في ساحة الكرك، منتصف القرية، وبين المغرب والعشاء. كان الأطفال والبنات، يلعبون لعبة "الاستغماية".
يختبئون في الزقاق الطويل، وفي منعطفات الحارة، يثيرون الغبار، وهم يفرّون، فرار سرب من الطيور.
في المخبأ "البايكة" ارتمينا أنا وأخي، فوق التبن للحظات، ثم قمت أنفض ثوبي، متأففاً من الجو الخانق.
أحس أخي بانزعاجي، فوضع اصبعه، فوق فمه محذّراً إياي:
الزم الصمت.. فاحتميت بالسكوت وركزت عليه عيني الضيقتين، ثم عدت فتمددت على القش إلى جانبه.
عندها وصل النداء إلينا،
"فتّحْ" خرجنا إلى مدخل الحارة التي كان ترابها ناعماً، وتغوص فيه أقدام الرجال العائدين، من حراثة الحقول متعبين، مكدودين أكثر من ثيرانهم الهزيلة التي تجمّد البراز في أعجازها.
ركض أخي، وهو يستحثني للحاق به، ونحن حلقة أطفال، ثياب رثة، حفاة الأقدام.
مر جار عجوز، وعندما حاذانا، خلع حطته، ثم حك رأسه وسعل، أحسست بصدره المشروخ من الدخان، بصق دون أن يتطلع إلينا، ثم أخرج علبة الدخان التنك وتناول سيكارة. وأخرج علبة الكبريت الحصان وأشعل الثقاب.
صباحاً ناداه والده. كان يقف في ساحة الدار، رمى الشوال الفارغ على كتفه، عندما اقترب من والده تساءل:
لماذا لا يبتسم أبي؟
قال والده:
- اصح، لا تترك العصافير تأكل القمح المنشور، اركض، وخذ التنكة وأضرب عليها! فاهم؟
كانت شمس الصباح حادة، وهو يضرب بالمطرقة الحديدية، الصغيرة على "التنكة" وكان صدى الضربات، يطلق ضجة، تشتت العصافير والدبابير والذباب.
يقف جدي العجوز، قريباً مني، بملابسه الجديدة النظيفة، وعمامته وذقنه البيضاء.. كان يتلو الأدعية.
جاءني صوته حزيناً عميقاً، كأنه نابع من عمق الوادي، اقترب مني، انحنى، مسد بيده رأسي، فانحنيت محاولاً تقبيل يده، ولكنه أبى، سحبها بسرعة، وهو يتمتم بأدعيته.
... ... ... ...
أواصل الطّرق على "التنكة" كانت بعض العصافير، تحلق على ارتفاع منخفض، تفرد أجنحتها، وتترك نفسها للريح تشيلها، أنى تشاء، تود أن تحط على بساط القمح، الممدود تحتها، ولكن ضرباتي الصاخبة تشتتها، فتعود للتحليق طائرة، في كل الاتجاهات.
تمر أمي من قربي فأصيح:
- يمة! أنا تعبان.
- تعبان يمة؟
- آه.
تقف قربي وتقول:
- سلامتك يا حبيبي.
أتطلع إليها، فارعة القامة، ولكنها تخفي تحت ثيابها وهزالها، دفئاً وحناناً.
وضعت يدها على رأسي، تسألني:
- هل تحس بوجع؟
أجبت:
جلسنا متقابلين، قبلتني، وشممت رائحة بصل في فمها. أهدابها متربة وعصبة رأسها باهتة.
جففت العرق المنسال على وجهها ورقبتها بذيل ثوبها.. بدت لي عيناها أكثر اتساعاً.
تمخطت ومسحت أنفها بكمها، بدت لي تعبة.
سألتني ثانية:
- هل تخفي عن أمك شيئاً؟ أنا أعرفك، قل!
قلت:
- أريد أن أجمع البيض من الخم.
أجابت وهي تربت على كتفي وتهم بالنهوض.
- ولا يهمك! الدور لك!
قامت نشيطة مبتهجة.
تحمل أمي بيدها، أرغفة الخبز المحروقة، وهي تغني:
"هز الهوا الباب قلت الغايب اجاني
قمت ملهوفة أخذت الباب بأحضاني
لما لقيت الهوا كذاب يا حبابي
رجعت أبكي وأمزق ثيابي"
غزاني صوتها الشروقي، وأثار عندي الأسى.
قطعت الغناء، بدت لي جميلة، وهي تتقدم نحوي لا تخطو، وإنما تنساب، لا تمشي، وإنما تسري، تنحني إلى الأمام هوناً، يجيئني صوتها هدهدة:
- خذ الخبز للدجاجات، واجلب البيض من الخم.
قفزت فرحاً، وتناولت من يدها الممدودة الخبز المحروق، ووجهها الهادىء يطالعني مشعاً قوياً.
سمعت صياح الديك والدجاجات، قبل أن أجتاز باب الخم الخشبي.. أمعن النظر وتقع عيناي على الالتفاف الأرقش والفحيح المقزز للنفس.
كان الثعبان يسحب جسده وهو يلوص بذيله. كنت أرى انسحاب الجسم الثعباني، من التراب والقش، وأسمع الهواء عند فحيحه المتواصل.
انسحب وغاب داخل ثقب الجدار الشرقي، وأنا يغزوني الخوف، الذي جمَّد حركتي.
وبعد ثوان، استجمعت خلالها قواي ثم قفزت راجعاً، وأنا أفغر بصوت خيل لي أنه ليس صوتي:
-الحية! الحية!
كنت خفيفاً، وبدا الفراغ غريباً عليّ. ثقلت أنفاسي، وأنا أسترجع صورة الثعبان وهو يسحب جسده الطويل على التراب والقش، لم أستطع مغالبة نفسي، عندما رأيت أمي تركض تجاهي، رميت نفسي بحضنها وشعرت بيديها تسبحان فوق ظهري، وأصابعها النحيلة، تتلمس كل جزء مني.
بعد قليل هدأت واستكنتُ وكانت لما تزل تتمتم بأدعيتها كي يقيني الله الشر ويهديء سري!
كان حشدنا، الأطفال وبنات الحارة صغيراً، وقف المبروك أمام باب الخم، أزاحت أمي عصبتها إلى الخلف وأخذت تحك مقدمة رأسها.
قال المبروك:
- يا أم الأسمر! أريد صاعاً من "الفريجة" (الفريكة)
أجابت أمي:
- تكرم شيخي!
نزع المبروك شالته القطنية، طواها ثم رماها على حجر قريب.
صرخت جدتي كليلة البصر:
- امشوا يا أولاد! روحوا على بيوتكم!
لم يتحرك أحد.
رفع المبروك ذراعيه إلى أعلى يتلو دعاءه:
"مدد يا سيدي الرفاعي
بجاه القرآن الكريم
بجاه النبي عيسى
بجاه النبي محمد الحبيب
يا ملجّم الضواري
ومكمم الزواحف
مدد
اطلع يا ملعون!
اطلع يا قاتل!"
أطلّ رأس الثعبان من الجحر، وكان صوت فحيحه يتعالى شيئاً فشيئاً.
صاح بعض الأطفال:
- إنه هناك، أطلَّ برأسه.
سحب الثعبان رأسه واختفى داخل الجحر.
شدد المبروك من تعزيمه وتلاوة دعائه:
"سايق عليك النبي عيسى
سايق عليك النبي محمد
تبلع سًمَّك
وتكسر نابك
اطلع يا قاتل
اطلع يا ملعون!"
لم يطلع الثعبان من جحره، وظل الصمت يخيم على الحشد.
فردَ المبروك، الكيس القماشي، وخطا خطوتين نحو الجحر وهو يوالي تلاوة دعائه:
"وحياة أبو القاسم
تبلع سمك
وتكسر نابك"
أطلّ الثعبان برأسه ثانية، وكانت درقته تتراقص، ثم عاد واختفى داخل الجحر.
تطلع المبروك منقلاً بصره، في وجوه الحشد من الأطفال والبنات، والنساء وبعض الرجال، وهو ساكت يرى إلى فشله في محياهم.
زعق المبروك بصوت غريب:
- يا جماعة، من عليه جنابة فليتركنا!!
تحركت جارة شابة، وهي تتذرع بالخوف، على طفلها الرضيع.
خطا المبروك نحو الجحر، وهو يبدأ دعاءه من جديد.. ولكن الثعبان لم يخرج..
عاد المبروك إلى الوراء، ثم انحنى، وتناول شالته القطنية المرمية، على حجر قريب، ثم انعطف والتقط كيسه القماشي، وألقى نظرة مليئة بالانكسار.
عندما مر، من جانب أمي قال:
- أريد صاع الفريجة!
هزت أمي برأسها.
ومضى، وهو يسوي شالته القطنية، فوق كتفه، بدت قامة المبروك قصيرة، وهو ينفلت خارجاً يتمتم بأدعية غير مسموعة!.