حين ودّعتها لآخر مرّة.. جلست أمي قبالتي على الأرض، وكان وجهها مشرقاً .. ندياً كشمس ذلك اليوم الربيعي الدافئ، وفي عينيها حزن متوهج ..إنه تضاد غريب، ولكن هذا ما رأيته. تماماً أو هكذا خيّل إليّ. لقطة مـحـيّرة لن أنساها ما حييت!!. قالت أمي، وقد تشاغلت عنها بترتيب حقيبتي هرباً من سياط نظراتها -اسمع يابني.. كفاك اغتراباً . عُــد بيننا، فماعاد بي حيل للوادع. قلت لها: سأرجع يا أماه.. فقد أرّقتني الكوابيس.. وعدت ..عدت متأخراً، فزرت قبر أمي، وغرقت في نوبة من بكاء أضعفتني حتى جثوت على ركبتي، وعفّرت وجهي بترابها الحنون. كنت أنشج مثل طفل أضاع والديه، أو فقد لعبته المفضّلة.. تمالكت نفسي ما استطعت، وقرأت لروحها الفاتحة، وما تيسّر من قصار السور، فهدأت نفسي، واطمأنت روحها .-كما أظن- وتجمعت أسرتي حولي.. سألتني سارة، والدهشة تغمر وجهها الطفل: -لِــمَ تبكي ياأبي؟! -قلت لها: أبكي أمي يا صغيرتي، فلم يعدلي أم مثلك. ..وردّت العنود معترضة: -ولكنك تقول لنا دوماً : إن الكبار لا يبكون أبداً فلم أحر جواباً، وضحكت ضحى الصغيرة، وعدنا إلى البيت. المشهد الثاني آخر الكلام. قالت لهنّ إذ تحلقن حولها ذاهلات .. منتحبات.. يحطن بجسدها الواهن المستكين: وفّروا دموعكنّ الصافية.. الصادقة ليوم رحيلي. كان صوتها خافتاً.. مهزوزاًً، فقد تمكن منها المرض -تماماً - وأتى على كل ما يبعث فيها الحياة حتى صوتها العذب.. أخذت نفساً عميقاً، وتململت في نومتها. عضّت على شفتها السفلى حتى أدمتها إذ داهمتها نوبة من الألم المرير، ثم تابعت توسلها الحنون: - لاتعذبنني أكثر من ذلك .. يكفيني مابي . سالت دموعها على وجهها الأصفر الشاحب، وليس بمقدورها أن ترفع يديها لتمسح دمعها، وتحجبه عن بناتها المتعبات.. طلبت إليهن أن يقتربن منها، ويقرأن لها من كتاب الله, ليكون آخر كلام تسمعه قبل رحيلها المشهد الثالث ورق.... ورق بعيداً.. هناك على خارطة العالم المترامي الأطراف تنبت مدينة خضراء.. كانت المدينة آمنة مطمئنة. مسيجة بالماء والشجر، وأعين الذئاب، جبالها مكسوة بالخضرة، وسهولها تضّج بمحاصيلها وسماؤها دائمة التهطال .. الثلج .. والمطر.. والشمس الذهبية تمسح عن تضاريسها آثار الفصول القاسية، وتهب الأطفال فسحة للمرح والابتهاج.. ذات يوم تستفيق الذئاب، وتتحرك في نفسها شهوة الإنقضاض وليس أمامها سوى تلك الطريدة الوديعة.. الآمنة، فتنقضّ عليها.. تقاوم الطريدة..تتكاثر الذئاب... يبتهج الحضور لروعة المشهد ..تهتم الصحف بما يجري. تتبارى في نقل المشهد، وتزيّن أروقة الصفحات بصور المجزرة الوحشية، تلوّنها بالألوان العصرية. الجرح بلون الليلك، والشعر أزرق متوهج، والأطراف خضراء..و.. تحظى الطريدة بشتى الألقاب الرناّنة، والعجلة تدور.. تدور. تطبع آلاف الصحف اليومية في شتى أنحاء العالم المترامي الأطراف. ينهض بعض الجمهور. ينتفض.. يغمغم، بعضهم يصفّق، وبعضهم الآخر يرقص طرباً، ويشرب بعض الجمهور الأنخاب على أشلاء الجثث المحترقة.. فاصلـــه البنات الصغيرات يجهلن خارطة الوطن، وتضاريسه.مهما علمتهنّ ذلك يبقين جاهلات!!.. لأن رؤوسهن الصغيرة لا تتسع لرموزه الشامخة. هنّ يعرفنه علماً.. ونشيداً ..ونزهة في حدائقه الفسيحة، أو لهواً على شواطئه الصاخبة. هنّ يعرفنه كذلك جبلاً يتدحرجن تحت قدميه حين تسكن شمس الربيع، وتستقر في أفقها، ويعرفنه سماء تحنو عليهن بطقس جميل.. جميل. هكذا هنّ البنات، وهكذا يعرفن الوطن!!. ولأنهنّ يعرفنه هكذا، فلم يسألن عن قصة مدينتين تمخضت عنهما أنهار الدم، وجبال الحجارة ..حتى تعودان؟!. ولم يبكين جيلاً يندثر بعد أن رسمت أنامله الطاهرة حدود الوطن، وما شاهدن الأشلاء الصامدة تتساقط مثل أوراق الشجر اليابسة ثم تتطاير في هبوب العاصفة، وتتوزع في كل الجهات!!. هكذا هنّ البنات الصغيرات لا يسمعن.. ولا يشهدن.. ولا يبكين.. ولا... وحتى يفعلن ذلك يقفن على حدود الترقب، بانتظار الفاصلة!!..
حين ودّعتها لآخر مرّة.. جلست أمي قبالتي على الأرض، وكان وجهها مشرقاً .. ندياً كشمس ذلك اليوم الربيعي الدافئ، وفي عينيها حزن متوهج ..إنه تضاد غريب، ولكن هذا ما رأيته. تماماً أو هكذا خيّل إليّ. لقطة مـحـيّرة لن أنساها ما حييت!!.
قالت أمي، وقد تشاغلت عنها بترتيب حقيبتي هرباً من سياط نظراتها
-اسمع يابني.. كفاك اغتراباً . عُــد بيننا، فماعاد بي حيل للوادع. قلت لها: سأرجع يا أماه.. فقد أرّقتني الكوابيس..
وعدت ..عدت متأخراً، فزرت قبر أمي، وغرقت في نوبة من بكاء أضعفتني حتى جثوت على ركبتي، وعفّرت وجهي بترابها الحنون. كنت أنشج مثل طفل أضاع والديه، أو فقد لعبته المفضّلة..
تمالكت نفسي ما استطعت، وقرأت لروحها الفاتحة، وما تيسّر من قصار السور، فهدأت نفسي، واطمأنت روحها .-كما أظن- وتجمعت أسرتي حولي..
سألتني سارة، والدهشة تغمر وجهها الطفل:
-لِــمَ تبكي ياأبي؟!
-قلت لها: أبكي أمي يا صغيرتي، فلم يعدلي أم مثلك.
..وردّت العنود معترضة:
-ولكنك تقول لنا دوماً : إن الكبار لا يبكون أبداً
فلم أحر جواباً، وضحكت ضحى الصغيرة، وعدنا إلى البيت.
المشهد الثاني آخر الكلام.
قالت لهنّ إذ تحلقن حولها ذاهلات .. منتحبات.. يحطن بجسدها الواهن المستكين: وفّروا دموعكنّ الصافية.. الصادقة ليوم رحيلي. كان صوتها خافتاً.. مهزوزاًً، فقد تمكن منها المرض -تماماً - وأتى على كل ما يبعث فيها الحياة حتى صوتها العذب.. أخذت نفساً عميقاً، وتململت في نومتها. عضّت على شفتها السفلى حتى أدمتها إذ داهمتها نوبة من الألم المرير، ثم تابعت توسلها الحنون:
- لاتعذبنني أكثر من ذلك .. يكفيني مابي .
سالت دموعها على وجهها الأصفر الشاحب، وليس بمقدورها أن ترفع يديها لتمسح دمعها، وتحجبه عن بناتها المتعبات.. طلبت إليهن أن يقتربن منها، ويقرأن لها من كتاب الله, ليكون آخر كلام تسمعه قبل رحيلها
المشهد الثالث ورق.... ورق
بعيداً.. هناك على خارطة العالم المترامي الأطراف تنبت مدينة خضراء.. كانت المدينة آمنة مطمئنة. مسيجة بالماء والشجر، وأعين الذئاب، جبالها مكسوة بالخضرة، وسهولها تضّج بمحاصيلها وسماؤها دائمة التهطال .. الثلج .. والمطر.. والشمس الذهبية تمسح عن تضاريسها آثار الفصول القاسية، وتهب الأطفال فسحة للمرح والابتهاج..
ذات يوم تستفيق الذئاب، وتتحرك في نفسها شهوة الإنقضاض وليس أمامها سوى تلك الطريدة الوديعة.. الآمنة، فتنقضّ عليها.. تقاوم الطريدة..تتكاثر الذئاب... يبتهج الحضور لروعة المشهد ..تهتم الصحف بما يجري. تتبارى في نقل المشهد، وتزيّن أروقة الصفحات بصور المجزرة الوحشية، تلوّنها بالألوان العصرية. الجرح بلون الليلك، والشعر أزرق متوهج، والأطراف خضراء..و.. تحظى الطريدة بشتى الألقاب الرناّنة، والعجلة تدور.. تدور. تطبع آلاف الصحف اليومية في شتى أنحاء العالم المترامي الأطراف. ينهض بعض الجمهور. ينتفض.. يغمغم، بعضهم يصفّق، وبعضهم الآخر يرقص طرباً، ويشرب بعض الجمهور الأنخاب على أشلاء الجثث المحترقة..
فاصلـــه
البنات الصغيرات يجهلن خارطة الوطن، وتضاريسه.مهما علمتهنّ ذلك يبقين جاهلات!!..
لأن رؤوسهن الصغيرة لا تتسع لرموزه الشامخة. هنّ يعرفنه علماً.. ونشيداً ..ونزهة في حدائقه الفسيحة، أو لهواً على شواطئه الصاخبة. هنّ يعرفنه كذلك جبلاً يتدحرجن تحت قدميه حين تسكن شمس الربيع، وتستقر في أفقها، ويعرفنه سماء تحنو عليهن بطقس جميل.. جميل. هكذا هنّ البنات، وهكذا يعرفن الوطن!!.
ولأنهنّ يعرفنه هكذا، فلم يسألن عن قصة مدينتين تمخضت عنهما أنهار الدم، وجبال الحجارة ..حتى تعودان؟!.
ولم يبكين جيلاً يندثر بعد أن رسمت أنامله الطاهرة حدود الوطن، وما شاهدن الأشلاء الصامدة تتساقط مثل أوراق الشجر اليابسة ثم تتطاير في هبوب العاصفة، وتتوزع في كل الجهات!!.
هكذا هنّ البنات الصغيرات لا يسمعن.. ولا يشهدن.. ولا يبكين.. ولا... وحتى يفعلن ذلك يقفن على حدود الترقب، بانتظار الفاصلة!!..