..ومرّت مرور الكرام

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سهيل نجيب مشوّح | المصدر : www.awu-dam.org

على غير عادتي؛ أختار الطريق المزدحم إلى ساحة الحجاز مهتدياً ببوصلة القلب، وفي رأسي زوّادة من الذكريات أقلّبها لقتل الوقت .

أتجه إلى الرصيف الأيسر، وأنا قادم من شمال المدينة، وقبل أن أطأه بحثت بنظري عن مكان يضمّني بين الجموع المتدفقة على رصيف المحافظة غير مبال بمزامير السيارات المنطلقة ابتهاجاً بإضاءة الإشارة الخضراء.‏

ما إن وضعت خطوتي الثالثة على الرصيف القرميدي الملوّن بالأصفر والأحمر حتى تجمدَّت قدماي مما واجهني في تلك اللحظة، ولم أكن متهيئاً لتلك المواجهة الصاعقة بعد عناء الركض المتواصل في أروقة الوزارات، والفشل الذريع الذي حققته بنجاح في تلك الجولة المضنية بحثاً عن حق ضائع منذ سنين أبت أن تقرّه لي قوانين الحكومة،وتعديلاتها.‏

إنها ماجدة‍‍.. أمسكت بيد صغيرها، وجمدّت -هي الأخرى- إذ راعها أن تراني قبالتها مثقلاً بالتعب، والذهول..‏

(يا الهي.. ذات الشارع الذي ودعتني فيه باكية.. مرتجفة قبل سنين!!).‏

عشرات الأمتار-فقط-تفصل بين مكان الواقعتين، وسنين عدّة أنبتت هذا الشاهد المتشبّث بطرف ثوبها متلفتاً.. ببراءة يبحث بين المارّة عن وجه يعرفه.‏

-ابق على شموخك، ولاتلتمس سبلاً للعودة كي أحبّك دائماً‏

تلك كانت آخر كلماتها لي.‏

قلت: ولكن..‏

قالت :، وشهرت كفاً كالسيف بوجهي، وأسلمتني للمنافي‏

هنا.. في هذا الشارع حدث كل هذا، وعلى ذات الرصيف بعد أن اجتزنا مبنى البريد، وتركنا خلفنا زحام الغرباء على صناديق الرسائل.. حدث ذلك عندما أخبرتها بنيتي على السفر، فارتبكت مشيتها، وهوت حقيبة يدها، ولم تقو على التقاطها,..‏

قالت دون أن تنظر في وجهي: لن تتركني وحدي؟!.‏

قلت : بل تنتظرين عودتي‏

قالت : ألق بشباكك هنا، ولننتظر معاً ما يجود به البحر.‏

قلت لها: ولكني أخاف البحر يا ماجدة، فلا تدفعيني إلى ما أكره.‏

يعبث الصغير بثوبها.. يرفعه.. يختبئ فيه.. يدور حولها متعثراً .. يكشف ساقيها أمام العابرين، وهي على ذهولها تتخبط في لجج الذكريات..‏

قالت: إني أكره الذين يجاهرون بخوفهم ياعبد الله.‏

قلت: إنها الحقيقة يا‏

يتضاعف بلاط الرصيف، ويختلط الأصفر بالأحمر بأحذية العابرين وبصاقهم، عبث الصغير يكشف ساقي ماجدة، فتلتهمها عيون المارّة، وأنا أهرب من سياط أسئلتها، فأطرق هلعاً، واحصي البصاق المتناثر في كل مكان، وأعقاب السجائر، وأرتال السيارات المتدفقة عبر الشارع كمياه النهر، وأمعن في حركة تجمعها عندما تضيء الإشارة الحمراء، وتحفزها للإنطلاق ككتيبة جند في حالة حرب..‏

(بئس اللون الأحمر.. إنه فضاء المتعة والقلق!!).‏

- مارأيك بالأخضر.‏

-إنه أفق الصحو، ونحن أحوج مانكون إلى الراحة الممتعة في هذا الوقت تماماً. أتوقف عند الشرطّي الممتلئ- أكثر من غيره -. إنه راض بمهمته، وها هو ذا يغفو في علبته الخشبية، فتنطلق صافرته (عفواً) لتتوقف أرتال السيارات فجأة، ويعلو صهيل المكابح، وتختلط الشتائم بالدهشة، فليس ثمّة ما يدعو إلى الوقوف!!.‏

-دعنا نذهب شرقاً، إذا كان البحر يخيفك‏

-والشرق يخيفني أكثر، ففيه بحر من الحزن، والذباب الكسول.‏

تعذّبني الغيرة، وأنا أرى عيون الرجال تزداد شراهة، ويتكاثرون كأنهم تنادوا إلى وليمة كلما تمادى الصغير في العبث بثوبها.‏

وددت لو أستطيع أن أسحب الصغير بعيداً، أو أتشبّث بثوبها لتنفضّ العيون الجائعة من حولها، بل ليت الصغير يغفو على ركبة ذاك الشرطي الذي افترش درج المحافظة باسترخاء، واختار مكاناً مرموقاً يمكّنه من إشباع غريزته... سألتني ذات يوم: يقولون إن النساء في مدينتكم يلبسن العباءات أجبتها باستفزاز مقصود: وهذا سرّ جمالهن.‏

قالت: لايهم.. سافر إلى هناك، فرائحة النفط واحدة‏

قلت: رجال مدينتي يجترّون أحزانهم في المقاهي طوال النهار، ويتقيؤونها ليلاً في (مكان ما!!)‏

..كفّي سياطك عني يا ماجدة، ولاتجلديني بهذه القسوة المرعبة، فلم أك مذنباً حين ودّعتك مرغماً، وإنما رحت أبحث لك عن بحر تنشرين على وجهه أشرعة الحلم الجميل، أو واحة نائية نستظلّ بأشجارها معاً، ونغفو بأمان... كفى يا ماجدة.. إني أخشى هاتين العينين الصغيرتين اللتين ما عرفت لونهما قط، وأخشى أنهما تتوثبان للانقضاض عليّ لاقتناص ثأر قديم .. إنهما لاتخطئان فريستهما..(ترى هل تذكرين البارحة؟).. حين هبطنا درج الجامعة، إذ تفوّه أحدهم ببذاءة وهو يمّر بقربك، فرشقتيه بنظرات شرسة أربكته، فزلّت قدمه، وتمرّغ بغدير متسخ جعله أضحوكة الحاضرين...‏

قلت لك حينذاك : لاتلبسي هذا الثوب ثانية، فأنه..‏

قلت : أتغار عليّ؟!‏

وأجبتك: لم لا..‏

فاشتعلت وجنتاك، ولمعت عيناك الناعستان ببريق ساحر، وقلت: لن ألبس ثوباً ماحييت ها أنت تلبسين ثوباً يا ماجدة.. وتلبسين ثوباً زاهياً، وهذا الطفل (المأجور)يلامسه بخشونة، ويعذّبني إذ يكشف عن ساقيك أمام الناس، وأنت .. تصبرين على رجم النظرات الجائعة، وعيناك الزائغتان تحلّقان في أفق الذكريات،.. حتى السيارات المتحفّزة أمام الإشارة الحمراء أقفلت أبواقها، واستسلمت للانتظار، ولم يعد يغريها الضوء الأخضر بالانطلاق..‏

-لم يفزعك سفري؟!.‏

-أخشى أن تتغيّر هناك.‏

-وهل يتغيّر الإنسان بهذه السهولة؟.‏

-الإنسان هو الذي يتغّير بسهولة، فهل رأيت حيوانا تغيّر عليك بعد طول غياب؟.‏

(كيف لا أحبك يا ماجدة؟!، وكيف تبارحني الأشواق.!،وأنت التي تمتلكين السؤال المشاغب، والجواب الرصين، مثلما تمتلكين مفتاح قلبي).‏

لم أعد أحتمل مزيداً من الثواني الثقيلة، فقررت أن أضع حدّاً لذهولي، وأنهي (حربها الباردة)، وعبث الصغير.. سأعلن توبتي بين يديها، وألقي براية ضعفي تحت قدميها، لعلها ترقّ، وتغفر لي فظاظة البارحة.. وبينما بدأت أستجمع شتات جرأتي، وأنتقي الكلمات اللائقة بجلال المشهد.. رفعت رأسي لأخطو نحوها بثبات يستر قلقي، فلم أجدها.. تلفتّ حولي، فرأيت الشرطي (الحارس) قد وقف على قدميه بعد أن ( أنهى مهمته بنجاح)، والشرطي الآخر يغفو في علبته، ويسيل من فمه لعاب غزير بللّ ياقته، ونظرت خلفي فرأيت ماجدة تمشي واثقة مطمئنة تمسك بيد صغيرها وقد مرّت مرور الكرام!!.‏