نهض باكراً.. انسل من بين تثاؤب اخوته، متوجهاً إلى دكان الحلاقة، كانت المدينة الصغيرة ما تزال تتململ لمواجهة صباح جديد.
اخترق الزقاق الطويل. شاتماً:
- أبو هالعيشة!
بعد أن كادت تغوص قدمه، في "مكب" زبالة مفاجىء.
عندما وصل إلى الدكان، كان أبو عيسى، بائع الخضار، على الرصيف المقابل يرتب أكوام البصل والبطاطا والخس وضمات البقدونس والكزبرة والنعناع، يرشها بالماء، ويصيح بين فترة وأخرى.
- سعيد! يا سعيد! تعال وارفع سحّارة البندورة!
(انحنيتُ، فتحت الغلق الحديدي، رفعته وشعرت بحرقة في عيني، أحسست بألم، تذكرت نظرة والدتي بالأمس، عيون مرتخية، منكسرة، كان يقبع الصبر والانتظار في قعرهما.
التقطت المكنسة بحماسة مفاجئة، بدأت أكنس الدكان، ألم بقايا الشعر، شعر الرؤوس والذقون والشوارب وأعقاب السكائر، العادية "والمفلترة".
كنت أخمّن وأنا أكنس الدكان أنني سأعثر على الليرات الخمس التي سيرميها صاحب الدكان للتأكد من أمانتي، كما حذرتني أمي.
بعد أن انتهيت من الكناسة ومسح واجهة الدكان حملت أنبوب الماء وبدأت أرش الرصيف ثم عدت لترتيب المجلات.
قلبت صفحاتها على صور النساء الجميلات ولقطات من آخر مباراة في كرة القدم.
الشمس، شمس الظهيرة حادة، فجأة يندفع الجار نوبار الأرمني إلى الدكان، كان محمّر الوجه، غاضباً يبربر بكلمات:
- أنتم النازحون مشكلة!
- خيراً.. معلم نوبار، طالع خلقك!
يسأل الحلاق قصير القامة.
يشير الأرمني إلى أولاد الحلاق الثلاثة الذين حضروا لحلاقة شعرهم.
- كان الأولاد الملاعين.
يسكت قليلاً وكأنه يبحث عن كلمته، ثم يتابع:
كشفوا عن مؤخراتهم، يريدون أن يعملوها على الرصيف، العمى! صحيح أنتم النازحون مشكلة!
رنت كلمة النازحين في أذني.. بعد النزوح تمركزتُ أمام طاحونة أنطون الأرمني أبيع الكعك والحلوى.
ذات يوم مر من أمامي ناطور الطاحونة، توقف ثم التقط كعكة كبيرة، صار كلّ يوم يلتقط واحدة. في اليوم العاشر عندما طالبته بثمنها، حدّق فيّ بعينين بغيضتين ثم صاح:
- ولك عكروت! ليس لك وقفة هنا!
وضربني.
بعد أن ابتعدت عنه صحت به:
- ولك مشحم! فجعان!
- يا نازح! وسخ! سوف ألقطك.
الدكاكين والأكشاك مزدحمة في صفوف غير منتظمة.
الأزقة كجراح غائرة في جسد الأحياء التي يتكاثر سكانها، وينتشر الأطفال في أزقتها وكأن أهلها عملوها في ليلة واحدة! المطاعم الشعبية التي تبيع الفول والحمص والباذنجان المقلي تثير الاشمئزاز والقرف بواجهاتها الزجاجية المتسخة.
الباصات المزدحمة في الساحة الوحيدة، وبائعو الدخان المهرب يفترشون الأرصفة ويدخلون في خناقات لا تنتهي مع بائعي الخبز.
وأطفال النازحين يعرضون علب الحليب المجفف والجبنة المعلبة وعلب السمك، للبيع ويدخلون في معارك يومية مع بائعي الخبز والدخان المهرب والشرطة.
- نعيماً! الجاكيت لعمك رضوان!
يقول الحلاق القصير منبهاً اياي من شرودي الذي غرقت فيه.
يقوم الرجل، ينفض الشعر العالق على رقبته ووراء أذنيه وعلى منكبيه.
وأسرع إلى العلاقة الخشبية، أتناول الجاكيت السوداء، يلبسها الرجل.. أسرع بالفرشاة، أمسح الكتفين والظهر، وأفتح فمي بآلية غبية:
- نعيماً!
- الله ينعم عليك!
يرد الرجل ثم ينفحني ليرة حديدية تستقر في يد معلمي الممدودة.
يثرثر الراديو ببلاهة، ويحاول المذيع أن يربط بين الأغاني وبين الجمل الانشائية التي يحفظها غيباً. فجأة يتوقف المذيع.. ليبدأ بث أغنيات نشيد الوطن وجباله.
تسد أم ياسين باب الدكان بقامتها وهي تتأبط صرتها القماشية، تلقي تحيتها المعتادة:
- يعطيكم العافية!
- أهلاً أم ياسين! تفضلي!
تسأل بجدية واضحة.
يتناول الحلاق كأس شاي، يشرب، ثم ينفلت راجعاً وطقطقات مقصه في الهواء تملأ جو الدكان.
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
تنفلت أم ياسين عائدة وهي تتأبط صرتها القماشية.. الكالحة الألوان.
أنا وأم ياسين أول من يأتي إلى الساحة، أنا إلى دكان الحلاقة. وهي إلى موقعها المعتاد في كراج الباصات.
تسأل المسافرين والعائدين من السفر عن ابنها العسكري الذي وعدها بالعودة لأخذ غياره من الثياب. وهي مذ ذاك الوقت تحمل له غياره النظيف.. غسلتْ القميص وكوته واختارت غيارين داخليين ومنامة شتوية تقتل البرد، كما تقول!
وتمضي يومها وهي تسأل المسافرين والعائدين من السفر عن ابنها ياسين الذي لمّا يأت بعد!
هدير طائرات كثيرة تمرق في الجو، وينفتح باب السماء على جحيم أرضي.. ويقتحم نوبار الأرمني الدكان وهو ينط قائلاً:
- قامت الحرب! قامت الحرب يا شباب! الراديو أعلن.
أغلق الحلاق الدكان وأعطى الصبي أجيره ثلاث ليرات وقال له:
- روّح اجازة!
كانت أجهزة الراديو على طول الزقاق تذيع الموسيقا العسكرية.. وتذيع الأخبار والأغاني الحماسية كانت أغنية:
"خطوة قدمكم على الأرض هدارة"
لفيروز تعلن اسقاط طائرات العدو.
(لم أهدأ. لم تهدأ أمي وأختي الصغيرة، تصاعدت الهواجس في قلب الملجأ الضيق. صوت الردم يأتينا من بعيد. كنا نهتز مع انفجار كل قذيفة. وكان أبي يتفقد مسدسه بين الحين والآخر، وكانت أمي ترفع صوتها أشهد أن لا إله إلى الله، محمد رسول الله.).
في باص المدينة الوحيد تزقق امرأة بشاب:
- يقصف عمرك! إنت وين والناس وين.
- عفواً يا أختي، والله الازدحام.
- بلا ازدحام بلا زفت! ما إلك اخت؟
يقول رجل طاعن في السن:
- الناس معذورة!
ثم يعقب:
- ارفعوا صوت هالراديو خلّونا نسمع!
- هذا صوت سوخوي.
عند موقف الباص تقول أم ياسين:
- الله ينصر الشباب.
وتحتضن صرتها القماشية بحنان غريب.
(ظهراً وفي اليوم الثاني داخل الملجأ نظرتْ أم ياسين إليّ. فوجئت. كانت هادئة تبتسم ومستسلمة لقدر غريب. ربما خافت في البداية وكانت تتأمل جدار الاسمنت، ثم ما تلبث أن تجفل لانفجارات الصواريخ.. يستمر والدي في تنظيف مسدسه القديم. يأتينا صوت كالردم من بعيد..
للمرة الأولى تقول أم ياسين:
- صاروخ سام.
ويأتي صوت فيروز من راديو صغير يعمل على البطاريات:
"خطوة قدمكم ع الأرض هدّارة".
وفي الليل أيقظتني أمي. كان أبي يحمل أختي الصغيرة هرعاً نحو الملجأ. كانت أصوات الردم تأتينا من بعيد.
سأل جارنا أبي:
- هل ميّزت الصوت؟
- لا. قال أبي.
- لقد أشبعتنا كلاماً عن بطولاتك ولا تستطيع أن تميز صوت الرباعي عن غيره؟
قال الجار معرّضاً بأبي.
- كنت بطلاً عندما كنت مقاتلاً!
أجاب والدي باختصار.
صباح اليوم الثالث وهو في طريقه إلى المخبز لجلب ربطتي خبز، فاجأته أم ياسين. كانت تفترش الرصيف والصحف اليومية أمامها وصور حطام الطائرات الاسرائيلية تحتل الصفحات الأولى.
كانت أم ياسين تحصي النقود المرمية أمامها، ثم تستعيد وجهها الهادىء. لم تر أم ياسين في غمرة عملها قامة الطفل أمامها، كان الطفل أمامها واقفاً وكله دهشة.
للمرة الأولى لم تكن مع أن ياسين صرتها القماشية .
عندما تقدم الطفل خطوات قليلة في السوق، كانت بعض السيارات العسكرية تمر وهي تقل الجنود باتجاه الجبهة وكان الناس يهتفون لهم ويعطونهم علب الدخان والسكاكر.
أخذ الطفل ينظر إلى محلات بيع القرطاسية والحقائب وباعة الأدوات الكهربائية والزجاج المدهون باللون الأزرق.
وعندما انطلق الطفل متابعاً طريقه إلى المخبز كان يأتيه صوت أم ياسين وجلاً في بداية الأمر، وكلما ابتعد كلما كان صوتها يزداد ثقة ووضوحاً:
"اسقاط ثمانين طيارة اسرائيلية".
وكان الصوت يختلط مع صوت فيروز:
"خطوة قدمكم ع الأرض هدّارة