حجارة الأرض تتأوه.. يصرخ التراب.. والأشجار تفرّ طيور السطح والساحة الواسعة، وتتطاير مذعورة.
الأسوار الشامخة تستنجد بالمآذن والقباب، وعجوز المحراب يرفع وجهه، ويسجد خاشعاً متضرعاً:
- ياإلهي.. احم بيوتك وأماكن ذكرك..
ينهض واقفاً، يسمع التأوهات والصراخ، وأصوات الاستغاثات، ويصل إلى أذنيه هدير سلاسل المجنزرات والحفارات.. وكعزيف الجن في الصحراء تهدر كلمة (شالوم) فاجرة ماجنة، تدنس الهواء والفضاء والأسوار، وتقترب من باب المحراب.
هل امتدت يده ولامس الخشب العتيق ذا الرائحة العطرة؟
هل اندفع ليرد الدنس عن الباب، أو ترك مكانه؟
لا يدري. كل ما يدركه أن الأصوات كلها اختنقت وتلاشت وصوته يعلو بكلمات الله، ورائحة الخشب الطيبة تضوع من حوله كروائح الجنة.
غادر الشيخ المحراب. كانت أشعة الشمس الصباحية، تملأ الساحة الرحبة، وتتسلق الجدران والأسوار، وتوشي مئذنة المسجد، توقف الشيخ يتأمل تحية السماء للأرض، قادمة على حبال من الضوء، تتوهّج فوق كلّ المرئيات.
وهاهي طيور الجامع الأليفة تعود رقيقة ناعمة، لتتناثر في الساحة على السطح والأفاريز، وعيونها الصغيرة ترافق خطوات القادم من المحراب.
خارج الأسوار استمر اللغط والضجيج، وهدير الآلات الضخمة يغتال السكينة والهدوء، ويشوه صفاء المكان وجمال الصباح الباكر، وفاحت في الأجواء رائحة الأرض التي تقتل.
أحسّ الشيخ وهو يطلّ من عل، أن الأرض التي تضرب بوحشية وتمزق منها الأحشاء. وكأنها تقاوم الحفارات والآلات العملاقة، وما لبث أن أحس وكأن هذه الأرض تبكي وتستغيث كما فعلت الحجارة والتراب والأشجار والطيور، وكلمة (شالوم) تتردد في الأفواه كنعيب الغربان.
مسح العجوز عينيه ووجهه ولحيته بكلتا يديه. كانت عبراته رغما عنه، قد أخذت بالتساقط، وغامت الأشياء وظللت الدموع نظراته، لكنه لم يكن حزيناً، وما قارب الخوف أعماقه.
إنّه.. واحد من الطيور التي تعيش في ظلال الجامع، وهو لا يذكر يوم فراق كاملاً، فما ابتعد يوماً عن محرابه أو ساحته أو جدرانه.
أجداده عرفوا الصليبيين والإنكليز، وفي ذاكرته تنبض أحداث وأحداث، تدور حول هذا الرمز المقدس الذي أسرى إليه عبد الله ليلاً، بأمر من الذي بارك حوله، فكيف يتسرب الخوف إلى أعماقه أو يستسلم لحزن؟
في صلاة الفجر انتظم الناس في الساحة الواسعة، ككل الأيام السالفة، وذكر اسم الله كثيراً، ثم اندفع المصلون كطيور الجامع، وانتشروا في مناكبها وآفاقها، سعياً خلف رزق أو غاية، كما فعل أجدادهم منذ مئات السنين.
ما كان رواد المسجد في يوم من الأيام، إلا كهذه الطيور الأليفة القريبة من الباب والمحراب، يحيون زوار كنيسة القيامة ويهشون لأتباع موسى، ويدركون أن المولى هو رب العالمين في الأرض جميعاً، لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى، والمسجد الأقصى هو بيت الإيمان والتقوى، فكيف يجرؤ مخلوق ويفكر في تشويهه أو هدمه أو تدنيس حجارته؟
يلقي الشيخ نظراته من مكانه فينفسح المدى المغسول بأشعة الصباح البيضاء، أمام النظرات الباحثة عن شيء ما. يتخيل رجالاً كأمواج البحر يأتون من كل فج عميق، على خيول كالعصافير، وجوههم مضيئة وسيوفهم تبرق كما الشمس يحيطون بالغزاة، ويطهرون الأرض ويهدهدون أثلامها وجراحها المفتوحة.
كانت الآلات والحفارات ما تزال تعمل أسفل أحد الأسوار، والعجوز يطلّ من أعلى، أعماقه مطمئنة راضية، ونسيم الصباح العليل يعبر إلى صدره، محملاً بعبير أزهار الليمون والبرتقال، وأجنحة تخفق فوق رأسه، وكانت ذاكرته تعمل. إنه مقدسي. جاور المسجد الأقصى صغيراً، وعاش في حماه كبيراً، ويعرف تاريخ الأيام والأحداث التي ألمت بوطنه، ويعرف أن المسجد الذي باركه الله، لن يذل أو يهان أو تمتد إليه الأيدي القذرة، ولهذا فهو يشعر بالاطمئنان والرضا مع أن جسده الضعيف، وبكل مسامه يتلقى بين اللحظة والأخرى، هزة أو خفقة أو رعشة، وأصوات صليل الحديد واصطدام المعادن تأخذ بالمكان والأسوار والأثير.
هدأت نظراته فوق تجمّع راح يتكاثر، في فوهة حفرة كبيرة تغوص عميقاً في الأرض، ورأى كبير التجمّع بثيابه الزاهية المميزة يحمل فوق الأكتاف، والفرح الوحشي يكتسح الملامح والحركات، ثم يعلو الصخب واللغط، ولكأن الحفارين قد اكتشفوا كنزاً أو منجم ذهب.
شدّه المشهد واعتراه إحساس عابر بالخوف، وخاطب نفسه وجلاً: "لعلهم وجدوا شيئاً، أثرا، يا إلهي.."
تحوّل الشيخ إلى مجموعة عيون وآذان. وتقاربت طيور المسجد، وكأنها تتوقّع خطراً قادماً، وراح التجمّع الذي ضمّ جميع الحفارين يهدأ رويدا.. رويدا، وذو الثياب الزاهية المميزة يقعي قريباً من فوهة الحفرة الكبيرة.
ما حدث لم يكن منتظراً، ولعل ما حدث كان فوق كل توقع، ولعلّ الرجل المطلّ من أعلى كان الإنسان الوحيد الذي شاهد ما حدث.
رأى العجوز يد فتى في مقتبل العمر، تمتد عبر الفوهة المواجهة للسماء، وتقذف الرجل الذي حمل على الأكتاف بحجر أبيض، فيشج رأسه، ويتدافع الذين حوله كمن أصابهم مس من جنون يحيطون به ويحملونه، ولا يلبث المكان أن يقفز من الحفارين والآلات وذي الثياب الزاهية.
بخطوات بطيئة متأنية، اتجه المقدسي إلى خارج الأسوار.
لم يكن يقصد مكان الحفر، ولا الحفرة الكبيرة، وما فكر.. في هذا..
كانت عيناه قد حددتا مكان سقوط الحجر، وكان بياضه الناصع يعكس أشعة شمس الضحى، وعندما أصبح على خطوة من المكان، حنى قامته وأخذت إحدى يديه الحجر، لترفعه بخشوع وإجلال.
تأمله لحظة ورفع وجهه نحو السماء، والحجر يتوسد اليدين المفتوحتين نظيفاً نقياً، لا أوشاب عليه من تراب أو دماء، وكان العجوز يعود بنظراته إليه، ليقرأ ما كتب فوق أديمه الحليبي:
"بسم الله الرحمن الرحيم.. سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا. إنه هو السميع البصير".