وجهان.. وعنقود عنب

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سهيل نجيب مشوّح | المصدر : www.awu-dam.org

 

وجهان..وحلم واحد!!‏

بلى إن لعبيدة ولعقبة عنواناً معروفاً!، والعنوان واضح وبسيط -كما ستعرفون- يستطيع موظف البريد أن يصل إليه بقليل من المشقة، والعنوان لمن يرغب في الحصول عليه:‏

قاسيون/ الجادة الثالثة/ حارة الصابرين/ المنعطف الخامس/ تحت الدرج..وهذا يكفي لوصول رسائل الأصدقاء.‏

عرفتهما مصادفة، إذ قررت أن أعاقب نفسي ذات يوم، وأزور أحد الأصدقاء في ذلك (الغيتو) المزدحم، وحين عجزت عن الوصول إلى غايتي رأيت أن أستعين بمن يدلّني، فوجدتهما هناك.. على العتبة الأخيرة من الدرج الطويل المنحدر هبوطاً شاقولياً من غرفتهم الوحيدة (المحصّنة)، والتي تشبه الزنزانة إلى حدّ بعيد أو كملاذٍ نووي آمن شيّدت في زمن السلم .‏

تقبع الغرفة، وتتموضع محشورة تحت درجات السلم الاسمنتي بدهاءٍ ماكر أثار عجبي ومن رآها حتماً.‏

كانا يجلسان بصمت.. هناك على العتبة الأخيرة من الدرج الطويل المنحدر، وفي نظرتيهما البريئتين شجب، وإدانة، واستنكار، و.. أسىً لا يوصف، وحزن على طفولتهما التي تنسفح أيامها اللذيذة على أسفلت الجادة الثالثة في حارة الصابرين، وما فتئت تتأرجح كالزئبق صعوداً، وهبوطاً، فلاهي أمسكت بصخور القمّة فوقها، وتشبّثتّ بحلم- ربما - يتحقق، ولا أوهنها الضعف، وأمراض الشتاء المضنية، فتدحرجت أسفل أقدام قاسيون تقبّـلها، وتتوسل إليه.. تسأله أن يميد بساكنيه، يدثّرهم بحممه، ليريحهم من عذابٍ يوميٍ متكرر لاخلاص منه، ويبعثر من ينجو منهم لعلهم يجدون في شتاتهم فردوساً طال انتظاره، أو شمساً تسوط رؤوسهم الحليقة، فتحفّز أحلامهم الحبيسة للانطلاق في فضاء شاسع بعد أن ضاقت بهم حارة الصابرين، واكتظّت ملاعب طفولتهم بالغرباء المريبين، وتجاوزت أقدامهم مساحة الغرفة الضيّقة تحت الدرج الاسمنتي‏

دمشق 1996‏

- ب -عنقود عنب‏

في (المشراقة) تجمعّنا نحن الثمانية، ولعبنا حتى مللنا من بعضنا بعضاً، فبدأنا بالعراك.‏

كنت، وإخوتي نختار الركن الشرقي من حوش بيتنا الفسيح بحثاً عن الدفء الذي توفره لنا أشعة الشمس، والذي نفتقده في غرفتنا الرطبة ذات السقف العالي، وجدرانها الخشنة المرشوشة بالكلس الابيض، كسائر البيوت الأخرى في (معدان).‏

وإذ أطال الشتاء مقامه هذا العام. فقد بدأ مخزوننا من وقود المدافئ ينفد، و(أمر) والدي أن نبدأ مرحلة التقنين الإجباري غير عابئ بما يضمره الشتاء لعظامنا الهزيلة من أذى، وكم من مرة سمعت أمي (عفواً) تناشده أن (يتموّن) ببعض الوقود فمازال الشتاء بأوله، وتهمس له بحياء: يا رجل .. إن الأولاد يلوذون ببيوت الجيران طلباً للدفء، سيفضحوننا إن زلّت ألسنتهم بكلمات في غير محلها مما يدور بيننا.. فيردّ أبي بعصبية فجّة: يا بنت الحلال لم يبق من الشتاء غير أذياله، ونحن لانفعل المحرمات كي يبوح الأولاد بسرّنا.. دعيهم (يتشمسون) فالشوارع تغصّ بأقرانهم، وأولادنا ليس على رأسهم ريش لكي نخاف عليهم، وتذعن أمي على مضض، ثم ترجونا أن نخرج إلى الحوش الكبير لنلعب هناك، فنخرج طائعين، ونطيل الوقت تحت إلحاحها رغم برودة الطقس، وتجمّد أطرافنا، فنلعب حتى نتعب .‏

نتقافز مثل السعادين على أكياس القمح المرصوصة في زاوية البيت الشرقية تحت السقف الحديدي. نطارد بعضنا لائذين بأكوام الحطب المبعثرة حول التنور غير عابئين بالزواحف من الحشرات الشتوية الصغيرة التي تسرح بتثاقل رغم الشمس الخفيفة الدافئة المتجمعّة في هذا الركن وإذ نراها فجأة نداعبها بطرف العصا، ونقلّبها بتلذذ، حتى يباغتنا أبي فنلتصق ببعضنا بعضاً، ونتجمّد من الخوف والبرد، ويريحنا من عناء الاستنتاج، ومقدار العاقبة إذ يصرخ بنا بلهجة ودودة لم نألفها من قبل : لِمَ أنتم متكومون هكذا كعنقود العنب؟!. ادخلوا إلى غرفتكم وتدفؤوا قبل أن يقتلكم البرد .. نشعر بالفرح.. والأمان، ونتبعثر في كافة الاتجاهات.. نبحث عن أمنا الطيبة لنلتفّ حولها..نتدفأ بها.. نتسابق لتنوسد ركبتها، كي تعبث بشعرنا حتى ننام.‏

وعندما نجدها -فعلاً- نسحبها إلى الداخل.. نتدافع حواليها.. نلتصق بها.. نتماسك.. تنتظم حبات العنب في عنقودها ثانية، وأبي ينظر إلينا بطرف عينه، ويبتسم كما لم يفعل منذ سنين.