الريح النائحة في الخارج
تندفع بعرامة، وهي تجلد البيوت، والمارة، والأشجار، والشوارع الإسفلتية التي قتل البرد على شفتيها أغنية دافئة، والسماء ملبدة بغيوم داكنة
*البرد شديد في هذا اليوم.
-كل الأيام باتت باردة.
اقترب من النافذة.
في حين ظلت منار تقف في مكانها، شجرة محملة بالحزن والسواد والوسامة، وهي تحدق في الفراغ بعينين ذاهلتين، حزينتين، ذابلتين.
إحساسي بالبرد يتزايد.
كلما رأيت من النافذة رؤوس الأشجار العالية، تضطرب وتهتز، وهي تقاوم الريح العاصفة بضراوة، وترفض الانحناء للريح بعناد وإصرار.
*إنها تقاوم.
-من هي؟
-الأشجار في الخارج.
-هي دائماً هكذا، تموت الأشجار وهي واقفة.
تحركت منار من مكانها.
ملفحة بالسواد، والحزن، والذبول، وعيناها شاردتان، تائهتان، لا تستقران على مكان محدد، دارت، ثم وقفت بجواري صامتة.
منذ أن مات عبد الله وهي على هذه الحال، من الشرود، والحزن والصمت، والوحدة، منقطعة عن الناس، ونادراً ما تخرج من دارها تعيش مع ذكرياتها، وأحزانها، والوقوف طويلاً أمام صورة زوجها المعلقة على الجدار، وعندما نظرت في عينيها، رأيت ألماً، وانسحاقاً مريراً، عبر احمرار العينين، وذبول الوجه.
-أما آن لهذا الحزن أن ينتهي؟
-بات الحزن كل ما أملك.
-أنت تنتحرين
-لم يعد لحياتي معنى.
-لست الوحيدة التي فقدت زوجها.
-كان كل مواسمي.
-ولكنه مات.
تمايلت في وقفتها.
اهتزت. حتى خفت عليها من السقوط
وبسرعة استندت على الجدار، وانفجرت بالبكاء، كان بكاء حاراً هو خليط من الأنين، والوجع، والعجز، والتفجع، واللوعة، بكاء مراً، يكشف عن حالة الألم، والمرارة، والشقاء التي تعانيها من الفاجعة، والتي ترفض بإصرار وعناد، تصديق حدوثها، رغم أنها تعزت فيه، ورأت جسده محمولاً في التابوت على أكتاف الرجال، ومداومتها على زيارة قبره كل يوم جمعة، ووضعها أغصان الأس الخضراء، والخطمية عليه.
انفجرت بالبكاء دفعة واحدة.
وكأنها المرة الأولى التي تسمع بوفاته، وكل ما فيها يرتعش، وكل ما فيها كان يبكي بلوعة، وحرقة، وألم، وعذاب.
آلمتني حالها.
والوضع المحزن الذي هي فيه، اقتربت منها، وأمسكت بها من كتفها بيد مرتجفة، مضطربة، وصرخت بها بصوت مخنوق، راعف بالبكاء والتوسل:
*أرجوك. توقفي عن البكاء.
-دعني وحدي، أرجوك دعني.
ثم انهارت فوق المقعد القريب، مثل جدار متداع، مخفية وجهها بكفيها المرتجفتين، وراحت تنشج بصمت، نشيجاً يحز القلب، ويدمي الروح.
فانسحبت من أمامها بهدوء.
وأنا أحس بضعفها، وتوترها، وبؤسها، وكآبتها، وإصرارها على التشبث بالماضي، والعيش معه، وكل ما في يتألم.
كنت عاجزاً تماماً في تلك اللحظة، عن فعل أي شيء، يمكن أن يعينها على حالتها، ويعيد إليها هدوءها، وتوازنها، واستقرارها، وسكينتها، وينهي هذا التشظي المميت في روحها، غير إحساسي بالحزن، والحنان، والشفقة، والعطف عليها، ورغبتي في البكاء من أجلها.
كنت مشلولاً تماماً.
وعاجزاً تماماً.
فوقفت أمام المكتبة.
ورحت اقرأ عناوين الكتب، دون اهتمام أو مبالاة، كنت مشدوداً عند منار النائحة، وكنت أريد التلهي بأي شيء، ريثما تتوقف عن البكاء، ويصبح بالإمكان الحديث معها، لأن الحالة التي هي فيها، لا تساعد على الحديث أو التدخل.
عندما انقطع نشيجها، أدركت أنها توقفت عن البكاء، التفت، كانت منار تمسح دموعها، وقبل أن أقول لها أي شيء، تحاملت على نفسها، ووقفت مثل راية مهزومة، ثم مشت حتى وقفت أمام صورة عبد الله المعلقة على الجدار، والموشحة بشريطة سوداء، وراحت تحدق فيها بصمت ذاهل. والريح في الخارج.كانت تنوح مثل امرأة ثكلى، وهي تندفع بجنون، وضراوة في قلب المدينة المقرورة.
-منار.
ظلت منار صامتة.
لم ترد، لم تلتفت، وكأنها لم تسمع صوتي، أو تحس بوجودي، كانت تعيش مع الصورة بذهول، وانشداه، وتقف أمامها بخشوع، وتبتل، وضراعة، وشفتاها ترتعشان، وكأنها كانت تصلي، أو تتحدث إلى الصورة بهمس غير مسموع، ووجهها الشاحب يطفح بانفعالات عميقة، متماوجة، متغيرة، ومتلونة.
كنا معاً في الغرفة.
كنا اثنين، أنا ومنار. ولا ثالث معنا، وكانت على مرمى خطوة مني ومع هذا ظل صوتي يهوم، ويحوم حولها، دون أن يصل إليها كانت تضع حياتها كلها أمامها في تلك اللحظة، كل حياتها، وتسافر معها وحيدة، حزينة، ومعزولة عن كل ما حولها بوجع، وصمت، ومرارة. كانت معي، وليست معي.قريبة وبعيدة، هي في الغرفة، وليست فيها، كل ما فيها فرَّ إلى الصورة والماضي، واشتعل فيهما حياة، وتواريخ، وذكريات.
كانت تعتصم بالصورة والماضي.
تتذكر، وتحلم، هاربة من العطب الذي مرمر الروح، والشوكة التي تخزها في القلب، حيث يتمدد الحزن قوياً، عميقاً، وشرساً.
آلمتني حالها وما هي فيه من عذاب، وتمزق، وانكسار، وقررت أن أفعل شيئاً، تحركت من مكاني، ووقفت بينها وبين الصورة، انتبهت لما فعلت، وأدركت ما قصدته من وراء حركتي، فاختلجت بامتعاض ونزق، واحتقنت عيناها بغضب مكتوم، وبدا عليها الاضطراب، والانفعال، والتوتر، وبسرعة تعكر الضوء الباهت الذي كان يغمر وجهها، واختلط بما يشبه الغضب، والعتب، والملامة، لقد استفزتها حركتي، وأثارتها، بدا ذلك واضحاً في كل حركاتها، في حين تطاول الحزن في عينيها مثل أشجار الدفلى.
-لماذا تفعل ذلك؟
-آن لك أن تنسي.
-إنها حياتي.
-وأنت تدمرينها.
-إنه يسكنني مثل دمي.
-أنت تتوهمين ذلك.
-العيش بدونه مستحيل.
-أنت تغالين، وتتهربين من الواقع والحقيقة.
انتفضت مثل لبوة شرسة، هوجمت على غفلة، فتحفزت للدفاع عن نفسها، وازداد توترها، وانفعالها واضطربت حركتها، وبدت كأنها تريد مقاتلتي، أو تعنيفي، أو طردي من البيت.
كانت كل حركاتها توحي بذلك، وتنذر بوقوعه، وتفادياً لكل ما يمكن أن يحدث، قلت لها بهدوء:
-أنا أعتذر، ما كنت أقصد جرحك.
-لا تبرر، فقد قلت ما قلت، وكفى.
-كل ما أريد هو إسعادك.
وكنت صادقاً في ذلك.
فالمرأة غالية عندي، وهي عندي بالدنيا كلها، وخسارتها ليست في صالحي، وأنا الباحث عن رضاها.
كانت قبل المحنة فراشة ملونة تحب الحياة كثيراً، وتعيشها بروح طفلة مملوءة بالأحلام، والأمنيات، والأفراح، والمسرات، وكانت متعلقة بزوجها، ولا ترى الدنيا إلا من عينيه، وعندما اختطف الموت زوجها، كان الموت يحطم كل شيء فيها.
ولقد قربتني المحنة منها كثيراً، ومع مرور الأيام، صارت منار قريبة من قلبي، وأظل في شوق دائم لها، حتى أراها، فأحس بالراحة، والرضى، والطمأنينة.
فأيقنت أنني أحبها، وأنها المرأة التي يمكنها أن تعينني على الحياة، وتعطي لحياتي معنى، ما كان لها في يوم من الأيام.
وعندما أخبرتها بالذي في، لم تندهش، ولم تثر، لكنها أنكرت الفكرة ورفضتها، واعتبرت مجرد التفكير فيها خيانة لزوجها من كلينا، فأقنعت نفسي أنها ما زالت تتمسك بذكرياتها، وجرحها ما زال ندياً والزمن كفيل بدمله.
هدأت قليلاً.
وانتظمت أنفاسها، وبصوت محني الظهر ودامع قالت:
-سعادتي مع عبد الله.
-الذي يموت لا يعود.
رفعت وجهها نحوي، كانت عيناها الحزينتان، كئيبتين، مخضلتين بالدمع، ووجهها تلفه مسحة من الهدوء، والوداعة، والحزن، اقتربت منها، ظلت واقفة، ساكنة، واجمة، تحدق في بعينين ذاهلتين، وبحنان دافئ خجول وضعت يدي فوق رأسها، لم تأت بحركة، لم تفعل شيئاً، ولم يصدر عنها ما يوحي بالنفور، أو الاحتجاج، وبوداعة طفل خائف وعاجز، ويبحث عن ملجأ أو نصير، أراحت رأسها على صدري، وهي تجهش في البكاء.
وكانت يدي تمسح شعرها برفق، وحب، وحنان، وشعرت كأنني احتضن كنوز الدنيا كلها، وأريحها على صدري، فمنار هي المرأة التي أحببتها بصمت، وهي تعرف ذلك، وداهمني شعور بالفرح، والاطمئنان والأمل.
وأيقنت أن صبري أثمر، وأن منار بدأت تخطو باتجاه الخروج من محنتها، والتسليم بالواقع، والإقرار بما حدث، وستعود وجهاً مسكوناً بالفرح، والحلم، والحياة، كما كانت قبل وفاة زوجها.
-ماذا لديك أيضاً؟
-أنا أحبك.
-وأنا أعرف ذلك.
-وأريد إسعادك.
-وأعرف هذا أيضاً.
-وأريدك أن تعينيني على الحياة، وأعينك عليها.
-بيني وبينك يقف عبد الله.
-جربي.
-مستحيل، فهو ما زال مختلطاً بدمي.
بالهدوء نفسه الذي أراحت فيه رأسها على صدري، رفعته، ثم وقفت في مواجهتي تماماً، وعيناها تحدقان في البعيد، فهي ما زالت تعاند وتتمسك بذكرياتها، والوفاء لها، لقد تصالحت مع واقعها، وتآخت مع الحزن وتآلفت، ورغم كل البؤس، والمرارة، والعجز الذي تعاني، فصلابة روحها لم تنكسر.
لقد سدت علي كل المنافذ.
وفر الفرح الذي خضر القلب منذ قليل، مثل عصفور مذعور، لقد كان فرحي وهماً، فالمرأة ما زالت وفية لذكرى زوجها، وحزنها الذي يزداد، ويشتعل باضطراد، قدرتها الخارقة في مواجهة المحنة، حتى لا يفرغ قلبها من الوجه الذي تحب.
-هذا قرارك الأخير.
-والذي لن يتغير.
-أنت تظلمين نفسك.
-خير من أظلمك معي.
مشيت.
مشت منار أيضاً.
مشينا معاً في اللحظة نفسها، كل في اتجاه، بخطوات بطيئة، قليلة، متثاقلة، صامتة، وعيوننا تنظر في اتجاهات مختلفة، وعندما صارت بجانبي، توقفتُ عن المشي، في حين استمرتْ هي تمشي، أمام النافذة توقفت، وكلانا يعطي ظهره للآخر.
مات كل أمل لدي، وأيقنت بعد المسافة بيننا، هي في واد، وأنا في واد، وما أفكر فيه، لا تفكر هي فيه، لكل منا اتجاهه، ودربه، عالمه وأحلامه، وعلي التوقف عند هذا الحد، حتى لا أعكر عالمها، أو أسيء لمشاعرها، وأدنس لحظاتها الجميلة، التي تصنعها لنفسها، وتعيشها بكل ما أوتيت من قدرة على الحياة.
امتدت يدها، فتحت النافذة، فانسفحت الريح المحملة برائحة البرد، والبرق، والرعد، والمطر، إلى داخل الغرفة، وراحت تتجول فيها، تعبث بالستائر، تدور في الغرفة، تطير الأوراق من على الطاولة، في حين ظلت منار تقف بصلابة في مواجهة الريح، تحدق في الشوارع التي تكاد تكون خالية من المارة، وترنو إلى المدينة المنكمشة على نفسها، وهي تتدثر بالريح والبرد، مثل قطة خائفة، وشعرها يصطخب ويتلاطم مثل أمواج تسوقها العاصفة، ويتطاير في كل الاتجاهات، فتبدو منار مثل امرأة أسطورية تخرج من جوف الأرض.
-يجب أن نقاوم.
قالت منار ذلك.
بقيت صامتاً، واجماً، مدهوشاً بالمرأة، مفتوناً بصلابتها، فاللحظة كانت وردة من وجع، وألم، ونار، وعندما لم تسمع صوتي استدارت إلى الخلف، كنت وقتها افتح الباب بهدوء، وانسل إلى الخارج بصمت، والريح الهاجمة من النافذة تدفعني بقوة من الخلف.