كان يعرف كلّ شيء عنها، وما تحويه حقيبة يدها، وكان يدرك سرّ نظراتها العطشى لكن مواقف أبيها المشينة رسمت ظلالاً قاتمة حجبت عنه الرؤية، وجعلته غير آبه بسهام عينيها وبهمسات شفتيها القرمزيتين.. اقتربت منه حتى لامست أنفاسها أديم خده، فأغمض عينيه، وغاص في حلم جميل.. رفيف الأحلام يفتت كلّ الشظايا ويردم الهوّة، والشذا يغمر العمر ضباباً من ذهول.. ظمأى تبحث عن منهل في عينين أرمدهما القلق.. تهرع خلف ذبالة قنديلي التي تنوس من وطأة الكوابيس كابتسامة الرجاء.. يا أنت ذي اعبثي بقلبي ماشئت، فالوجد يمزق مواجعي يزيدها شقاء، والنار تتشهاها الأنفس إن كابدت صقيع الشتاء.. اعتصرت كتفي بقوة، وهمست متنهدة: - أين وهج عينيك؟! كان والله يملأ الدنيا بريقاً.. ما الذي غيرك؟! أمرور الدهر أم عصف الهموم؟ أفقت مذعوراً، وعجزت شفتاي اليابستان عن البوح.. - سليم. ما بك ؟! - أنا تعب يا أحلام، الهموم تعشش في دمي، والشوك يغتال الطريق، وكلّ من حولي مطفأة عيونهم فكيف يشعلها البريق. - لن أتخلى عنك يا بن عمي.. لا تخف.. - صحيح يا أحلام؟ هزّت رأسها بتثاقل، وقالت بأسى: - سأسوي الأمر مع أبي بعد أن تقابله. - ومتى أستطيع مقابلته؟ - بعد أن تفرغ من عملك، فهو من يوّد رؤيتك. - إذاً أخبريه بأني سأكون عنده بعد ساعة من الزمن. - سأنتظرك. شيعت العينان الناعستان طيف أحلام وهي تعدو متمايلة تاركة عطرها مخيماً في أجواء مكتبه المتواضع.. نهر الأحلام يغرق مراكب الماضين، ويرجف أشرعة الآتين.. عواصف الروح تحيل الرماد في الصدر جمراً.. رباه.. كيف يغدو الصقيع أتون عشق؟ وكيف تزهر دمن النفس البتول؟ القلب يرسم في المتاهة نزفه الآتي، فهل ترد لي يا أبا أحلام بعضاً من حلم؟ هأنذا قادم إليك بخطا الأمل، وأعرف أن كلمة منك وتصبح الأرض موسماً.. أبا أحلام برغم كلّ ما فعلته بأبي سأكون طوع بنانك إن أطفأت السعير وبددت افتراءات السراب.. آه يا عماه.. أرجو أن تفعل الخير ولو مرة واحدة في حياتك.. طرقات الباب توقظ الماضي وتستشرف آفاق المستقبل.. - أهلاً سليم تفضل.. - ما بك راجفة يا أحلام؟ - أبي يا سليم.. أبي.. أجهشت أحلام بالبكاء، وتهاوت على الأريكة تلملم دموعها المتناثرة.. - كفي عن البكاء يا أحلام أرجوك.. إن بكاءك يدمي قلبي.. - لكنه أبي وكلّ حياتي.. - مابه؟ - اذهب إليه، وستعرف. كان أبو أحلام يذرع أرض الغرفة جيئة وذهاباً، يتحسس كلّ آونة كتفاً مائلاً، فيقلّب كفيه حسرة، ويزفر أسى ولوعة.. تأملته دهشاً: كان وجهه الطويل يقطر سمّاً، وعيناه شاردتين.. يجرّ خطاه بتثاقل.. يقف كلّ هنيهة لتغوص عيناه في بحر من الهواجس والظنون.. تنبه لوجودي، فاحتضنني للمرة الأولى في حياته، وقد دمعت عيناه، وتراجفت شفتاه. - ما بك يا عماه؟ - ابن الأكتع كاد أن يسحق عظامي لولا رحمة الله تداركتني.. - ولد يثأر لأبيه.. امتقع وجهه، ونكّس طرفة، وتمتم بحزن: - أنا عمك شئت ذلك أم أبيت.. أرجوك ألا تحاسبني على الماضي.. إنه مازال يؤلمني. أتوسل إليك يا بن أخي أن تثأر لي، ولن أخيّب ظنك أبداً.. - لا تخف يا عماه.. لن يمسك بعد اليوم بسوء أبداً. *** وهج الضحى يبني لي قصوراً على شاطئ الأمل، ويسرج لي جواداً على صهوته يرتل الشوق لحناً من السعادة.. كلّ المسافات وهم، وكلّ المروءات زيف، وكلّ الفصول غبار.. الأبواب الموصدة سأفتحها باباً باباً لتطأ سنابك خيولي أديم الوهم، وترى عيناك يا أحلام ضفاف الوعد معطرة بأريج الصباحات القادمة.. غرس سليم أصابعه في كف حديدية لا تفارق جيبه.. نتوءاتها تقطر رعباً.. - ما هذا يا سليم؟! - ماذا فعلت بعمي يابن الأكتع؟ - سليم.. عمك لص وقاتل، وأنت أحد ضحاياه أنسيت؟! والله لولاك لسحقت عظامه. - إذن خذ.. *** خلف القضبان ناجي سليم صباه الذي ضاع.. مازال يفيق على جرح، وتغفو أعوام عمره فوق لوعة.. يحملق في كلّ جدار فلا ترى عيناه سوى سحائب الوهم محفورة بسهام الرغبة وذكريات متناثرة، وأعوام سحقتها عيون الرجاء ودموع الأمل.. وقفت أحلام أمامه حزينة.. تأملها بزهو.. كانت دموعها ترسم على الوجنتين خارطة المستقبل، وعلى شفتيها النديتين تمتمات شاحبة.. - ماذا فعلت يا سليم؟! - لأجلك يا أحلام.. - بل قل لأجل أحلامك.. - أجل وأنت تعرفين الحقيقة.. - وماذا أعرف يا سليم؟ - تعرفين لِمَ أعرّض نفسي للمخاطر، ولِمَ ألقي بنفسي في التهلكة.. إن من أبكى عينيك يجب أن يبكي دماً.. - ولكنك يا سليم قد تمكث هنا طويلاً.. - لن يطول مكوثي طالما أنت بجانبي.. - لن أتخلى عنك صدقني يا سليم ولكن.. - ماذا تودين قوله؟! أفصحي يا بنة العم. - قد لا أستطيع زيارتك فترة طويلة.. ستعذرني يا سليم أليس كذلك؟ العينان تحدقان ببلاهة تلقيان على الضوء كلّ الأوزار ليبقى اللهب المغلغل في الشرايين يحرق بهمجية كلّ أنسجة الوهم.. قال لها ولمّا يزل في نبضه بعض ارتعاش: - لِمَ يا أحلام؟! أشارت أحلام باستحياء إلى بنصر كفها الأيمن، فخطف وهج الذهب بريق عينيه، وطأطأ رأسه، واستدار، ومن ترنيمة جرحه المعرش في دمه كان ثمة صوت يناديه: لست تعرف عن الأنثى كلّ شيء، ولن تعرف حقيقة ما في حقيبة يدها أبداً,, أفق يا سليم.. أما زلت تسرج صهوة الأحلام في فضاء بلا سماء؟ أما زلت تهدهد الأموات في توابيت الثراء؟ ها هو حلمك وقد أفقت منه بقبضة من هواء
كان يعرف كلّ شيء عنها، وما تحويه حقيبة يدها، وكان يدرك سرّ نظراتها العطشى لكن مواقف أبيها المشينة رسمت ظلالاً قاتمة حجبت عنه الرؤية، وجعلته غير آبه بسهام عينيها وبهمسات شفتيها القرمزيتين..
اقتربت منه حتى لامست أنفاسها أديم خده، فأغمض عينيه، وغاص في حلم جميل..
رفيف الأحلام يفتت كلّ الشظايا ويردم الهوّة، والشذا يغمر العمر ضباباً من ذهول.. ظمأى تبحث عن منهل في عينين أرمدهما القلق.. تهرع خلف ذبالة قنديلي التي تنوس من وطأة الكوابيس كابتسامة الرجاء..
يا أنت ذي اعبثي بقلبي ماشئت، فالوجد يمزق مواجعي يزيدها شقاء، والنار تتشهاها الأنفس إن كابدت صقيع الشتاء..
اعتصرت كتفي بقوة، وهمست متنهدة:
- أين وهج عينيك؟! كان والله يملأ الدنيا بريقاً.. ما الذي غيرك؟! أمرور الدهر أم عصف الهموم؟
أفقت مذعوراً، وعجزت شفتاي اليابستان عن البوح..
- سليم. ما بك ؟!
- أنا تعب يا أحلام، الهموم تعشش في دمي، والشوك يغتال الطريق، وكلّ من حولي مطفأة عيونهم فكيف يشعلها البريق.
- لن أتخلى عنك يا بن عمي.. لا تخف..
- صحيح يا أحلام؟
هزّت رأسها بتثاقل، وقالت بأسى:
- سأسوي الأمر مع أبي بعد أن تقابله.
- ومتى أستطيع مقابلته؟
- بعد أن تفرغ من عملك، فهو من يوّد رؤيتك.
- إذاً أخبريه بأني سأكون عنده بعد ساعة من الزمن.
- سأنتظرك.
شيعت العينان الناعستان طيف أحلام وهي تعدو متمايلة تاركة عطرها مخيماً في أجواء مكتبه المتواضع..
نهر الأحلام يغرق مراكب الماضين، ويرجف أشرعة الآتين.. عواصف الروح تحيل الرماد في الصدر جمراً.. رباه.. كيف يغدو الصقيع أتون عشق؟ وكيف تزهر دمن النفس البتول؟ القلب يرسم في المتاهة نزفه الآتي، فهل ترد لي يا أبا أحلام بعضاً من حلم؟
هأنذا قادم إليك بخطا الأمل، وأعرف أن كلمة منك وتصبح الأرض موسماً..
أبا أحلام برغم كلّ ما فعلته بأبي سأكون طوع بنانك إن أطفأت السعير وبددت افتراءات السراب.. آه يا عماه.. أرجو أن تفعل الخير ولو مرة واحدة في حياتك..
طرقات الباب توقظ الماضي وتستشرف آفاق المستقبل..
- أهلاً سليم تفضل..
- ما بك راجفة يا أحلام؟
- أبي يا سليم.. أبي..
أجهشت أحلام بالبكاء، وتهاوت على الأريكة تلملم دموعها المتناثرة..
- كفي عن البكاء يا أحلام أرجوك.. إن بكاءك يدمي قلبي..
- لكنه أبي وكلّ حياتي..
- مابه؟
- اذهب إليه، وستعرف.
كان أبو أحلام يذرع أرض الغرفة جيئة وذهاباً، يتحسس كلّ آونة كتفاً مائلاً، فيقلّب كفيه حسرة، ويزفر أسى ولوعة..
تأملته دهشاً: كان وجهه الطويل يقطر سمّاً، وعيناه شاردتين.. يجرّ خطاه بتثاقل.. يقف كلّ هنيهة لتغوص عيناه في بحر من الهواجس والظنون..
تنبه لوجودي، فاحتضنني للمرة الأولى في حياته، وقد دمعت عيناه، وتراجفت شفتاه.
- ما بك يا عماه؟
- ابن الأكتع كاد أن يسحق عظامي لولا رحمة الله تداركتني..
- ولد يثأر لأبيه..
امتقع وجهه، ونكّس طرفة، وتمتم بحزن:
- أنا عمك شئت ذلك أم أبيت.. أرجوك ألا تحاسبني على الماضي.. إنه مازال يؤلمني. أتوسل إليك يا بن أخي أن تثأر لي، ولن أخيّب ظنك أبداً..
- لا تخف يا عماه.. لن يمسك بعد اليوم بسوء أبداً.
***
وهج الضحى يبني لي قصوراً على شاطئ الأمل، ويسرج لي جواداً على صهوته يرتل الشوق لحناً من السعادة.. كلّ المسافات وهم، وكلّ المروءات زيف، وكلّ الفصول غبار.. الأبواب الموصدة سأفتحها باباً باباً لتطأ سنابك خيولي أديم الوهم، وترى عيناك يا أحلام ضفاف الوعد معطرة بأريج الصباحات القادمة..
غرس سليم أصابعه في كف حديدية لا تفارق جيبه.. نتوءاتها تقطر رعباً..
- ما هذا يا سليم؟!
- ماذا فعلت بعمي يابن الأكتع؟
- سليم.. عمك لص وقاتل، وأنت أحد ضحاياه أنسيت؟! والله لولاك لسحقت عظامه.
- إذن خذ..
خلف القضبان ناجي سليم صباه الذي ضاع.. مازال يفيق على جرح، وتغفو أعوام عمره فوق لوعة.. يحملق في كلّ جدار فلا ترى عيناه سوى سحائب الوهم محفورة بسهام الرغبة وذكريات متناثرة، وأعوام سحقتها عيون الرجاء ودموع الأمل.. وقفت أحلام أمامه حزينة.. تأملها بزهو.. كانت دموعها ترسم على الوجنتين خارطة المستقبل، وعلى شفتيها النديتين تمتمات شاحبة..
- ماذا فعلت يا سليم؟!
- لأجلك يا أحلام..
- بل قل لأجل أحلامك..
- أجل وأنت تعرفين الحقيقة..
- وماذا أعرف يا سليم؟
- تعرفين لِمَ أعرّض نفسي للمخاطر، ولِمَ ألقي بنفسي في التهلكة.. إن من أبكى عينيك يجب أن يبكي دماً..
- ولكنك يا سليم قد تمكث هنا طويلاً..
- لن يطول مكوثي طالما أنت بجانبي..
- لن أتخلى عنك صدقني يا سليم ولكن..
- ماذا تودين قوله؟! أفصحي يا بنة العم.
- قد لا أستطيع زيارتك فترة طويلة.. ستعذرني يا سليم أليس كذلك؟
العينان تحدقان ببلاهة تلقيان على الضوء كلّ الأوزار ليبقى اللهب المغلغل في الشرايين يحرق بهمجية كلّ أنسجة الوهم..
قال لها ولمّا يزل في نبضه بعض ارتعاش:
- لِمَ يا أحلام؟!
أشارت أحلام باستحياء إلى بنصر كفها الأيمن، فخطف وهج الذهب بريق عينيه، وطأطأ رأسه، واستدار، ومن ترنيمة جرحه المعرش في دمه كان ثمة صوت يناديه:
لست تعرف عن الأنثى كلّ شيء، ولن تعرف حقيقة ما في حقيبة يدها أبداً,,
أفق يا سليم.. أما زلت تسرج صهوة الأحلام في فضاء بلا سماء؟
أما زلت تهدهد الأموات في توابيت الثراء؟
ها هو حلمك وقد أفقت منه بقبضة من هواء