فوق:
مثل حمامة تخلص جسمها من بقايا الزغب، شعرت أنها دخلت طقوس اكتمال تكوّن الجسد، فاحتدمت في كيانها صراعات صغيرة، تميل بها نحو إشهار عواطفها، فعصفور صدرها يرغب أن يرفرف بجناحيه ليفر خارج عشه في فضاء أبعد من حنان الأم، وخلف عطف الأب.
ضاق بها البيت، وعجزت المرآة عن احتواء أفكارها، وما عادت ثيابها قادرة على إخفاء فوران الاكتنازات والتكورات، وهي تصهل مقتحمة عيون الليل، تستحم بنور القمر، فيتصدع منبهراً على لدن هذا العاج المغمود.
خملت الرغبة نحو دردشة الود مع الأخت الأثيرة، وفقد خيط الحرير الذي يربطهما نعومته، ولم تعد بسمة الأخ هي ما تتشوق أن تسبل عليها الجفنين لتهدهدها في سريري العينين اللتين زاد بريقهما، وصارتا بحيرتين أكثر عمقاً وصفاءً وتلألؤاً، يطفو على صحفتيهما همس الروح في نسيم الليل الحامل إليها طيف ضجة الرجولة، يقتحم عليها سور البيت، وعيون الأهل، وباب غرفتها.
غريب عن الدار، قريب من وجيب الفؤاد، تخفيه عن الدنيا، وتحافظ عليه، فيتكون لها أول أسرارها.
تسرب الطيف إلى الإمارة المغلقة، وبات اسماً تردده بحسٍ جديد، همسته شفتاها، التقت عيناها بعينيه، لمست كفه يداها، إنه الآخر الأقرب، تواجد أمامها ليقول لها بكل لغات الحواس، إنها ممشوقة وريّانة، وأن المارد المقمقم فيها قد صادف من يضعف ويركع ويسجد قدّامه.
فرد جناحيه وطار قلبها يزقزق في رحلةٍ إلى فضاءات الخمائل، وجنات الأحلام الدافئة، سلكت وارتعاشة بحّة صوته دروب الشجو والشجن، تغرد في أفيائها بلابل الصبابة وكنارات الفتون.
تحت:
أفاقت، فأرعبها أنه قد صار من اللازم سترها مع نصيبها، فقد تقدم لها من رأى أنه جدير بها.
ومضت مع مهندس الديكور، وقد اختارها مقدراً جمالها، فأغدق عليها ما يزيدها بهاءً، وقد صارت من مقتنياته، فزيّن بها جدار حياته، وجعلها طاووساً يختال زينة مثلما يزين بيته بلوحات وتماثيل ومنحوتات.
سألت نفسها ما الذي ينقصها؟. فكان الجواب ضبابياً، أو أنها أسدلت عليه ستاراً تكرر السؤال مخنوقاً، فأحست أنها في فراغ.
كبر السؤال، ألح وصار مشاكساً، يواجهها، يصدع رأسها، يقف لها في زوايا البيت، في الطريق، عند الجيران؛ بين الأهل؛ وسط المعارف؛ أمام المرآة، داخل أطر اللوحات. صار قرعاً وضجيجاً وشغباً يملأ كيانها، يمد رأسه من خزانة الثياب، تجده في العلبة بين الحلي، يتوقد على لهيب المدفأة، ويصب عليها الماء في الحمام، يجلس قبالتها على الشرفة، يتجول معها في الحديقة، يقفز أمامها من بين سطور المجلات، يرافقها في الخلوات، يستيقظ فيها صباحاً، ويمضي معها النهار. حاصرها في كل مكان، وجعلها في حالة حدود!.
أفق:
صار قرنفلاً.. سمعته لحناً.. أنصتت إليه شعراً، أعاد إلى خديها تورد الخجل، واعترى شفتيها ارتعاش ألق الحياة، ما عادت تستطيع أن تنكره، فهي قد وقفت أمامه وجهاً لوجهٍ؛ وفتحت له صحائف عينيها يقرأ فيها الصبابة والجوى، وحين غيَّبه الزحام بحثت عنه غير قادرة على منع نفسها حتى التقته. أحست أن بعضها قد رُدَّ إليها.
فاختزل فيها النساء مجتمعات، وتوَّجها أميرة، فأدركت أنه أعادها حمامة بيضاء. ثم... في لحظة أحست أنها ضعفت، فهبَّ الطاووس فيها، هارباً بها من خدر أريج القرنفل وعذوبة اللحن وسحر الشعر.
اندست بين النسوة المجوفات، خالعة تاج الإمارة، وتقوقعت مثل طائر الفينيق بين التماثيل والمنحوتات.
-: ذاك وهم وأضغاث. إنه الشيء غير الموجود.
عمق:
سيدي.. أهانوك!! جعلوك وهماً، قالوا: إنك أضغاث مهابيل، وأنك انتفيت من حياة البشر! هم وأدوك ثم أنكروا وجودك، قالوا: هي ذي الدنيا قد هرمت وشاخت، وليس لك عليها تأثير أو أثر، كذَّبوا أن رأوك، أو أنهم يوماً عرفوك، قد بغوا مثل ثمود، قل ذلك يا سيدي، وأن الدنيا لم تزل -بفضلك- صبية ما اكتمل ربيعها العشرون بعد، وأنك والموت حقيقة الأزل، قل شيئاً فهم لن يتوانوا عن حذفك من الوجود، وأنك متخلف جداً عما آلوا إليه، قل إنك لست وهماً، وأنك كبير شفيف ونيّر مثل الشمس والقمر، وأنك صافٍ لا شبيه ولا بديل لك؛ ولا غنى عنك، وأن نورك يعطي للعيش معنى يليق بالبشر. واضح بليغ مكثَّف مثل قصار السور.
أعرفك جباراً، لست طاووساً ولا طائر الفينيق، سرك في ضعفك. لا تنعكس، لا تمل ولا تبتئس. لا تموت وإن ذبلت، ولك من الأرواح ما لا يحصى، ومن التأثير ما لا يبلى، ومن القدرة على الانبثاق ما لا يحد، تتناسخ فيقال إنك قد تجددتَ، وما همك إن أسميناك مائة من الأسماء، فأنتَ أنت، يراك من صرت عيونه، حمامة بيضاء