بائس أنت يا فائز! تلم بمدن غريبة لم تزرها، ترتجل أحلامك، كما يرتجل الطفل البريء كلماته الأولى، يراود سمعك صوت امرأة ندية، مبتل الإيقاع، تعال وادخل في دفء سريري، اركض في نبض اللذة وحقول المتعة. تعال ونم مثل ملاك في غيمة من عاج حيث يقف النعاس حارساً لنا. عندما أطل فائز من رأس "الزاروق" كان أبو مرعي قد أنهى بعض حساباته المالية مع "الدامرلي" أخذ منه أجرة الغرفة بعد أن قبل بتقسيط أجر الشهرين المكسورين. وقبل أن يقترب منه فائز، سارع إلى الترحيب به: - صباح الخير يا فائز! - صباح النور يا "أبو مرعي"! حدّق أبو مرعي في وجه القادم.. "وجه تكسو الكآبة ملامحه". همس لنفسه. - إلى أين مبكر؟ سأله أبو مرعي. - على وجه الله، أترزق! مد أبو مرعي يده وجذب "فائز" من يده وهو يقول: - تعال اقعد، واشرب كأس شاي معي في "المنشية". كان أبو مرعي يحدّث نفسه "يكمن فشل فايز في ثقته العمياء في الآخرين وفي سرعته في اتخاذ القرارات". - بدك الحقيقة يا أبو مرعي! "وتوقف فائز لحظة عن الحديث" إنني لا أحب القعدة معك! فوجىء أبو مرعي ولكنه تجاوز هذا التجريح الصريح وقال بلهجة مداعبة: - هكذا من الباب للطاقة! لماذا يا رجل؟ - إي سيدي، هكذا! أنت تقول عني أنني ناكر للجميل. فأي جميل لك عليّ؟ أنت تتكلم عني بالسوء. - لا يا فائز لا تغلط! "حاول أبو مرعي أن تكون لهجته أكثر جدية" يعلم الله أنني أحبك. ثم قل لي: هل تزعجك صداقتي إلى هذا الحد؟. - لا! أراد فائز أن يقول له: إنك ابن حرام ونصّاب، لكن الإنسان يجب أن يضع حداً لبعض الأمور. وهما يعبران باب المقهى، توقف أبو مرعي، وتوقف فائز الذي كان قد تجاوزه بخطوتين دون أن ينتبه، قال أبو مرعي: - والله لن يصير إلا كما تريد! هل نسيت يا رجل! بيننا رفقة عمر! - ولكنك يا أبو مرعي، بدك الصراحة، أنت لا تقدّر تعب الآخرين، ولا تقدّر تعبي! - لا. لا يا فائز "شو هالقد قلبك مليان". آخر مرة أعطيتك حقك أم لا؟ - أي حق يا رجل؟ لقد حفرت معك ثلاث ليال، ثم أين صارت الغواشي والحلق؟ "وطيّ صوتك يا زلمة، لا تفضحنا! صحيح إن طبعك غريب. هل أكلت عليك حسابك ولو مرة؟" - قل غير هذا الكلام يا رجل! عندما وصلا إلى الطاولة الرخامية الكبيرة وسط الحديقة، جاء نادل المقهى مسرعاً، طلب أبو مرعي كأسين من الشاي وتعمير نارجيلة له كالعادة، ثم التفت إلى فائز قائلاً: - اقعد يا رجل! والذي بخاطرك يصير. هل استقريت على عمل؟ - والله أترزق، أمشي مع السوق، اشتغلت ستة أيام مع البيسومي في حراسة أكوام الحبوب، لكنه لم يعجبني. - والآن؟ - أمشي مع السوق، أمس طلبني أبو حمزة رئيس البلدية. - وماذا يريد؟ سأل أبو مرعي بتوجس. - طلب مني ترقيم البيوت، وقال لي أن أمر عليه اليوم لأستلم سطل الدهان وريشة الترقيم. - غريب طبعك يا فايز.. بدك تظل تعمل في الحارات.. لو أنك طاوعتني لارتحت. (بلهجة استكانة تبدو لأول مرة) يرد فائز: - ماذا أفعل "يا أبو مرعي" الدنيا تركض وأنا أركض، دنيا بنت كلب. - طول عمرك تقول بدي أعمل، تقول شيطان راكبك! - الصحيح الشيطان راكبك أنت! يا رجل أريد أن أتفاهم معك وأن نتكلم، لدي لقطة جديدة، أريدك أن تكون معي! - طيب من أين لك الخريطة؟ من مغربي أم من تركي؟ - يا رجل أثرت فيّ المواجع، خريطة جديدة، أقول لك تشتغل معي كالعادة أم لا؟ - لا، هذه المرة نص بنص! - لا هذا كثير. يا فائز.. أنا أدفع لك النفقات وتريد محاصصتي على النصف؟ - الذي أوله شرط آخره سلامة. - يا سيدي قبلت، بس انتبه في حفر أكثر من المعتاد. - ولو! أنا على استعداد أن أحفر لاستانبول!. - اتفقنا! أمر بك غداً. جاء النادل يحمل كأسي شاي.. وعندما انصرف لتهيئة النارجيلة بدأ الرجلان يشربان الشاي. عندما ارتطم فأس فائز بغطاء الصندوق، ومضت عينا فائز وكأن العتمة انفتحت فجراً أمامه، ارتعشت أصابعه، واهتزت ركبتاه، أحس بخدر يتصاعد في قدمه، وانفجر فرح طاغ في صدره كبركان، رمى الفأس وجثا على التراب داخل الحفرة، كان بأصابعه، بأظفاره يزيل أكوام التراب حول الحجارة المصفوفة لكي يحرر الصندوق. وأبو مرعي يعاونه في زحزحة الحجارة المشطوفة، وعندما حاول فائز أن يحمل الصندوق إلى خارج الحفرة رمى أبو مرعي الفأس وتناول الصندوق بسرعة من بين الحجارة، ثم وضعه على حافة الحفرة، وبيد مدربة نزع رزة الصندوق في الوقت الذي كانت فيه يدا فائز ترفعان غطاء الصندوق الصدىء. فرك فائز عينيه، ثم عاد للتحديق في الصندوق، لم يكن ما رآه ذهباً بل كانت مجموعة من حذوات البغال الحديدية، والمسامير البغالية العديدة، ومجموعة من المسامير المختلفة القياسات. حمل فائز جسده بصعوبة وهو يسب ويلعن.. وضرب أبو مرعي كفاً بكف، كأنه ينفض عنهما الغبار وهو يسب ويلعن هو الآخر. حاول فائز أن ينهض.. كانت ركبتاه تصطكان.. لزم الصمت كأنما كان يغالب بركاناً من الغضب يتفجر في أعماقه السحيقة، ثم انتفض فجأة، وقال من بين أسنانه موجهاً كلامه لأبي مرعي: - هذا فراق بيني وبينك! لن أحفر معك ولو أنني سأعثر على ذهب العالم كله! وبعد أن ابتعد فائز قليلاً كان الليل ينبسط على روحه وكانت النجوم الوافرة تتراقص أمام عينيه فيحسها لا تضيء ولا تبرق. كان الليل يسري في روحه الجريحة، كان يدرك أن أحلامه تتباعد عنه كثيراً، أحس بخشونة صلبة تسري في جسده كله عندما قرر ومع أنفاس الفجر الأولى أن يحفر وحده في المرة القادمة.
بائس أنت يا فائز! تلم بمدن غريبة لم تزرها، ترتجل أحلامك، كما يرتجل الطفل البريء كلماته الأولى، يراود سمعك صوت امرأة ندية، مبتل الإيقاع، تعال وادخل في دفء سريري، اركض في نبض اللذة وحقول المتعة. تعال ونم مثل ملاك في غيمة من عاج حيث يقف النعاس حارساً لنا.
عندما أطل فائز من رأس "الزاروق" كان أبو مرعي قد أنهى بعض حساباته المالية مع "الدامرلي" أخذ منه أجرة الغرفة بعد أن قبل بتقسيط أجر الشهرين المكسورين.
وقبل أن يقترب منه فائز، سارع إلى الترحيب به:
- صباح الخير يا فائز!
- صباح النور يا "أبو مرعي"!
حدّق أبو مرعي في وجه القادم.. "وجه تكسو الكآبة ملامحه".
همس لنفسه.
- إلى أين مبكر؟ سأله أبو مرعي.
- على وجه الله، أترزق!
مد أبو مرعي يده وجذب "فائز" من يده وهو يقول:
- تعال اقعد، واشرب كأس شاي معي في "المنشية".
كان أبو مرعي يحدّث نفسه "يكمن فشل فايز في ثقته العمياء في الآخرين وفي سرعته في اتخاذ القرارات".
- بدك الحقيقة يا أبو مرعي! "وتوقف فائز لحظة عن الحديث" إنني لا أحب القعدة معك!
فوجىء أبو مرعي ولكنه تجاوز هذا التجريح الصريح وقال بلهجة مداعبة:
- هكذا من الباب للطاقة! لماذا يا رجل؟
- إي سيدي، هكذا! أنت تقول عني أنني ناكر للجميل. فأي جميل لك عليّ؟ أنت تتكلم عني بالسوء.
- لا يا فائز لا تغلط! "حاول أبو مرعي أن تكون لهجته أكثر جدية" يعلم الله أنني أحبك. ثم قل لي: هل تزعجك صداقتي إلى هذا الحد؟.
- لا! أراد فائز أن يقول له: إنك ابن حرام ونصّاب، لكن الإنسان يجب أن يضع حداً لبعض الأمور.
وهما يعبران باب المقهى، توقف أبو مرعي، وتوقف فائز الذي كان قد تجاوزه بخطوتين دون أن ينتبه، قال أبو مرعي:
- والله لن يصير إلا كما تريد! هل نسيت يا رجل! بيننا رفقة عمر!
- ولكنك يا أبو مرعي، بدك الصراحة، أنت لا تقدّر تعب الآخرين، ولا تقدّر تعبي!
- لا. لا يا فائز "شو هالقد قلبك مليان". آخر مرة أعطيتك حقك أم لا؟
- أي حق يا رجل؟ لقد حفرت معك ثلاث ليال، ثم أين صارت الغواشي والحلق؟
"وطيّ صوتك يا زلمة، لا تفضحنا! صحيح إن طبعك غريب. هل أكلت عليك حسابك ولو مرة؟"
- قل غير هذا الكلام يا رجل!
عندما وصلا إلى الطاولة الرخامية الكبيرة وسط الحديقة، جاء نادل المقهى مسرعاً، طلب أبو مرعي كأسين من الشاي وتعمير نارجيلة له كالعادة، ثم التفت إلى فائز قائلاً:
- اقعد يا رجل! والذي بخاطرك يصير. هل استقريت على عمل؟
- والله أترزق، أمشي مع السوق، اشتغلت ستة أيام مع البيسومي في حراسة أكوام الحبوب، لكنه لم يعجبني.
- والآن؟
- أمشي مع السوق، أمس طلبني أبو حمزة رئيس البلدية.
- وماذا يريد؟ سأل أبو مرعي بتوجس.
- طلب مني ترقيم البيوت، وقال لي أن أمر عليه اليوم لأستلم سطل الدهان وريشة الترقيم.
- غريب طبعك يا فايز.. بدك تظل تعمل في الحارات.. لو أنك طاوعتني لارتحت.
(بلهجة استكانة تبدو لأول مرة) يرد فائز:
- ماذا أفعل "يا أبو مرعي" الدنيا تركض وأنا أركض، دنيا بنت كلب.
- طول عمرك تقول بدي أعمل، تقول شيطان راكبك!
- الصحيح الشيطان راكبك أنت!
يا رجل أريد أن أتفاهم معك وأن نتكلم، لدي لقطة جديدة، أريدك أن تكون معي!
- طيب من أين لك الخريطة؟ من مغربي أم من تركي؟
- يا رجل أثرت فيّ المواجع، خريطة جديدة، أقول لك تشتغل معي كالعادة أم لا؟
- لا، هذه المرة نص بنص!
- لا هذا كثير. يا فائز.. أنا أدفع لك النفقات وتريد محاصصتي على النصف؟
- الذي أوله شرط آخره سلامة.
- يا سيدي قبلت، بس انتبه في حفر أكثر من المعتاد.
- ولو! أنا على استعداد أن أحفر لاستانبول!.
- اتفقنا! أمر بك غداً.
جاء النادل يحمل كأسي شاي.. وعندما انصرف لتهيئة النارجيلة بدأ الرجلان يشربان الشاي.
عندما ارتطم فأس فائز بغطاء الصندوق، ومضت عينا فائز وكأن العتمة انفتحت فجراً أمامه، ارتعشت أصابعه، واهتزت ركبتاه، أحس بخدر يتصاعد في قدمه، وانفجر فرح طاغ في صدره كبركان، رمى الفأس وجثا على التراب داخل الحفرة، كان بأصابعه، بأظفاره يزيل أكوام التراب حول الحجارة المصفوفة لكي يحرر الصندوق. وأبو مرعي يعاونه في زحزحة الحجارة المشطوفة، وعندما حاول فائز أن يحمل الصندوق إلى خارج الحفرة رمى أبو مرعي الفأس وتناول الصندوق بسرعة من بين الحجارة، ثم وضعه على حافة الحفرة، وبيد مدربة نزع رزة الصندوق في الوقت الذي كانت فيه يدا فائز ترفعان غطاء الصندوق الصدىء.
فرك فائز عينيه، ثم عاد للتحديق في الصندوق، لم يكن ما رآه ذهباً بل كانت مجموعة من حذوات البغال الحديدية، والمسامير البغالية العديدة، ومجموعة من المسامير المختلفة القياسات.
حمل فائز جسده بصعوبة وهو يسب ويلعن..
وضرب أبو مرعي كفاً بكف، كأنه ينفض عنهما الغبار وهو يسب ويلعن هو الآخر.
حاول فائز أن ينهض.. كانت ركبتاه تصطكان.. لزم الصمت كأنما كان يغالب بركاناً من الغضب يتفجر في أعماقه السحيقة، ثم انتفض فجأة، وقال من بين أسنانه موجهاً كلامه لأبي مرعي:
- هذا فراق بيني وبينك! لن أحفر معك ولو أنني سأعثر على ذهب العالم كله!
وبعد أن ابتعد فائز قليلاً كان الليل ينبسط على روحه وكانت النجوم الوافرة تتراقص أمام عينيه فيحسها لا تضيء ولا تبرق. كان الليل يسري في روحه الجريحة، كان يدرك أن أحلامه تتباعد عنه كثيراً، أحس بخشونة صلبة تسري في جسده كله عندما قرر ومع أنفاس الفجر الأولى أن يحفر وحده في المرة القادمة.