كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فالزواج من أهم ركائز النظام الاجتماعي في الإسلام؛ لأنه الطريق إلى تكوين الأسرة التي هي لبنة المجتمع وعن طريقه يحصل الطرفان على قضاء الشهوة من طريق مباح فتكون شهوة في حقهما معينة على الطاعة وعلى الاستقرار النفسي والاجتماعي، وقد بلغ من عناية الشرع بأمر الزواج أن سماه ميثاقا غليظا وأن حض عليه حضا شديدا؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه.
وخاطب أولياء المرأة قائلا: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
وحيث أن الشرع يقصد من وراء الزواج إلى حصول السكن والطمأنينة لا مجرد الشهوة فقد اشترط الشرع -بعد اشتراط موافقة الطرفين الزوج والزوجة- موافقة ولي الزوجة، وجعل عقد النكاح بيده، وذلك حتى لا تغتر المرأة بمن يظهر لها صلاحه مع شدة عاطفتها وقلة خبرتها بالرجال، بيد أن الشرع اشترط على الولي شأن كل الولايات أن يجتهد في مصلحة من ولاه الله عليه ولا يتعدى ذلك، ومتى تجاوز الولي ذلك مهما كانت لديه من المبررات المنطقية من وجهة نظره، تعرضت ولايته للإلغاء من قبل الشرع.
والاصطلاح الشرعي الذي أطلقه الشارع على هذه الحالة هو: "الإعضال"، وهو مصطلح منفر في حد ذاته، وقد بلغ من عناية الشرع بمنع هذا "الإعضال" وحتى وإن كانت له مبرراته المنطقية من وجهة نظر الولي أن أنزل الله قرآنا يتلى إلى يوم القيامة إزالة لشكوى امرأة لم ترفع شكواها إلى أحد، ولكن ربها أعلم بما في صدور العالمين، وإليك خبر تلك الواقعة كما يرويها صاحبها معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال:
(أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها! والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك، فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله -تعالى-: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(البقرة:232)، فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
فانظر في هذا الأمر الإلهي الذي نزل رحمة من الله بهذه المرأة رغم أن الولي كانت له مبرراته من وجهة نظره، ولكنها كانت مشوبة بتغليب جانب الانتصار للنفس على جانب تمكين أخته من الحصول على الحقوق التي كفلها لها الشرع، ولمشقة ذلك على نفوس الأولياء عموما أردف الله هذا الأمر بعدد من المرغبات والمرهبات منها:
1- تذكير الولي بإيمانه بالله، والذي يقتضي إيمانه به حاكما مشرعا وأن ولايته قاصرة على تطبيق شرع الله وليست مصادمته.
2- تذكيره بإيمانه باليوم الآخر، وأنه موقوف بين يدي الله ومسئول عن جميع تصرفاته فليعد للسؤال جوابا.
3- بيان أن هذا الأمر كشأنه من التشريعات شرعت لمصلحة العباد والنكتة في هذا الحكم واضحة، وأن منعها ممن تهواه لاسيما وأنها هويته لسبب مشروع وهي حالة الزوجية التي كانت بينهما قد يؤدي إلى الوقوع في الفاحشة أو على أقل الأحوال الوقوع في النفور ممن ستتزوجه إن منعت من هذا وزوجت من آخر.
4- ثم ختم ذلك ببيان أمر عام وهو أن الله يعلم والإنسان لا يعلم، وفي واقع الأمر فإن علم الإنسان الضئيل يستمد من أحد مصدرين:
الأول: الوحي، والثاني: التجربة.
ولما كان الإنسان مخلوقا مكرما لم يأذن الله لغيره من البشر وإن كان واليا أو وليا أو عاملا أو مفكرا، أن يتخذوا من بني الإنسان حقلا لتجاربهم، بل أتى التشريع الإلهي التفصيلي الملزم للجميع.
وهذه الآية مع سبب نزولها هذا، دليل صريح على اشتراط الولي في الزواج، وهي في ذات الوقت دليل على أن إعضال الولي لوليته ممن تهواه وليس في تزويجها منه ضرر في دينها كما يفهم ذلك من القيد في قوله -تعالى-: (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)، يُعَرِّض تصرفه للنقض وربما عرض ولايته بأسرها للرفع، ونقلها إلى من يليه في الولاية كما نص الفقهاء -رحمهم الله-.
بيد أن هذه الآية وغيرها لم تمنع كثيرا من الأولياء ممن لم يؤمن بالله حق الإيمان من أن يعضل وليته.
ومن هذا الباب ولج أعداء الإسلام يحاولون رفع ولاية الأولياء عن بناتهم في الزواج متذرعين بمذهب الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- وهو قول باطل مناقض للكتاب والسنة، وإن كان الإمام -رحمه الله- معذورا؛ لأنه لم يبلغه حديث: (لا نكاح إلا بولي) رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني، ولعله لم يطلع على قصة معقل بن يسار -رضي الله عنه-، والتي تجعل من الآية دليلا ظاهرا في اشتراط الولي.
والحاصل أن الأعداء دفعوا بقوة في سبيل رفع الولاية عن البنات في الزواج وكنا نظن بادئ الأمر أن غاية أحلامهم في أن يجعلوا أمر المرأة بيدها وكفى بذلك فسادا، ولكن اتضح في نهاية المطاف أن طموح القوم أكبر من ذلك بكثير، لقد بلغ طموحهم أن رفعوا ولاية الآباء والأمهات عن الصغار والكبار، بل رفعوا ولاية المعلمين والمعلمات، وباختصار رفعوا ولاية كل من يمكن أن يكون في ولايته مطبقا لتعاليم الإسلام، وأصبحت المؤسسات الدولية الولاة الحقيقيين للصغار والكبار.
ولحاجة في نفوسهم ليست بخافية على أحد أرادوا "إعضال" أكبر كم ممكن من حالات الزواج عن طريق وضع حدود لسن الزواج ما أنزل الله بها من سلطان، وعن طريق وضع عراقيل إدارية متذرعين بفتوى علماء الإسلام بالالتزام بالقواعد الإدارية، متناسين أن مستند هذا هو أن هذه الإجراءات الإدارية معينة ومتممة للغرض الشرعي. وأما إذا كانت معوقة للغرض الشرعي فلا اعتبار لها.
وإذا كان رضى الولي مع أنه ركن من أركان العقد يلغي اعتباره عند "الإعضال" فرضى الرجال "الأجانب" عن الزوجين أولى بعدم الاعتبار.
وأما إذا كان هؤلاء أجانب عن "الأمة" بأسرها، فإسخاطهم لاسيما في رضى الله -تعالى- أمر مشروع محمود لاسيما مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم) رواه أبو داود، وصححه الألباني.