تأنقت المرأة:
فاستعد كل ما فيها لاستقبال الهواء، نوافذ الجسد، ومداراته السرية وظلاله القاتمة، والثياب والحلي الفضية وعبقت رائحة الحبق من صدرها ممزوجة بزنخ الإبط، ودقات قلبها، هذا الإله الشرقي الصغير، المستبد استبداد طفل وحيد ومدلل ومع ذلك ظلت عيناها معلقتين بخنجر فضي يتدلى في الجدار.
- تأخر الوقت كثيراً . رفت الكلمات في البال ولم تحرّك ساكناً، استسلمت لأنامل سرية تمتد إلى صدرها، وتتلمس نهديها ثم تنزلق إلى الأسفل تداعب زهرتها النائمة.
تأنقت المرأة.
فبدت (ش) التي هي بكامل أبهتها، امرأة استثنائية طالعة من مخالب الثلج كالبخار الكبريتي، فراشه تتهيأ للطيران بين جنة ونار ولا وقت لديها للتراجع.
- ما الذي عوّقه؟!
وبدأت عذابات العطش تترمّد، بدءاً بالحلق، فالجوف، حتى أصابع القدمين، عطش معذّب وشرس.
...
وقف الرجل وسط الغرفة.
كان حافياً وعاري الجذع، تطل من عينيه أحلام حزينة كموكب من جنياّت شقية، ومع ذلك كان يقف مشدود القامة، يرقب شيئاً خفياً كالطمي النهري يتسرب في عصبه، فيخلق داخله حالة من الخصب والشبق المتعطش، فتتحرك معسكرات النمل الوحشي هناك في الأغوار البعيدة .
وقف الرجل فبدا(ع) الذي هو بكامل وحدته وخوفه وشوقه الحار إلى صدر أنثى ليرتمي عليه كطفل جائع، وبدأ حالة من الهذيان العادية.
- لهذه المشاعر لغة سرّيه لا يدركها إلا العارفون بحالاتها، وهي لا تسلم مفاتيحها إلا بعد وجد ومكابدات وأنا رجل عارف بها، حافظ لإشاراتها الغامضة، فاهدأ أيها الكائن الجميل، ولا تبالغ في اندفاعاتك الجموحة فثمة عطش يحاصرك، ثمة كون يضيق أو يتسع، ثمّة أنت ...وهي ... ثمّة.
توقف الرجل عن الهذيان، وكأن رجلاً أخر يتكلم، وتوقف جريان الهواء، فمّد رأسه من النافذة، فلم يشاهد سوى طفل صغير على الرصيف المقابل يلهو، فتذكر خوفه القديم من الاختناق، وأفاعي الماء، وكلاب الرعاة.
كانت المرأة شاحبة ومتقلبة تتكلم بسرعة، وتضحك في ساعات الفرح كطفله مسكونه بروح مذهلة وعشق مزمن للنهر والعصافير ونباتات الزينة، وكانت تحبّ الكلمات والقهوة والتدخين والنوم متأخرة، تدفن رأسها تحت الوسادة وتستحضر كل كوابيس الدنيا لترتعش خائفة، فالخوف صديقها الذي ترتاح إليه، كما يرتاح الغصن العطشان للمطر في الربيع، وكانت تحب زيارة الساحرات والمشعوذات وقارئات الفنجان.
- أحبك
قال لها(ع) يوماً، ولم تجب ظلت ساكنة ترتعش
- أنا خائفة
قالت(ش) ثم فرّت هاربة وهي تشعر بعطش طاغٍ إلى الهواء والفراغ، حتى لا تختنق.
....
كان (ع) رساماً
تلوث أصابعه الألوان، كما تلوث روحه هذه الرتابة القاتلة، ودبيب الوقت البطيء وكأنه الرتيلاء، زماناً أحب الأشياء وعاشرها، ويوم ملّ الوجوه والأمكنة وثرثرات الناس، عاش سباتاً طويلاً، يرسم بآلية، ويأكل، وينام، ويشرب العرق في المساءات وحيداً وهو يحلم بجسد امرأة يخلده في لوحة من لوحاته.
كان (ع) هادئاً.
حين هبّت عليه عواصفها، فبدأ الخراب، خراب القبح والرتابة والأشياء والأمكنة، حيث أعادت تكوينها من جديد فقال بعد الكأس الثالثة من العرق:
- إنها تعيد تشكيلي.تعيد لي الألوان البكر.
وكان يحس ببروقه القديمة تتحرك من جديد في التماعات وومضات تترافق مع ضحكتها، هذه الضحكة التي تطلع من قاع حلقها مغسولة بالماء وصافية كالكريستال العتيق، كما تترافق مع كلماتها السوقية التي تحب استعمالها في توصيف الناس والوقت والأشياء، والأحلام، وأحياناً للتعبير عن الإعجاب المطلق بفوضى العالم الذي يحيط بها.
- أحبك.
قال لها يوماً. ولم تجب، ظلّت ساكنة ترتعش.
- أنا خائفة.
قالت ثم فرّت إلى الخارج تركض كالوعلة الحذرة....
آخر مرّة التقيا قال لها (ع):
- هذه العلاقة لتي تربطنا لا أفهم لها معنى فأنا أحبك ومع ذلك فأنت..
فردّت (ش) بإصرار:
-إذن لنفترق بإرادتنا.
-لا.
صاحت برعب ويدها ترتعش.
-والحل؟!
-نفترق مؤقتاً، ونجرّب.
- نفترق مؤقتاً، ونجرب.
وافترقا مؤقتاً، لاذت هي بعالمها الخاص، وانصرف هو إلى العرق والرسم في المساءات الثقيلة. وكانت رحلة العطش.
تحركت المرأة تمن مكانها.
فتحت الباب ثم اندفعت لا تلوي على شيء، وكان الشارع خالياً في تلك اللحظة، والمقهى القريب شبه مهجور، ولم تسأل نفسها:
- إلى أين ؟
تركت لقدميها حرية الحركة والاندفاع إلى حيث تشاءان وكأنها منومه أو مسلوبة الإرادة، فهذا العطش أعماها، عطل فيها كل شيء، فهو يسكنها يضغط على أعصابها، فتلوب عيناها بحيرة وألم، وتتشنج أصابعها وعروق العنق، وينسحب الشحوب على وجهها قناعاً مستعاراً بلون الطباشير .
عطشان يا صبايا.
جاءه الصوت من مذياع الجيران فهزّه، أقلق قنوته الخاشع، فاندفع إلى الخارج زائغ البصر، مشوش الذهن، هذا العطش يقتله يحوله إلى كومة من الرمل الجاف. ولم يسأل نفسه:
- إلى اين ؟
كانت المرئيات من حوله تتحرك كأشباح في ضباب، بلا صوت مجرد كتل هلاميه، تأخذ مساحات من الفراغ، فتمنى لو كانت معه ريشته وألوانه لينقل هذه الإحساس الغريب بالعالم إلى لوحة بالتأكيد ستلقى الترحيب من الجمهور.
كانت (ش) تشعر بأنها تحلّق.
ترتفع بجناحين من حرير، والعطش يقودها في أودية عميقة بين ماء ونار، وكانت خائفة ومهتاجة، تعبر بين الظلال والألوان وكل شيء أمامها كبساط من صوف، الفضاء، والسهوب، والعماير، والشجر، والمخلوقات، والعطش لا يفارقها، يدق جرس القلب الصغير، ويضرب العصب بشدة.
- هذا العطش حارق وقاتل.
قالت ثم تابعت بعد حين باستسلام:
- هذا العطش اسمه (ع).
وتصور أمامها هذا العطش كرة من النار والضوء فاتجهت إليه باستسلام قدري وهمست:
- إنه قدري.
كان (ع) يحسّ العطش شمساً من قصدير ولهب.
رملاً يشويه القيظ، وكان يراه فرساً تدوس بحوافرها صدره وعصبه وتفري لحمه، تنثره في الحماد فيتبدد بين الرجوم، يضيع وسط عماء وحيرة.
- هذا العطش لا يطاق.
قال ثم تابع بحسم:
- هذا العطش اسمه 0(ش).
ومضى لا يلوي على شيء، عاصفة من الأوراق واللون والمشاعر الحادة.
وقفا وجهاً لوجه.
قالت (ش) باستسلام
أحبك .
قالها لها(ع):
واندفع تيار من الهواء يملأ نوافذ الجسد، ومسامه، وعصبه، وعبقت رائحة عطر غامض، ودفنت (ش) وجهها في صدره وكأنها تريد أن تغفو.