك.. تعال. نزل الرجل من سيّارته.. اقترب منه.. سحبه من يده، وهو يتحدّث بصوت يختلف عن اصوات الناس الذين سمعهم من قبل: - هل تجيد لعب الورق - و.. و.. ور.. ق؟!.. - نعم ورق.. أقصد ورق الشدّة. حاول حمّود لملمة شتاته. أخرج من جيبه منديلاً طوي بطريقة ملفتة للنظر. مسح حبّات العرق التي تفصّدها جبينه. أجاب بتوترّ: - أ.. أجل - إصعد معي. في ذلك / المنزل، الفخم.. كان كلّ شيء مرتّباً جميلاً، موضوعاً في مكانه حسب الأصول، ورائحة التميّز والغنى تنداح في أعماق المكان، ورهبة الموقف تتأرجح على حافّة الوقت.. أمّا عيناه، فقد تخاصم بؤبؤيهما، وراحا ينوسان ضمن حدقتيهما كرقّاص ساعة معطّل. " ياإلهي.. أين أنا؟.. ثمّة خطأ ما في ترتيب الأمور حصل.. ثمّة مقدّرات ستنبئ عن أهوال قادمة.." حدّث نفسه وهو يلمح في منتصف البهو رجلين يجلسان إلى طاولة مستطيلة الشكل يفردان ورقاً ملوّناً مزركشاً أمامهما، وقد سيطرت على سحنتيهما علامات التوفّز والانتظار. قال أحدهما بتملّق ظاهر: - أهلاً.. أهلاً.. تفضّل إلى هنا. جرّ حمّود خطاه إلى المكان الذي دعي إليه، وشيئاً فشيئاً، وبعد زمن قصير كانت الأمور تسير على أحسن ما يكون..فقد كشفت حجب الأمور عنه، وفسّر له سبب وجوده بين شخصيّات طالما حلم بلقائها، وطالما منّى النفس بالحديث معها، وطالما تخيّلها تجالسه وتسامره. لقد تعوّد كلّ من حسّان بيك، وعزّت باشا، وفرحان أفندي، وكامل آغا، أن يقضوا سهرة الخميس معاً، وذلك من أجل التسلية، وغسل الهموم، ورمي المشاكل جانباً.. فيلعبون بالورق حتىّ الصباح. هذا الخميس تحديداً، غاب فرحان افندي لسبب قاهر، فوجدوا أنفسهم ثلاثة، واللعبة تحتاج إلى أربعة.. حاولوا الاتّصال بالاستاذ مصطفى رئيس البلديّة، لكنّهم لم يجدوه. ركب عزّت باشا سيّارته، وخرج يفتش في الطريق عن رجل يكمل الطاقم، فرأى حمّوداً أمامه، وكان يريده تكملة للعدد ليس إلاّ..لكن الطامة الكبرى حدثت، عندما اكتشف الجميع أنّ حمّوداً يلعب أفضل منهم، فيحقّق له ولشريكه الجالس قبالته الفوز تلو الآخر..وعقب كلّ فوز ينفش ريشه كديك الحبش، ويطلق ضحكة تمزّق بقيّة اللاعبين غيظاً. بعد ساعات من اللعب المتواصل.. بعد جولات أعقبتها هزائم، حسم حسّان بيك المسألة، وصاح: - كفى.. كلمة/ كفى/.. أرجعت كّلاً إلى مكانه الرئيسي، وأعادت ترتيب الأمور، وفرزت الحابل عن النابل، ووجد الغالب نفسه بغمضة عين خارج باب المنزل، بعد ركلة قويّة من قدم أحدهم. الصباح.. كان بهيّاً مشرقاً بالنسبة لحمّود.. زغردت أمامه غرف المكاتب. رقصت صينيّة القهوة في يده. بشرّ الداخلين والخارجين بإنجازات الليلة الفائتة. حدّث الموظّفين والموظّفات.. المستخدمين والمستخدمات عن أحلامه التي تحقّقت، وعن الشخصيّات الهامّة التي قابلها. قال لهم: -" لقد غلبتهم.. والله العظيم غلبتهم!.. تبادل الجميع نظراتهم كالعادة.. هزّوا رؤوسهم كالعادة.. ضحكوا كالعادة.. ثمّ انصرفوا إلى أعمالهم.
صفقوا الباب خلفه. دفعوه إلى الشارع المظلم. صفعت وجهه رياح تشرين الباردة، وزخّات المطر الموجعة. بجانب الباب المغلق أصلح هندامه. رفع رأسه وأماله بطريقة مسرحيّة. دسّ يده اليمنى في جيب بنطاله. أخرج " سيكارة" من علبة فخمة، وضعها في زاوية فمه، فأصبح ميلها متناسباً مع وضعيّة الرأس. رفع قدمه راسماً قفزة انتصار في الهواء.. صاح:
- لقد غلبتهم.. لقد غلبتهم!.
ركض تحت المطر دون أن يحتمي بشيء.. فقد نسي مظلّته في الداخل، ولم يجرؤ على العودة لأخذها.
هرول غير عابئ بالوحل يلوّث ثيابه، وهذا الشعور جديد عليه.. فقضيّة الكياسة، وحسن المظهر تهّمانه وتشغلان باله... حيث يسعى على الدوام إلى بيوتات / البالة/، ينتقي منها ما هو مناسب... وعندما يسأل عن المحلاّت التي اشتراها منها يجيب باعتزاز:
-" هذه البدلة من محلات ربييركا ردان/.. وهذا القميص من كريستيان ديور/.. أمّا ربطة العنق هذه، فقد أتتني هديّة من وزير الأناقة، بمناسبة عيد ميلادي."
يبتسم الموظفون، يهّزون رؤوسهم عجباً، وهم يستمعون لتهيّؤات حمّود، مستخدم الشركة.. المختلف/ شكلاً و موضوعاً/.. ففي كلّ صباح ينتظرون حضوره، ويعدّون أنفسهم لسماع أخباره الوهميّة، حيث يدلف عليهم بصينيّة القهوة، فيتناوبون باستفساره:
- مع من سهرت البارحة؟
- ايّة شخصيّة مهمّة قابلت؟
- كم مسؤولاً التقيت؟..
يشدّ حمّود قامته القصيرة. يسحب كرسياً ثم يجلس عليه. يطلب لنفسه/ سيكارة مالبورو/. يضع ساقاً فوق ساق، دافعاً بنصفه السفلي إلى الأمام، مرجعاً رأسه إلى الخلف، ثمّ يبدأ الحديث فيقول مثلاً:
-" ليلة البارحة لم يرقد لي جفن.. هاتف قويّ أيقظني من عزّ نومي.. فقد أخبروني، أنّ الجماعة يريدونني لحلّ مشكلة مستعصية، تتعلّق بأمن البلد.."
تقاطعه ماجدة، ضاربة الآلة الكاتبة:
- وهل حللت المشكلة؟..
- ولو ياآنسة ماجدة.. سامحك الّله.. أنا شخص مهمّ، ولا يستطيعون الاستغناء عنيّ.
ذات مرّة، سأله أحمد، محاسب الشركة:
- وماذا بالنسبة لزواجك من الأميرة/ ديانا/؟.. فقد أخبرتنا أنّها أرسلت تطلب يدك.
أجاب:
- هذه المسألة بحاجة لتروّ وتفكير.. فأنا لاأتزوّج امرأة سبقني إليها واحد آخر.. مع العلم أنّ الأميرة قد صرّحت في أكثر من مقابلة إذاعيّة وتلفزيونيّة، بأنّها قد تخلّت عن الأمير، تشارلز/ من أجلي.
تتعالى قهقهات الموجودين من عاملين ومراجعين، وهم يصغون إلى حمّود، مجمعين أنّ الرجل يعيش أوهاماً يصدّقها، ويخيّل إليه أنّها حقيقيّة.
هذه الليلة بالنسبة إليه كانت مختلفة، انفجرت فيها قنبلة أجهزت على البقيّة الباقية من عقله. في أوّل الليل.. خرج من منزله، وفي ذهنه حشد هائل لأفكار وترتيبات متزاحمة. حمل مظلّته، منطلقاً باتّجاه الشارع الرئيسي في المدينة، يمارس عادته اليوميّة في السير. لم يكن المطر وقتها شديد الوقع، فقد بدا نزوله لطيفاً، يداعب النوافذ، والأسطحة، ومرايا الوجوه... بينما تشويشات حمّود تأخذه إلى البعيد البعيد، تشدّه من ياقة معطفه...إلى الأمام حيناً.. إلى الوراء حيناً.. وبين الجهتين يصنع محطّة فاصلة، يكلّم فيها نفسه بصوت مرتفع:
-" أنا هتلر.. أنا نيرون.. أنا هارون الرشيد.. أنا.. أنا.. أنا..".
عندما وقفت تلك السيّارة بجانبه، أجفله صوتها القويّ، فارتجف.... وعندما أمره صاحبها بالوقوف، ارتجف أكثر، وتبعثرت نظراته، فصار الشرق غرباً بالنسبة إليه، والغرب شرقاً.
- أنت ... تعال إلى هنا.
لم يتحرّك من مكانه.. شيء ما سمّره.. ثبّه.
- قلت لك.. تعال.
نزل الرجل من سيّارته.. اقترب منه.. سحبه من يده، وهو يتحدّث بصوت يختلف عن اصوات الناس الذين سمعهم من قبل:
- هل تجيد لعب الورق
- و.. و.. ور.. ق؟!..
- نعم ورق.. أقصد ورق الشدّة.
حاول حمّود لملمة شتاته. أخرج من جيبه منديلاً طوي بطريقة ملفتة للنظر. مسح حبّات العرق التي تفصّدها جبينه. أجاب بتوترّ:
- أ.. أجل
- إصعد معي.
في ذلك / المنزل، الفخم.. كان كلّ شيء مرتّباً جميلاً، موضوعاً في مكانه حسب الأصول، ورائحة التميّز والغنى تنداح في أعماق المكان، ورهبة الموقف تتأرجح على حافّة الوقت.. أمّا عيناه، فقد تخاصم بؤبؤيهما، وراحا ينوسان ضمن حدقتيهما كرقّاص ساعة معطّل.
" ياإلهي.. أين أنا؟.. ثمّة خطأ ما في ترتيب الأمور حصل.. ثمّة مقدّرات ستنبئ عن أهوال قادمة.." حدّث نفسه وهو يلمح في منتصف البهو رجلين يجلسان إلى طاولة مستطيلة الشكل يفردان ورقاً ملوّناً مزركشاً أمامهما، وقد سيطرت على سحنتيهما علامات التوفّز والانتظار. قال أحدهما بتملّق ظاهر:
- أهلاً.. أهلاً.. تفضّل إلى هنا.
جرّ حمّود خطاه إلى المكان الذي دعي إليه، وشيئاً فشيئاً، وبعد زمن قصير كانت الأمور تسير على أحسن ما يكون..فقد كشفت حجب الأمور عنه، وفسّر له سبب وجوده بين شخصيّات طالما حلم بلقائها، وطالما منّى النفس بالحديث معها، وطالما تخيّلها تجالسه وتسامره.
لقد تعوّد كلّ من حسّان بيك، وعزّت باشا، وفرحان أفندي، وكامل آغا، أن يقضوا سهرة الخميس معاً، وذلك من أجل التسلية، وغسل الهموم، ورمي المشاكل جانباً.. فيلعبون بالورق حتىّ الصباح.
هذا الخميس تحديداً، غاب فرحان افندي لسبب قاهر، فوجدوا أنفسهم ثلاثة، واللعبة تحتاج إلى أربعة..
حاولوا الاتّصال بالاستاذ مصطفى رئيس البلديّة، لكنّهم لم يجدوه. ركب عزّت باشا سيّارته، وخرج يفتش في الطريق عن رجل يكمل الطاقم، فرأى حمّوداً أمامه، وكان يريده تكملة للعدد ليس إلاّ..لكن الطامة الكبرى حدثت، عندما اكتشف الجميع أنّ حمّوداً يلعب أفضل منهم، فيحقّق له ولشريكه الجالس قبالته الفوز تلو الآخر..وعقب كلّ فوز ينفش ريشه كديك الحبش، ويطلق ضحكة تمزّق بقيّة اللاعبين غيظاً. بعد ساعات من اللعب المتواصل.. بعد جولات أعقبتها هزائم، حسم حسّان بيك المسألة، وصاح:
- كفى..
كلمة/ كفى/.. أرجعت كّلاً إلى مكانه الرئيسي، وأعادت ترتيب الأمور، وفرزت الحابل عن النابل، ووجد الغالب نفسه بغمضة عين خارج باب المنزل، بعد ركلة قويّة من قدم أحدهم.
الصباح.. كان بهيّاً مشرقاً بالنسبة لحمّود..
زغردت أمامه غرف المكاتب.
رقصت صينيّة القهوة في يده.
بشرّ الداخلين والخارجين بإنجازات الليلة الفائتة.
حدّث الموظّفين والموظّفات.. المستخدمين والمستخدمات عن أحلامه التي تحقّقت، وعن الشخصيّات الهامّة التي قابلها.
قال لهم:
-" لقد غلبتهم.. والله العظيم غلبتهم!..
تبادل الجميع نظراتهم كالعادة..
هزّوا رؤوسهم كالعادة..
ضحكوا كالعادة..
ثمّ انصرفوا إلى أعمالهم.