الحفر

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد أبو خضور | المصدر : www.awu-dam.org

مسكين أنت يا فائز! وأنت متمدد على التخت تحلم بعوالم جميلة مليئة بالنساء الفاتنات، الناعمات، أجسادهن ممشوقة وعيونهن ناعسة كحيلة، وبصندوق أو جرة من "طلامي" الذهب البراق، تفك به القيود التي تكبّل حياتك. تحلم بشراء الأراضي الشاسعة والخيول العديدة المطهمة، وتتخيل نفسك "إلهاً على الأرض تشير فيلبيك الجميع، تأمر فيطيعك الكل، ثم ما تلبث أن تستفيق على واقع قاس، لا رحمة فيه ولا عزاء".

عند الدقة الأولى من المنبّه، قام فايز ولف نفسه ببطانية. غطى رأسه وكتفيه ثم توجه نحو غرفة المطبخ. كان الليل ينشر رداءه على القرية، أشعل (بابور) الكاز ووضع عليه إبريق الشاي الصغير، ثم بدأ يتفقد الفانوس، أخيراً تناول علبة الثقاب ولفها بقطعة قماش ناشفة لفاً جيداً. ثم صب لنفسه كأساً من الشاي الساخن.‏

في ليلة كالحة كسواد الكحل، تسلل فائز وأبو مرعي إلى خارج القرية، يشقان حديقة الليل والخوف ثالثهما.‏

فائز يسوق البغل بتصميم وهدوء، يشد الرسن، وأبو مرعي يتتبع وهما يهبطان من على منحدر "عين زريزير" متوجهين نحو "قم غرز".‏

همس فائز لنفسه:‏

"لا يخرج في مثل هذه الليلة إلا مجنون".‏

ود أن ينطق بذلك الهاجس، أن يصرخ بمكنون ذاته إلى "أبو مرعي" الذي كان يسوّي خرج الحمولة ويمد يده هنا وهناك في الخرج ليتأكد من وجود "البيل" أو زوادة الخبز.‏

عندما وصلا إلى قمة منحدر يطل على جسر مكسور نط أبو مرعي إلى الأرض وطلب منه التوقف، شد فائز رسن البغل، كان أبو مرعي يعيد فك حطته ثم يعيد لفها حول وجهه من جديد.. حمل أبو مرعي "الخرج" مد يده فيه فأخرج كيس العليقة من خلطة الشعير، ناوله لفائز قائلاً:‏

- اربط البغل بالصخرة الكبيرة وحط له الخلطة. ثم مد يده إلى داخل عبه فتناول مصباح الإضاءة وخطا خطوات واسعة نحو صخرة كبيرة ثم جثا على ركبتيه وبدأ يحفر الأرض بمنكاش صغير حاد الأسنان.. وعلى ضوء المصباح ظهرت قبضتا الفأسين ثم قبضة الرفش الطويلة. حمل أبو مرعي أدوات الحفر وعاد نحو فائز الذي هرع نحوه ليساعده.‏

بدءا الحفر. كانت الضربات في بادىء الأمر بطيئة، ثم ما لبثت أن أصبحت سريعة وقوية، كان أبو مرعي قد حدد إطار الحفر ولهاثه يتعالى شيئاً فشيئاً. مرة أخرى أسند أبو مرعي ذراع الفأس إلى ركبته اليمنى ثم تف في راحتي يديه وعاود الحفر من جديد وهو يستحث فائز أن يماشيه في قوة وسرعة الحفر.‏

كان هواء الليل البارد يصفع الوجه، وبدأت حيوية دافقة تنتشر في أعطاف جسدي الرجلين المنهمكين في الحفر.‏

كان الهدوء يرفرف على المكان، لم يكن يُسمع إلا لهاث الرجلين، وضربات الفأسين المتتالية في عمق الأرض، لها صدى مكتوم.‏

لم يكن يساور أبو مرعي شك من ناحية فائز، فهو ابن قريته، وقد عمل معه وكان مطمئناً من ناحيته، ومع ذلك فإنه وأثناء الحفر تذرع مرتين بالتوقف عن الحفر وإعادة ربط دكة سرواله، بينما كانت أصابع يده تتحسس المسدس المخفي قرب صرته.‏

وكان فائز وهو منهمك في الحفر يتساءل:‏

"هل صحيح أن الخريطة التي يحفران بموجبها هي خريطة صحيحة؟ وأن ذلك الرجل التركي الذي ظل ثلاثة أيام يأكل الدجاج وصحون البيض بالسمن العربي ولبن الخاثر لم يضحك على "أبو مرعي"؟‏

كان فائز يشم وهو يحفر رائحة التراب الرطبة، وكان الهواء يلسع وجهه وسط الظلمة الحالكة وذرات التراب تتطاير على وجهه وعنقه.‏

وهما يحفران، أحس فائز فجأة أن رأس فأسه اصطدمت بشيء صلب، شيء قاس له ارتداد غير الارتداد الذي تعودته يداه عندما يصطدم فأسه بحجر أو جذع شجرة ميت، أهوى بالفأس مرة ثانية، كانت ضربته تلك استطلاعية، ليست لها القوة الكافية ولكنها كانت مركزة، فقد خاف أن تكون هناك قارورة زجاج أو جرة فخار، لكن فأسه غاصت في التراب المخلخل واصطدمت مرة ثانية بالشيء الصلب. وكان لضربته هذه المرة رنين مكبوت.. ولم يتمالك نفسه فأهوى بالفأس مرة ثالثة وهو يشعر وكأن شيطاناً قد تلبسّه ولم يتمالك أن يسكت، لم يتمالك أعصابه، رمى بالفأس هو يغمغم: أبو مرعي! أبو مرعي!‏

كان قد جثا على ركبتيه وبدأ يحفر بأصابع يديه، يتحسس موقع الحفر تمتليء راحتا كفيه بالتراب والحجارة الصغيرة، حجارة صوان، وحجارة كلسية تتفتت بين أصابعه، جس مكان الحفر فأدرك أنه بحاجة إلى مزيد من الحفر، قفز أبو مرعي نحوه وهو يتساءل:‏

- هاه! بشّر؟‏

- وصلت.‏

كلمة واحدة قالها فائز، واستراح وكأنه قد قطع العالم كله عدواً، شعر بصدره وكأنه يكاد يتمزق، كمن كان يركض في وجه عاصفة عاتية. ثم عاد يتحسس بأصابع يديه طبقة التراب الخفيف التي كانت تغطي سطح الصندوق الذي بدت منه مساحات بحجم راحة اليد على ضوء المصباح بيد أبو مرعي، مساحة سوداء يخالطها لون أحمر صريح رمحه أبو مرعي بكتفه وهو يحاول أن يفسح مكاناً لجسده، ويتحسس هو الآخر الصندوق.‏

بدأ فائز يزيح التراب من على جانبي الصندوق، ثم بدأ يضرب برأس فأسه وبرفق الحجارة المصفوفة حول الصندوق.‏

وكان أبو مرعي الملتاث يستمر في الهمهمة:‏

- أقلع الحجارة.. بسرعة يا رجل!‏

غرز فائز رأس الفأس بين حجرين ليوسع شقاً بين الحجارة التي سرعان ما تدحرجت الواحدة إثر الأخرى، وانحنى فائز بكامل جسده والتقط الصندوق، ضغط قليلاً، فارتفع الصندوق، احتضنه كوليد صغير، ثم خرج من الحفرة وأبو مرعي يمسك به، جلس الرجلان على طرف الحفرة فجأة استعاد أبو مرعي أعصابه فزجر فائز.‏

- يا رجل! مالك تهذوّل. اسكت!‏

كان فائز وهو يحتضن الصندوق يتخيل الأكياس القماشية العشرين، الأكياس المربوطة رؤوسها بخيطان صوفية ومثبتة باسوارة حديدية لها دمغة.‏

وعندما انحنى أبو مرعي لكي يتناول الصندوق من حضن فائز، أصابته الدهشة، كان فائز مغمى عليه، حاول انتزاعه من حضنه غير أن يديه كانتا متشبثتين بالصندوق تشبث الغريق بغصن شجرة، أو طرف مجذاف، كانت قبضتاه حول الصندوق كزنار حديدي أو سوار فولاذي.‏

ركض أبو مرعي يجلب "مطرة" الماء من الخرج، ورش وجه فائز، بالماء، رشه مرة ومرتين وثلاثاً هو يحوص في مكانه قلقاً، ترتجف يداه، يكاد يسمع وجيب قلبه، فليس الآن وقت الإغماء يا فائز هكذا همس بعتاب بينه وبين نفسه.‏

وعندما استعاد فائز وعيه بعد لحظات قليلة، بدا الرجلان كوحشين ضاريين، يعالجان الصندوق، أمسك كل واحد منهما بحلقة.. فائز يشد الصندوق نحوه، وأبو مرعي يشد الصندوق نحوه ثم فجأة اصطدمت اليدان وهما تفتشان عن رزة الغطاء، بسرعة البرق ثبت فائز رأس الفأس في حلقة الرزة ثم دفع إلى أمام وأعلى فانفتح الغطاء، ومد فائز يده، وفي الوقت ذاته هبط أبو مرعي بكامل جسده على الصندوق، امتلأت راحتا الرجلين بأوراق رقيقة، أوراق عريضة. وعلى ضوء المصباح الخفيف أدرك الرجلان أن ما عثرا عليه كان عملة ورقية ألمانية، مثل التي شاهداها عند "أبو محيي الدين" الشامي.‏

نفض فائز الصندوق، مرة ومرتين وتطايرت الأوراق وسمع اصطدام رزة الغطاء بجسم الصندوق الفارغ.. بصق على الأرض ثم رمى الصندوق بكامل قوته إلى بعيد.. نهره أبو مرعي وركض نحو الصندوق وجلبه ثم رماه في الحفرة وبدأ يهيل التراب.‏

انتابت فائز موجة من السعال العنيف، تدافعت أنفاسه إلى أعلى، أحس وكأن أصابع خفية في الهواء تطبق على عنقه، ثم على صدره، شعر بوخزات مؤلمة، وخزات متتابعة وحادة في صدره، تطلع إلى يديه المثقلتين تعباً. نفض التراب عنهما وقام، مشى بعض خطوات، كبحار نشر أشرعته الخائبة دون هبة ريح، ومضى مكسوراً وسط انبثاق الفجر من وشاح ليل طويل كئيب