ما أن انتهت ساعات عطلته الأسبوعية في وظيفته اللعينة، حتى بكّر في الخروج من البيت بسرعة. أراد أن ينسى كل شيء. وكان يود أن يمر في السوق كالصاروخ خوفاً من نداءات "السيدا" صاحب البقالية. مضى وهو يتمتم "لا حول ولا قوة إلا بالله". عندما وصل إلى المكتب، تململ زميله قليلاً. ثم سحب ساقيه واستوى في جلسته، ومد يده وتناول العلمين الأحمر والأخضر ورماهما في حضنه، ثم ناوله إبريق الزيت الأسود، وقال له بكلمات مقتضبة جداً: - قطار عمّان يمر الساعة 11! كان يبحث عن شيء يقوله- تثاءب وشعر فجأة أنه يجب أن يتحرك، نظر إلى زميله السمين، ثم حوّل بصره إلى قدميّ زميله الكبيرتين، وعندما مضى خارج الغرفة خيّل إليه أنه ينتعهما على الأرض نتعاً. انسحب إلى نافذة المكتب، وتابع زميله وهو يبتعد، كان ينظر إليه وهو يدحرج جسده. تناول كأساً ثم رفع إبريق الشاي، ودلق الشاي في الكأس. خطرت له صورة زوجته، وهمس: إنها شريرة بالفطرة، تحترف الشر، عيناها تقدحان لؤماً وناراً، وأنفها يتحدب كمنقار صقر، ولكي تبتسم تُحرك حنكها ببطء. لا يعرف كيف راودته جملة "لقد قرفت حياتي" غير أنه لكي يخفف وقع النهار وهو ما زال في بدايته تذكر جملة صديقه يحيى التي لا يفتأ يرددها "ارم الدنيا وراء ظهرك"! كان يدرك أنه يراوغ الدمع بالنكتة السافلة. تطلع إلى زجاج النافذة، فطالعه وجهه بذقن نابتة الشعر، مد يده فمسد ذقنه ثم هاجمه هاجس. - "وماذا لو أنني لا أفتح المقص"؟ - ستكون كارثة! وسيكون السجن أو الإعدام من نصيبك!! أجابه هاجس آخر. كانت غرفة تبديل المقص، تقبع على مرتفع صخري، مبنية من الأحجار البازلتية السوداء، المقطعة والمقصبة جيداً، تحيط بها الأشجار، أشجار الكينا والفلفل الكاذب والسرو باللون الأخضر الداكن، وغالباً ما ينعكس ضوء الشمس على النافذة الجنوبية للغرفة، بعد أن تكسواه ظلال أغصان شجرة الكينا القريبة التي تتقافز فوق أغصانها مئات العصافير، عصافير تملأ زقزقتها الدنيا، ورفيف أجنحتها وهي تطير وتحط فيتساقط ريشها متناثراً في كل مكان. وضع إبريق الزيت في زاوية الغرفة. ثم رمى العلمين الأحمر والأخضر فوق الطاولة الخشبية، طاولة بنية اللون، محفورة قوائمها الأربع على هيئة ثعبانين ملتحمين. جال ببصره في الغرفة الممتلئة بضوء الشمس. كان متوتراً وكئيباً. ووقف أمام النافذة، وأخذ ينظر إلى السهل الممتلىء بالعشب والأزهار البرية وإلى العصافير المرحة الصغيرة تطير وتحط على أغصان شجرة الكينا، التي أحبت عبث الطيور فهدلت أغصانها الخضراء نشوة ومتعة، تطلع نحو بيوت درعا البعيدة والراقدة في هدوء، شاهد خيطاً من دخان أسود ينبعث من إحدى مداخن "الدبو" ظل يحدّق فيه إلى أن تلاشى، كان باب الغرفة مفتوحاً، ورأى الدرجات الست العريضة المنحدرة إلى الطريق الرملي الضيق حيث ينتهي حذاء الخط الحديدي وجهاز المقص. خطا نحو المنضدة، كان دفتر اليومية الخاص بكتابة توقيت مرور القطارات مرمياً، وعليه تمدد قلم كوبيا وختم نحاسي ثقيل. بينما كانت لائحة مواعيد إقلاع ووصول القطارات مائلة على الجدار تحت الساعة الجدارية من ماركة "لونجين". جلس على المقعد الخشبي الأخضر. المكتوب على ظهره بدهان أبيض خفيف حرفا: س. ج، شبك أصابعه أمامه. أبعد الهاتف الأسود. تناول قلم الكوبيا وسجّل ساعة دوامه، وتحرك متثاقلاً خارج الغرفة، وعندما وصل إلى المقص، تطلع بدقة إلى مفاصل المقص المعدنية القصيرة ذات القاعدة الملتصقة بالخط الحديدي، جذب الذراع القصيرة إلى أعلى، ثم دلق قليلاً من الزيت، أعاد الذراع إلى مكانها الأول ثم جذبها مرة ثانية ودورها دورة كاملة وهو يراقب (دامر) الحديد يفتح الطريق الجديدة أمام القطار القادم. ولأمر لايدرك كنهه أفاق على ذاته وهو يهمس: - قطارات عديدة مرت! وستمر قطارات أخر. عاد إلى الغرفة لتناول كأس من الشاي. ظل جالساً إلى أن فاجأه صفير القطار المتوجه إلى دمشق. قفز من الغرفة وهو يحمل العلمين، وبسرعة فرد العلم الأخضر والقطار يلتوي كالثعبان، كان صفيره متواصلاً وهو ينعطف مع المنحنى الطويل. وقف أمام المقص وهو يلّوح بالعلم الأخضر، تطلع إلى أعلى فرأى وجه سائق القطار يطل عليه من النافذة الجانبية و"البيريه" الزرقاء على رأسه، وسلم عليه بشد خيط صفارة القطار مرتين، ووجد نفسه لا شعورياً، يرد تحيته برفع العلم الأخضر مرتين. نفث القطار المطلي بلون بني فاتح دفقة طويلة من البخار الأبيض، وهو يجتازه مخففاً سرعته، وكانت أعمدة الهاتف وجدران المباني تنعكس على نوافذه ذات المزالج التي تقي من الشمس، ولكنها تدع الهواء يتسرب من الشقوق المواربة. وتراءت له خيالات الركاب في عربات الدرجة الأولى المكسوة بالجلد وذات المقاعد التي لها وسائد، ثم مرت عربات الدرجة الثانية بمقاعدها الخشبية التي تتسع لخمسة أشخاص، ثم عبرت عربات الدرجة الثالثة. ولمح الركاب فيها يجلسون ظهراً لظهر ثم عبرت "الفراكين" المحملة بالبضائع ثم الفراغ، وفضاء المكان. طوى العلم الأخضر، وتلمّس قماشه الناعم الهفهاف بأصابعه وراح يحدّق باحثاً دون جدوى عن العصافير التي فرت من ضجيج القطار
ما أن انتهت ساعات عطلته الأسبوعية في وظيفته اللعينة، حتى بكّر في الخروج من البيت بسرعة.
أراد أن ينسى كل شيء. وكان يود أن يمر في السوق كالصاروخ خوفاً من نداءات "السيدا" صاحب البقالية. مضى وهو يتمتم "لا حول ولا قوة إلا بالله".
عندما وصل إلى المكتب، تململ زميله قليلاً. ثم سحب ساقيه واستوى في جلسته، ومد يده وتناول العلمين الأحمر والأخضر ورماهما في حضنه، ثم ناوله إبريق الزيت الأسود، وقال له بكلمات مقتضبة جداً:
- قطار عمّان يمر الساعة 11!
كان يبحث عن شيء يقوله- تثاءب وشعر فجأة أنه يجب أن يتحرك، نظر إلى زميله السمين، ثم حوّل بصره إلى قدميّ زميله الكبيرتين، وعندما مضى خارج الغرفة خيّل إليه أنه ينتعهما على الأرض نتعاً.
انسحب إلى نافذة المكتب، وتابع زميله وهو يبتعد، كان ينظر إليه وهو يدحرج جسده.
تناول كأساً ثم رفع إبريق الشاي، ودلق الشاي في الكأس. خطرت له صورة زوجته، وهمس: إنها شريرة بالفطرة، تحترف الشر، عيناها تقدحان لؤماً وناراً، وأنفها يتحدب كمنقار صقر، ولكي تبتسم تُحرك حنكها ببطء.
لا يعرف كيف راودته جملة "لقد قرفت حياتي" غير أنه لكي يخفف وقع النهار وهو ما زال في بدايته تذكر جملة صديقه يحيى التي لا يفتأ يرددها "ارم الدنيا وراء ظهرك"!
كان يدرك أنه يراوغ الدمع بالنكتة السافلة.
تطلع إلى زجاج النافذة، فطالعه وجهه بذقن نابتة الشعر، مد يده فمسد ذقنه ثم هاجمه هاجس.
- "وماذا لو أنني لا أفتح المقص"؟
- ستكون كارثة! وسيكون السجن أو الإعدام من نصيبك!!
أجابه هاجس آخر.
كانت غرفة تبديل المقص، تقبع على مرتفع صخري، مبنية من الأحجار البازلتية السوداء، المقطعة والمقصبة جيداً، تحيط بها الأشجار، أشجار الكينا والفلفل الكاذب والسرو باللون الأخضر الداكن، وغالباً ما ينعكس ضوء الشمس على النافذة الجنوبية للغرفة، بعد أن تكسواه ظلال أغصان شجرة الكينا القريبة التي تتقافز فوق أغصانها مئات العصافير، عصافير تملأ زقزقتها الدنيا، ورفيف أجنحتها وهي تطير وتحط فيتساقط ريشها متناثراً في كل مكان.
وضع إبريق الزيت في زاوية الغرفة. ثم رمى العلمين الأحمر والأخضر فوق الطاولة الخشبية، طاولة بنية اللون، محفورة قوائمها الأربع على هيئة ثعبانين ملتحمين.
جال ببصره في الغرفة الممتلئة بضوء الشمس. كان متوتراً وكئيباً. ووقف أمام النافذة، وأخذ ينظر إلى السهل الممتلىء بالعشب والأزهار البرية وإلى العصافير المرحة الصغيرة تطير وتحط على أغصان شجرة الكينا، التي أحبت عبث الطيور فهدلت أغصانها الخضراء نشوة ومتعة، تطلع نحو بيوت درعا البعيدة والراقدة في هدوء، شاهد خيطاً من دخان أسود ينبعث من إحدى مداخن "الدبو" ظل يحدّق فيه إلى أن تلاشى، كان باب الغرفة مفتوحاً، ورأى الدرجات الست العريضة المنحدرة إلى الطريق الرملي الضيق حيث ينتهي حذاء الخط الحديدي وجهاز المقص.
خطا نحو المنضدة، كان دفتر اليومية الخاص بكتابة توقيت مرور القطارات مرمياً، وعليه تمدد قلم كوبيا وختم نحاسي ثقيل. بينما كانت لائحة مواعيد إقلاع ووصول القطارات مائلة على الجدار تحت الساعة الجدارية من ماركة "لونجين".
جلس على المقعد الخشبي الأخضر. المكتوب على ظهره بدهان أبيض خفيف حرفا: س. ج، شبك أصابعه أمامه.
أبعد الهاتف الأسود. تناول قلم الكوبيا وسجّل ساعة دوامه، وتحرك متثاقلاً خارج الغرفة، وعندما وصل إلى المقص، تطلع بدقة إلى مفاصل المقص المعدنية القصيرة ذات القاعدة الملتصقة بالخط الحديدي، جذب الذراع القصيرة إلى أعلى، ثم دلق قليلاً من الزيت، أعاد الذراع إلى مكانها الأول ثم جذبها مرة ثانية ودورها دورة كاملة وهو يراقب (دامر) الحديد يفتح الطريق الجديدة أمام القطار القادم.
ولأمر لايدرك كنهه أفاق على ذاته وهو يهمس:
- قطارات عديدة مرت! وستمر قطارات أخر.
عاد إلى الغرفة لتناول كأس من الشاي.
ظل جالساً إلى أن فاجأه صفير القطار المتوجه إلى دمشق. قفز من الغرفة وهو يحمل العلمين، وبسرعة فرد العلم الأخضر والقطار يلتوي كالثعبان، كان صفيره متواصلاً وهو ينعطف مع المنحنى الطويل.
وقف أمام المقص وهو يلّوح بالعلم الأخضر، تطلع إلى أعلى فرأى وجه سائق القطار يطل عليه من النافذة الجانبية و"البيريه" الزرقاء على رأسه، وسلم عليه بشد خيط صفارة القطار مرتين، ووجد نفسه لا شعورياً، يرد تحيته برفع العلم الأخضر مرتين.
نفث القطار المطلي بلون بني فاتح دفقة طويلة من البخار الأبيض، وهو يجتازه مخففاً سرعته، وكانت أعمدة الهاتف وجدران المباني تنعكس على نوافذه ذات المزالج التي تقي من الشمس، ولكنها تدع الهواء يتسرب من الشقوق المواربة.
وتراءت له خيالات الركاب في عربات الدرجة الأولى المكسوة بالجلد وذات المقاعد التي لها وسائد، ثم مرت عربات الدرجة الثانية بمقاعدها الخشبية التي تتسع لخمسة أشخاص، ثم عبرت عربات الدرجة الثالثة. ولمح الركاب فيها يجلسون ظهراً لظهر ثم عبرت "الفراكين" المحملة بالبضائع ثم الفراغ، وفضاء المكان.
طوى العلم الأخضر، وتلمّس قماشه الناعم الهفهاف بأصابعه وراح يحدّق باحثاً دون جدوى عن العصافير التي فرت من ضجيج القطار